hit counter script

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - الدكتور نسيم الخوري

"لِنَدفْنِ الأحقاد والثأر" في لبنان بريّة الأمم

الإثنين ٦ حزيران ٢٠٢٢ - 00:11

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

إستمع للخبر


قال لي أكثر من مرشح للبرلمان في لبنان أنّه سقط في الإنتخابات، وفتح له حساباً مصرفياً لم يدع فيه ليرة واحدة مع أن القانون يسمح له بإيداع 750 مليون ليرة. وتابع: كيف لكم أن تُثبتوا أنّني صرفت في خلال حملتي الإنتخابية 750 مليون دولاراً أميركيّاً. قال متحدّياً لي بصفتي عضو هيئة الإشراف على الإنتخابات التي لا شرفة وحيدة بين يديها سوى مشاهد السرقات وتهشيم السلطات وخلطها من داخل ومن خارج للإمعان بالتسلّط وتفتيت الشعوب وكرامات الناس وكأننا في بلدٍ لقيط وسائب في بريّة الأمم.

استعرت عنواني "لندفن الأحقاد والثأر" من عقل الحبر غسّان تويني رحمه الله. تهدّج به الرجل المستقيم الرأي أمام نعش بكره الشهيد النائب جبران في الـ 2005 ثمّ تصدّر العنوان كتاباً له بالفرنسية. قصدت العنوان بصيغة الجمع في بؤرة الأحقاد الملغومة لبنان الوطن المُعادي لشعبه ولذاته ولتتشرّع أبواب الثأر والإرتهانات والعمالات والمؤامرات بفصولها المتعددة حتى أقطار الأرض.

أطرح وطناً أمامكم ساحات من كلام تختلط فيه الأقوال بردود الأفعال ويُدمج المنطق الفلسفي والفكري والكتابات الحرّة بالدين والديمقراطية بالطائفية في عصفورية لا هوية نهائية لشعبها سوى الصراخ والجوع والنقيق وانتظار قروش الأولاد والأحفاد من الخارج. تصوروا أن وزير السياحة انتصر بأن أمر الفوترة بالدولار في المطاعم والمقاصف والمراقص في بلد السياحة والإصطياف.

لا جذور واضحة للإنتخابات البرلمانية الأخيرة وما يليها من استحقاقات سوى الطائفية التي أفرزت تنازع الأكثريات والأقليّات لتدمغ السياسة والإجتماع والحياة بتعظيم الإختلافات والفروقات والتمايزات والشعور بتبادل الإضطهاد والغبن والرعاية أو الرفض. الألسنة ممطوطة في التهميش والإستئثار والذميّة والهيمنة ثقوباً من "جحيم" تتوالد فيه الأحاديث الطافية لتنبش جذوره بين المتكلمين بحلول التقسيم والفدرالية والإزدواجية والحياد الإيجابي وتتنتهي كلّها بالشتائم والسباب والعداوات.

تبدو الديمقراطية اللبنانية مصطلحاً مستعاراً ومغلّفاً بدكتاتوريات القهر ورفض الآخر واستدعاءات الحروب المتجددة أو المتناسلة للهجرة والتهجير.

لم تعد الديمقراطية هنا مصطلحاً مستقلاًّ، يمكن استعماله ونقده في الأحاديث والنصوص، من دون صفات تشوّهه مثل الديمقراطية التوافقية والمستوردة والمسلّحة أو ديمقراطية الطوائف بما يسلخ الواقع، بحكم تراكم التجارب والخبرات الأليمة، عن مضامينه الأصيلة فتصبح الديمقراطية شكلاً من الديكتاتوريات الموزّعة بين الأحزاب والطوائف والمذاهب والأتباع. ينتج عن هذه الإستعمالات خلط الديمقراطية كمفهوم بالحرية والقوة والسلطة والحق والسيادة والإستقلال..الخ.

ويجد الباحث مثلي الذي تجذبه الدعوات العامّة الموسمية المتجدّدة إلى الحوار مشغولاً بتصفية تلك المصطلحات وتفصيلها وتنشيفها تحت شموس العقل والتواضع ليكتشف وكأنّ حكّام لبنان أسرى كتاب "الأمير" لمكيافللي المقيم تحت وسائدهم، وفيه أوصى الكاتب بالضرورة القصوى لخلط الدين بالتفلسف وبالسياسة كمفصل أساسي حفاظاً على السلطات عبر إيقاظ العصبيات الدفينة ودغدعتها شعبياً وتسخيرها لأغراض دنيوية لا تمتّ إلى الدين والمذاهب والسلطات الالهية بصلة منطقية.

يتجوّف مصطلح الديمقراطية، إذن، عند هذا الخلط الذي يجعل من العسير فهم توليفات القوانين الإنتخابية والسياسات العامة وطرائق الحكم والأحداث السياسية عند الممارسة لا بالقول الموزون والخطب التآلفية والداعية إلى الوحدة الوطنية. ليس هناك من وحدة أو تفاهم في لبنان المدّعي تاريخيّاً بأنّه نقطة المصافحة بين القارات الثلاث، بل النقطة الأخيرة التي تكاد تكون الوحيدة الغنية باختبارات تدامج الطوائف والأديان ومحاولات صهرها إنشائيّاً في نصوص مستحيلة التطبيق خارج الأصول الثابتة القديمة.

الطائفية هي المحصّلة غير الشرعية لانفصال الدين الطبيعي عن الدولة. ولو كان لبنان، مثلاً، دولة دينية، بالمغزى التقليدي للمفهوم، لفلشت طائفة ما ثوبها الديني فوق الوطن أبداً، ولكان ممكناً، نظرياً لا عملياً، حلّ معضلة الأقليات. لكن لا ضير من تجليس الفهم اللبناني للديمقراطية وللجوار والحوار درءاً للدماء الراكضة عبر التذكير بقدسية الحوار عبر سطورٍ من اليونان القديمة:

بلغت أيّها الأبطال اسبارطة ذروة حضارتها بين 1650-1500 ق.م. لتنهار في الـ 1450 ق.م. وغرق اليونانيون قروناً أربع في الظلمات، وتحولت بلادهم مجموعة من المدن المتناحرة قبل أن تخرج مجدداً الى السياسة Politiké باليونانية، ومعناها إدارة شؤون الناس.

وشهدت اسبارطة مجلساً قوامه ثلاثون يونانياً ينتخبون مدى الحياة لإدارة الحكم، الأمر الذي استتبع أزمات كبرى وحروباً ضدّ طبقات رفضت تقاسم السلطة، وكان المعبر الأساسي في خلخلة السلطة وتفكيك القوى بالتماس الحوار في مدن اليونان في القرن السادس ق. م. وفق الحرية والمساواة والإعتراف بالآخر. غدت أثينا مهد الديمقراطية وعرفت بالـ Ecclesia الكلمة التي منها اشتقت كلمة Eglise أي الكنيسة بمعنى السلطات الدينية بأشكال لم تنجح في فنون الإقناع بعدما احتلّ الكلام الصريح فنون السياسة.

عادوا مستلهمين سقراط الذي لم يترك نصوصاً (470 - 399 ق.م) بل عبر تلميذه إفلاطون في كتابه: "الجمهورية" حيث أرسى الحوار السبيل العظيم لبلوغ الحقيقة لا بالكتابة بل بالإتّصال المباشر بين النفوس التي تتوارث القتال. قاد هذا المنهج السقراطي إلى تفسير الوضوح الذاتي لدى الأطراف المتحاورة ووعيهم بأنّ معرفتهم لا أمزجتهم هي الحقيقة. المهم أن يطبّق المحاور مبدأ: "أعرف نفسك بنفسك" كثورة صغيرة تُعرّي ذاته أو تعرّفه إليها. لماذا؟ لأنّ الحقائق موجودة كلّها أمامنا معقّدة وصعبة لكن المعرفة ممكنة وطبيعي أن تتعثّر الحوارية وتتكرّر خصوصاً لدى من يؤكّدون ذواتهم بالكلام، وهذا ما عالجه سقراط بعبارتين: "إعلان الجهل" الذي يصاحبه التهكم الخفي والتظاهر بقبول رأي الطرف الآخر وقصفه بالأسئلة لأنّ السؤال هو الحياة بينما الجواب هو الموت والتشبث في دائرة السؤال تكسبك الحوار بكشف الحقائق.

  • شارك الخبر