hit counter script

باقلامهم - جورج عبيد

كتاب مفتوح إلى السيد البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الكليّ الطوبى والجزيل الاحترام

السبت ١٥ تشرين الثاني ٢٠١٧ - 16:46

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

سيدي صاحب الغبطة،

يفرض عليّ الحبّ الكثيف لكنيسة مشرقيّة تجيء من أرض الله، ممدودة على أجنحة السلام بين براد وقورش وحمص وجبال لبنان، أن أعود إليك وأنت المستوي على أريكتها حاملاً إنجيل المحبة في يد وصولجان الرعاية في يد أخرى، وأنت لست بطريركًا عليها فقط بل يطريرك لكلّ من يحيا في الحقّ وينشده في دنياه.
بدأت كتابي بفعل يفرض عليّ الحبّ، فالحب المنسكب من لدن أبي الأنوار لا يتجلى سوى بالحق والخير. وكنيستك، سيدي، حوت الخير والحقّ والجمال في لحظة تبنيها لقضايا المعذبين والمتألمين ليس في لبنان بل في هذا المشرق وقد سفك دم مدرار وغزير على أرضه وجبل بترابه حتى لا نتشتّت ونتبعثر ونذوب، بل لنبقى ونستمرّ حاملين في أجسادنا سمات الرب يسوع ومولودين من نوره العظيم.
ليس غريبًا أن يخاطب أرثوذكسيّ أبًا للكنيسة المارونيّة، ومن دون إملاء، حاشا. فقد قال كبار من الكنيسة الأرثوذكسيّة وهم مفكرون وسياسيون من سوريا ومصر وفلسطين، بأنّ الموارنة في لبنان صمّام أمان للمسيحيين العرب، ورئة الحرية لعالمهم، ومدى لتمدنّهم، ومطرح لاكتشاف هويتهم، ومتى سقطوا سقطنا، وإذا تمزقوا تمزقنا. وفي كلّ هذا نحن يا سيدي كنيسة واحدة للمسيحيين العرب على الرغم من كلّ تنوّع طقوسيّ وتنظيميّ، هؤلاء المشلوحين على بحور من الظلم والتعب والراجين كلّ سلام وهناء. هكذا كتب الأب جان كوربون، والكنيسة المارونية كما الكنيسة الأرثوذكسيّة مع آباء عظام من أمثال ميشال حايك ويواكيم مبارك وجورج خضر، أبدت كلّ انفتاح على الإسلام والمسلمين، وتجلّت هذه الرؤية ببهاء عظيم في ذروة الفلسفة الميثاقية ضمن الحيّز السياسيّ اللبنانيّ، وذاق المسلمون طيّباتنا وعاينوا رقّة عيسى في عيوننا وشهدوا لنوره من عيوننا، وكل هذا كان يتمّ في لحظات تأسيسيّة بل تكوينيّة لوطن قررنا منذ البداءة أن نحوّله من وطن نزوج ولجوء إلى وطن مكتمل الشروط متكامل الأطراف يعيش أبناؤه مواطنتهم بلا آحاديات نافرة ولا ازدراءات فاسدة، وبلا استكبار عبثيّ قاتل لم ينتج سوى العزل والانعزال وبنتيجتها دخلنا جحيم الحروب المتنقلة ليلتهمنا جحيم النيران المستعرة مزهقة الأرواح ومدمرة الممتلكات ومقعدة البشر فجعلهم سقماء مدى الدهر.

سيدي صاحب الغبطة،
أنطلق من تلك المقدّمة، لأنني على يقين أنّ الأزمات العاصفة بنا، ما بلغت ذروتها وما رمينا في لججها كما هذه الأزمة التي نكتوي بها. لقد بلغنا الكوارث وتحاربنا وتواجهنا فيما بيننا وتمزقنا إربًا إربًا، ونطلب الغفران لأننا كنا بلا وعي ولا فكر ولا أخلاق، أو كان بيننا من ينفذّ إرادات الآخرين على أرضنا أو يستعملنا وقودًا لمصالحه بلا رحمة بل بعسف قبيح. وعلى الرغم من ذلك حافظنا على كياننا، ولم يعتد على كرامتنا، ولم يعتقل مسؤول من عندنا من أي بلد مرّ في لبنان، ليؤمر بالاستقالة، من دون إنكار بما كان لعهد الوصايات منذ عبد الحميد غالب إلى عبد الحميد السراج مرورًا بعبد الحليم خدام وغازي كنعان ورستم غزالي من أدوار في إرغام المسؤولين اللبنانيين على الطاعة وتنفيذ الأوامر، ويحاول اليوم ثامر السبهان استكمال تلك الحقبة بعجرفة منقطعة النظير، محاولاً إسقاط لبنان في لجج فتنة مسيحيّة-إسلاميّة وفتنة سنيّة-شيعيّة.
لكنني كمواطن لبنانيّ وكاتب حباه الله نعمة الكلمة، لم أشعر بالقرف والمهانة والإذلال إلاّ حين اعتقل رئيس حكومة لبنان سعد الحريري، نجل الشهيد رفيق الحريري، ووضع قيد الإقامة الجبريّة. قمة المهانة يا سيدي مكنونة في هذا المشهد السوداويّ الحقير بالذات، وقمّة الرفعة والشمخة تجلّت بمواقف فخامة رئيس جمهوريتنا المفدّى ميشال عون تواكبه قيادات البلاد والشعب اللبنانيّ بمكوناته إلا من ضلّ فأمسى ابن الهلاك. كلّنا اليوم يا صاحب الغبطة سعد، وسعد هو نحن، سواء اتفقنا معه في السياسة أو اختلفنا لكننا جميعنا سعد الحريري ونعتبر أن السعودية وضعت نفسها في حرب معنا فما معنى زيارتك إليها يوم الاثنين؟
ولكن مهلاً! سيكون لها معنى تأسيسيّ وتكوينيّ للبنان وللمرحلة المقبلة إذا انت سيدي قررت ذلك ضمن مبادرة، أقترحها عليك بلا إملاء ومن على هذا المنبر المضيء، ومنها قد يشرق لنا فجر جديد.وهي بحجم فقرة واحدة لا أكثر ولا أقلّ:
أيها الإخوة السعوديون، يطيب لي كبطريرك على أنطاكية وسائر المشرق للموارنة أن ألبي زيارتكم بسرور كبير، ولنا علاقات تاريخيّة مضيئة تركت أطيب الأثر في العلاقة بين لبنان والسعوديّة، غير أنّه وبعدما وضعتم رئيس حكومة لبنان سعد الحريري ضمن الإقامة الجبريّة فيتعذّر عليّ بأسف كبير تلبية دعوتكم إلاّ بشرط واحد ووحيد، إطلاق الرئيس سعد الحريري من إقامته الجبريّة موفور الكرامة والعناية وعودته إلى لبنان كرئيس لحكومته، إلى بيته وعائلته ومناصريه ومحبيه، عندها وبالتشاور مع رئيس الجمهوريّة يقرّر ما إذا كان سيبقى على رأس الحكومة الحالية أو يستقيل حينئذ لرئيس الجمهورية أن يدعو إلى مشاورات إلزامية ونكمل عجلة الحكم".
هل تتصوّر يا صاحب الغبطة ما سيكون وقع هذا الشرط على السعوديين وأنت مدعوّ لزيارتهم قبل حصول هذا الاعتقال؟ صدقني سيكونون بين حالين:
1-إمّا أن يصرّوا على دعوتك ويطلقوا حبيبنا سعد، فيكون إطلاقه هدية العيش الواحد في لبنان لتزورهم باسم كلّ اللبنانيين شاكرًا ومعبّرًا.
2-وإمّا أنهم سيحولون الزيارة إلى مسرحية خداع ومكر، يستدرجونك إلى ما لا يريده أحد لنفسه الزيارة، كما حاول القائم بالأعمال السعودي البخاري أن يفعل مع رئيس الجمهورية حين دعاه لإرسال وزير الخارجية جبران باسيل للقاء الرئيس الحريري، فيما رئيس حكومتنا يبقى قيد الإقامة الجبرية، الحديث معهم عبثًا وعبئًا علينا جميعًا. وكرامتنا كمواطنين ومسيحيين من كرامتك، ولا يمكن أن نسمح بهتكها. يريدونك أن تزورهم فليطلقوا سعدا ويتركوه وشأنه. الكلام مع سعد لا يكون في الرياض بل في بيروت وبعبدا وبكركي، في لبنان الوطن الحبيب.

هذه المبادرة ضمن تلك الفقرة سيدي الجليل إنقاذية لسعد الحريري نفسه ولوطن تهاوى في الأزمات ولعهد حقه أن ينطلق بسلام مع رئيس مميّز برؤاه. فلا تسمح لهم بأن يوقعوك في مثالبهم وهم يظهرون مخالبهم، ولا يأبهون بخصوصيتنا الفريدة والبهيّة في المشرق بأسره، لقد أنكروا تاريخهم وأمست المملكة وكما وصفتها جريدة النيويورك تايمز مملكة محمد بن سلمان. عد سيدي إلى بيان المستقبل وإلى كلام الوزير نهاد المشنوق، عد إلى الأدبيات الصادرة بعد اعتقال الرئيس الحريري، لترى كم أنّ الهوة باتت سحيقة بين الصوت والصدى بين الوجه والمدى، وكن على ثقة وبكل وضوح، بأن تلك المبادرة إذا ما تبنيتها ستحترم بكبر ويلاقيها العالم باحترام وتهيّب، ويتعاطى معها كمعطى حقيقيّ متكامل العناصر الطبيعيّة والتكوينيّة والتمثيليّة لكلّ اللبنانيين. تلك هي معالم القيادة سيدي ونحن نراها فيكم ظاهرة، ومن شأن هذه المبادرة أن تعيد اللحمة ما بين المسيحيين والمسلمين، وتجسد المعنى الميثاقيّ-التأسيسيّ في الداخل وقد كانت كنيستك المبادرة إليه، وتقود لبنان نحو برّ الأمان. كن على ثقة أنك من خلالها ستعلو نحو مصاف المنقذين العظام وأنت تعلم ما كان يقوله صديقنا المشترك السفير فؤاد الترك رحمه الله: "الذكيّ هو الذي ينقذ نفسه والعبقريّ هو الذي ينقذ أمتّه". الأمّة يا صاحب الغبطة منتهكة كرامتها بوجود رئيس حكومتها في الأسر فحرره بمبادرتك وأنقذه حتى تتسربل بهاءها ويتجلى ضياؤها ولا يخالطها ليل حالك وعسف هالك.

سيدي الجليل:

تلك المبادرة برأيي أساس كل شيء فحرّر سعدًا حرر لبنان ونظامه بها. أرجوك، لا تذهب، فزيارتك بلا معنى قبل عودته، لا تخف أن يطردونا من هناك فكل عقل من أحبائنا أشرف من أي شر وبلية يريدون إلصاقنا بها. عقولنا سبب لانبثاث خليجهم، ونحن نرتزق بكرامة ولسنا بمتسولين على أعتابهم ومتسكعين على أبوابهم. كلنا اليوم سعد الحريري، والمعنى الجوهريّ أن يعود، والمعنى الأكبر بالنسبة إلينا أن تعود السعودية إلى موقعها التاريخيّ والمعتدل والمحافظ على علاقتها مع المسيحيين والمسلمين.

يا صاحب الغبطة، اعذر قلمي، فلولا الحب والحقّ لما ولدت تلك الكلمات واتجهت إلى قلبك الكبير وعقلك الراجح، وأنا عى ثقة بأنّك تتقبل الحبّ بسماح ورضى وتفهّم، فتلك سمتك العظيمة، والسلام عليك يا محب العدل والحق والسلام.

  • شارك الخبر