hit counter script

باقلامهم - جورج عبيد

إلى الأمّ مريم في يوم رقادها وانتقالها

الأربعاء ١٥ آب ٢٠١٨ - 08:27

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

يا مريم، يا نشيد الحبّ والحنين، يا إطلالة الأبدية في لحم السنين، لتزيل صراخ الموجوعين، وتبطل تراكم الأنين. يا أمّ النور والحياة، كيف للتراب أن يغمره الضياء ويعطى أن يتحرّر من وسخ تاريخ شقيّ ووحل متحرّك فيه، قاد العالم إلى الانفجار وجذب الجسد إلى الانتحار، باستكانته وإقامته في ليل الخطايا الجمّة؟ لقد أمضيت تسعة وأربعين سنة من عمري في أزمنة التبدّلات السياسيّة والجيو - سياسيّة في عالم استهلكته مشاريع الحروب والتسويات، وفي تبدّلات شخصيّة وجسديّة مررت بها من الطفولة إلى المراهقة والشباب وأنا على أبواب الكهولة، وأنا أتساءل كيف لي على المستوى الشخصيّ والعام، أن ألد المسيح الربّ، إسقاطًا لما قاله القديس العظيم مكسيموس المعترف، "كلّ نفس بشريّة عذراء تلد المسيح؟
بلغ صراعي مع نفسي ذروته في احتشاد الأسئلة الكثيرة بمضمونها الكثيف. الكاتب يسأل وكلّنا يسأل ما دام العقل يعمل والفكر مصدر لكل استلهام والقلب مصبّ الأشواق ومطلقها. وفي كلّ هذا كنت، مريم، المرأة المصطفاة لتهبط إلى دنياي كالنيازل الجميلة المتساقطة في الليل، ترتطم بالأرض، أو كفردوس متحرّك يبحث عن مستقر له ليصيّر النفس البشرية مريمَ ممسوحة بالنعمة والحقّ، والأرض سماء لأزلية لم ترد مرّة واحدة أو لحظة واحدة الانفصال عن تاريخ بشر أوجدتهم هي وسكبت سرّ حياتهم فيهم لتصير حياة لهم. ولمّا خطئوا وسقطوا كان آدم الجديد أي المسيح مرسّخًا لتلك الأزلية في الهياكل العظمية لتبدو على تألق وجمال وأنت يا مريم ترسخين الأزلية والأبدية حتى بعد صعود ابنك إلى السماوات بالطهر والعفاف وأمومة هي كلّ الحنان.

سرّك سيدتي أنك فصلت بين تاريخ استبدّت به الغواية والخلابة بظنّ أنه كلّ الجمال، فيما هو جمال عبثيّ فتنويّ، وتاريخ آخر حمل إليه ابنك طاقة الحياة والقيامة بتجسده وتجواله في فلسطين وصولاً إلى جنوب لبنان، حيث كنت بدورك تسكبين فيه جمالاً آخر ليس فيه خلابة وغوايات، بل فيه مريمية أليفة النور، لصيقة الإنسان الجديد، والجدّة هي المسيح المنتصب في وسط التاريخ وأنت ترافقينه برقّة حتى لا نتوجّع ونعرى، بل حتى نشفى ونرتفع كما ارتفعت اليوم إلى السماء.
ليس لي أن أخاطبك وكأنك محجوبة في مكان قصيّ. وكأن الجنس البشريّ لا يتلمسّك ويتحسّس بحضورك البهيّ في أحشائه بل في بطن التاريخ. الأبديّة كلّها كانت في الأصل مشدودة إلى امرأة بهيّة في الحسن أفضل من بين البشر لتلدي له المخلّص حتى يصير فيه، وقبل أن يصير كان العالم فيه رؤية وفكرة، وقد شاءه المعلّم الإلهيّ وجودًا ينزل فيه ليصيرجسرًا إلى أبيه السماويّ. لقد كنت المرأة-المستودع الذي فيه نزل الكلمة وتجسد منك في التاريخ. ليس غريبًا يا سيدتي أن تعبري إلى حيث صعد يسوع، فهو أصعدك ولم يحجبك عنّا، نقلك ولم يتركنا يتامى من دونه كمسيح مخلّص ومن دونك كأم هي أكرم من الشاروبيم وأرفع مجدًا بغير قياس من السيرافيم، نقلك إلى وجهه الأكرم بالفعل وجعلك لصيقة آلامنا وأوجاعنا، لأنّ الحنان ينبوع بلوريّ يتدفق لنرتوي منه، أو لمسة حبّ تتفجّر وتتفتّح في النصاعة حتى لا يعتصرنا ألم وموت.

بل اسمحي لي أن أخاطبك كأمّ استنزلت الرحمة فينا، وكشفيعة لا تغفل في الشفاعة وتهبّ في النجدات. هذا عالم يا مريم تمزّقه الأهواء والمصالح والحروب، وقد بلغت مبلغًا لا يطاق من تدحرج القيم الأخلاقية والروحية والإنسانية، لنبدو بلا إله وبلا مسيح يتحرّك فينا ويحرك الجمال والخير والحقّ ليتفجّر في مسرى التاريخ وفي كلّ نفس بشريّة. هل تمطر الدنيا وردًا بدلاً من الأشواك؟ هي قادرة إذا حضرت في وسطها باسم يسوع فيما أنت ملتحفة الضياء وجهك مكلّل بالشمس والقمر يشعّ من عينيك. الأمومة فيك تمطر وردًا وترشح بهاء وتسمو عل قباحاتنا وترابيتنا. لقد ضقنا ذرعًا من تفاهات العالم وفلسفته المتأتيّة من قوّة المال والسلطة والجنس، والمفسدة النفس والروح، ولم نجن منها سوى الإجرام والبطش والموت. لقد بتنا نخشى كمسيحيين أن تسحرنا طقوس كثيرة ظننّا أن المسيح المخلص متحرك بها فإذ بها طقوس، بمعنى أن في مسرى حياتنا بتنا نخشى أن نكون قد بدونا مسيحيين بلا مسيح.
وحدك يا مريم بما ملكت يداك من طهر وعفاف قادرة على أن تعيدي إليه النفحات الإلهية، أبناؤك وهم أخصّاء يسوع ينتظرون بشوق كبير أن يروا وجهك حيث أنت، تمنعين عنا الاضطرابات النفسيّة والجسديّة والأمميّة، وتحررينا من الوجع الكونيّ. لقد ساهمت بخلاص أمم من مغول وفرس وآخرين، مدينة القسطنطينيّة شاهدة، فأنشدت لك إني أنا مدينتك وقد جعلناها إني أنا عبدك يا والدة الإله، أكتب لك رايات الغلبة يا قائدة محاربة وأقدم لك الشكر كمنقذة من الشدائد... ما نحتاجه يا مريم أن تنقذينا اليوم من صنوف الشدائد وتفتحي لنا أبواب الملكوت.

أمّا أنا المحتفل بعيد رقادك وانتقالك إلى السماء، فأرجو منك وأتوسل إليك أن لا تحرميني وتحرمي عائلتي من متعة أمومتك لنا. لم تعد لي أمّ بالجسد، فغدوت أمّي الني أسند رأسي إلى صدرها لأعب منها الطهر كل الطهر على الرغم من الخطايا التي تبكتّني. أ‘طني يا مريم أن أبصر في دنيايا فراديس المحبة بيني وبين أسرتي وبيني وبين العالم أجمع. لا تحرميني من بهائك فهو سلامي ومتنفسي وطريقي إلى يسوع الحبيب. في مسيرتك كنت تشيرين إليه، وفي رقادك ولدت بين يديه فأعطني أن أدرك رحمته وأعود إلى وجهه الأقدس قبل أن يغمرني التراب.فأنا يا مريم فقير إليك وإلى الحبّ فيك وجائع إلى جبز يسوع وهو خبز الحياة.
سلامعليك في عيدك الأكرم وليكن رقادك حياة لنا، فنحن على خطاك متجهون ولنا الرجاء بأن نولد معك في المجد.

إنه مجد يسوع... مجدك... مجدنا في ملكوت المحبة.
   

  • شارك الخبر