hit counter script

باقلامهم - مازن عبّود

حكاية عيد

الأربعاء ١٥ أيلول ٢٠١٦ - 06:04

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

كان لكل عائلة عيدها يا اولادي في ازمنة جدتكم، وقد كانت البلدة توافي كلها لتقديم التهاني للعائلة المحتفلة بالعيد. فأعياد القديسين كانت تتداخل مع اعياد البشر، فتصير اعيادهم ومناسباتهم، فتلامس القداسة الناس فيتذكرون انهم مشاريع قديسين ايضا. فقد كان القديسون الراقدين ينطرون ممن يتحركون من بشر على مسرح الحياة. كان هذا عندما كانت الكنائس تبنى من حجارة الناس، فكان كل فرد يضع حجرا، وكل عائلة تصنع مدماكا من مداميك الكنيسة تستخرجه من حجر صلب من حقولها. كان الناس ببساطة الحجارة والمداميك، وكانت الارض امهم وامراتهم واختهم. ففي تلك الازمنة لم يكن معهودا في قرانا ان يوافي غني فيمول بناء بيت الله وجماعته على نفقته الخاصة. فما هو للناس يبنى من اموال الناس ومن فلوس الارامل والمعوزين كي يكون ايضا لهم ويشعرون بالانتماء اليه وبانه منهم ولهم، فالله ما كان يقيم الا في هياكل المحبة والتعاون والتفاهم. لم يكن الكهنة مثقفين ولا كانوا يحملون شهادات في اللاهوت من كليات معروفة بل كانوا هم معروفين وينتقون على اسس حسن السيرة والاستقامة ووفق قواعد تلك الايام.

وكان الناس في تلك الازمنة يصنعون القرابين، مضى جد ابيك يرمي بذار القمح في وحول الارض والبراري، وكانوا يلقون معها آمالهم. وتموت البذار مع الشتاء والثلوج وتنوح عليها العواصف قبل ان يوافي الربيع وينبت ما بذروا قمحا يناطح زرقة السماء ويربط الوحل بالزرقة عبر الخضرة. وتذهب الشمس قبب القمح، ويحصد كي يضرس على بيادر التوبة، فيصير طحينا ابيضا كبياض التوبة. وتروح جدتك تعجن منه قرابين من شكر ومحبة لمن اعطى وبارك. نعم، كانت النساء تعجن الحنطة وتملحها بدموعها، وكان الخمير المحفوظ في الخزائن من بركة عيد الغطاس يخمر العجين. ويخبز العجين على مواقد الورع والايمان التي كانوا يوقدونها من حطب الاشجار الصمغية، فيتعطر خبز التقدمة بعطر العناصر قبل ان تبلله الامهات بماء وردة مسح بطيبها رجلي المعلم. كان خبز الله يوزع على الاهل والجيران، ويقدم الى الهيكل فيتقدس ويصير طعاما يدخل الروح في الجسد المائت، ويتجدد الوعد ما بين الارضيين والسماويين، كما يقولون. نعم فالله يسكن البشر، في ايماننا، ويقدس عناصر الكون يا ابنائي لتقديسهم. كم كان طعم قربان جدة والدكم لذيذا؟ وقد كان يدمغ بختم مقدس كتب عليه باليونانية القديمة وموشى بالرموز. والختم هو من يجعل من الخبز قربانا يا ولدي.
قد كان عيد ميلاد السيدة عيد عائلة جد ابيكم من امه كما كان عيد رفع الصليب عيد انسبائهم، وكانت جدتك واخواتها يتحضرن للعيد قبل اسبوعين. فكانت تغسل الطرق والازقة المؤدية الى البيت وتحضر الاطعمة اللذيذة، كما كانت القلوب تغتسل قبيل العيد، فيتصالح الناس مع بعضهم، فما كان مقبولا ان يمر العيد في الازقة الموحلة. نعم كانت القلوب تغسل قبيل العيد كما الطرق المؤدية اليه. والعيد كان صلاة غروب واغربينية وقداس شكر لمن اعطى، ومن ثمّ غداء يدعى اليه الكاهن والاعيان والعائلة. وتوزع الضيافة من زبيب وتين مجفف ونقل وقربان على المهنئين ونبيذ الكرمة المحلى. فالموسم كان موسم ولادة ام الدنيا، كان موسم ولادة حواء الاخرى.
ما زلت اتذكر جديّ يا ابنائي عند حلول هذه المناسبة واصلي لاجلهما. فصلوا انتم لاجلنا يا ابنائي اذا ما صرنا يوما في دنياهم. اصلي من اجلهم، ولن يغيب عن بالي شعر جدتي ايفا الابيض المربوط عكة ولا طلتها البهية ولا مشيتها كفرس ولا نظرتها الزاهدة. فهي كانت حتى مماتها العروس الغريبة عن الحي الفوقاني القادمة من حارة التحتا. كانت جدتي تقرأ الوجوه ولا تعير الكلمات اهمية بل تلتقط النظرات والترددات. كما اتذكر في العيد جدي، الذي كنّا نعتقد بانه لا يقهر، نعم كان حبقوق أميرا لا يقهر من لحم ودم. فالناس العاديون امراء يا ولدي ان عرفوا ان امارتهم هي نفسهم، هم امراء ان عرفوا انهم غرباء في دنيا غريبة، وان ادركوا ان الغني هو من لا يعوزه شيء وبانّ الفقير هو من يعوزه كل شيء كما قال يوما يوحنّا الذهبي الفم. قرر اجدادي ان يكونوا اغنياء. نعم عرف جدي ان يعيش الحياة لأنه ما كان يخشى الموت، كما كان يقول. هو الذي قال لنا لحظة رقاده: "انا لا اخشى الاستحقاقات يا اولادي، ولن اخشى الموت. ولو كنت اخشاه لم احببت وعشت مليا، لو كنت اخشاه لكان قد ابتلعني حيا زمانا قبل ان اموت."
هذا كان بعضا مما كنت اشعر به مع حلول عيدي ميلاد السيدة ورفع الصليب، وانا انقله اليكم كي تنقلوه الى اولادكم من بعدكم كي لا يضيع شريط الذاكرة فتضيعون وتصبحون من وهم. فمن ليس له ذاكرة وقصص وعبر وتاريخ واسس ليس له وجود، حتى ان وجد رقميا على حساب على فايس بوك او تويتر او حاز على ماستر كارد.
غدا ان اقتلعتكم الايام من ارضكم قسرا، وآمل ان لا تقتلعكم، لا تنسوا هذه القصص فهي التي ستبقى تشدكم الى الارض التي منها ولدتم. فالإنسان يا اولادي ان فقد الرباط مع الارض يطير من خفته، ولا يعود يثبت في موضوع، فتحركه الريح وتأخذه الى حيث تشتهي وهو لا يدري.
انطفأ العيد في بيت جديّ لانّهما اغمضا عينيهما، فالعيد ومضة عينين وفرحة. يعيش العيد في الناس نمط حياة وحب ولا يقيم في الكتب. استقر جديّ في العيد كما استقر في عيونهم يوما، الا فاعملوا ان يقيم العيد في عيونكم فرحا، وومضة لا يسرقها احد منكم. 

  • شارك الخبر