hit counter script

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - جورج عبيد

قراءة وجوديّة مسيحيّة لعالم ما قبل كوفيد-19 وما بعده

الأربعاء ٨ نيسان ٢٠٢٠ - 06:13

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

أحد الشعانين بحسب التقويم الغربيّ حلّ حزينًا وكئيبًا على الناس. إستقبل الأطفال يسوع الناصريّ في البيوت مع الأهالي، وليس في الكنائس كما كلّ سنة، متوثّبين معه إلى أسبوع عظيم مقدّس مرتقبين بهاء القيامة. والرجاء الكامل في يقيننا أن يستقرّ يسوع في بيوتنا وقلوبنا، ويمنح القوّة لعائلاتنا، ويكون الفرح والحياة لكلّ منكسري القلوب والنفوس، والتعزية لجميع الحزانى، والشفاء لكلّ المرضى ومنهم مرضى الفيروس التاجيّ.
سنمضي جميعنا مع يسوع الناصريّ إلى آلامه الرهيبة وقيامته المحيية بتقويمين بعيدين عن بعضهما أسبوعًا واحدًا. لقد بات لزامًا على الكنيستين الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة، وقد توحدتا في الفراغ والخوف، أن تتوحّدا بعد الآن، أي بعد نهاية الفيروس التاجيّ، أو ربّما أثناءه، في المسيح يسوع وتثبتا بعد ذلك في كمال الوحدة.
ما يستدعي هذا الفكر ليس حضور الفيروس بغتة في عالمنا واقتحامه لنا، فهو في النهاية سينتهي ككلّ الأوبئة التي اجتاحت العالم على مراحل تاريخيّة متعدّدة، بل خلّو أوروبا كاملة من حضور المسيح التاريخيّ فيها وتحوّلها إلى الوثنيّة الحديثة. هذا الإخلاء القسريّ وليس الخلوّ الطوعيّ، مصدر الدعوة إلى تمتين أواصر الوحدة بين الكنيستين الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة وترسيخها على كلّ المتجليات وفي كلّ الآجال، من دون صهر أو أقصاء للخصوصيات القائمة بين الشرق والغرب وللتنوّع في الطقوس، كما هو حاصل في العالم الأرثوذكسيّ المسكونيّ، فكلّ طقس لغة تسبيح للربّ المتحرّك ما بين الأزل والتاريخ. عدم إقرار الوحدة قاد الكثلكة إلى الجمود ومن ثمّ إلى التجويف والضعف، والتبعثر.
إلى ذلك، يجب الإقرار بأنّ الفكر العلمانويّ بأنظومته الخاليّة من وجود الله، قد أباح اندراج القارّة العجوز بالصنميّة الجديدة. لا بدّ هنا من الإضاءة على ناحية خطيرة، وهي أنّ أسباب التحوّل ليست بالضرورة إراديّة أو فعليّة تبيحها الذات، فتاريخ أوروبا منذ القرون الوسطى حافل بمجموعة تمرّدات تراكمت وانفجرت منذ اضطهاد البابويّة للعلماء كمثل دو شاردان أو غاليله، وكمثل التحالف المتين والمكين بينها وبين الأباطرة والملوك والرؤساء والأثرياء، الذين اصطنعوا لأنفسهم أخلاقًا خاصّة فرضوها على فقراء القوم، وجعلوها نظام عيش حتى كانت الثورة الإنكليزيّة بدءًا سنة 1688 فتبعتها الثورة الفرنسيّة سنة 1789 حتى سنة 1799، واستُكملت بعد ذلك بالفكر الماركسيّ مع كارل ماركس (5 أيار 1818- 14 آذار سنة 1883)، الفيلسوف الداعية إلى نظام اشتراكيّ وعليه بنت الشيوعيّة عمارتها في روسيا وأوروبا الشرقيّة، وهو أساس بيان الحزب الشيوعيّ الذي صدر سنة 1848، وإلى الإلحاد المطلق في ما بعد مع فريدريدك نيتشه (15 تشرين الأول سنة 1844- 25 آب سنة 1900)، وهو صاحب نظريّة الإنسان الخارق The Superman ، وله مؤلّفان خطيران: هكذا تكلّم زرادشت Ainsi parlé Zaradouste، وضدّ المسيح Anti-Christ، حتى دخل أوروبا المنحى الصناعيّ المتمركز في انتفاخها وإنسانويتها.
بذلك، بلغت الكثلكة من هذه الناحية واقعًا مأساويّا وشديدًا بل عاصفًا ينذر بخلوّ أوروبا منها. هل يتذكّر بعضنا هيغل وهايدغر في الفكر الوجودي المسيحيّ، أو بول فاليري في شعره الرمزيّ العميق، وتوماس إليوت في ملحمته الشعريّة الأرض اليباب The waste land. لقد استشرف كلّ منهما المنزلق الذي اتجهت إليه أوروبا وتدحرجت نحوه بسبب بداءة انسلاخها عن المسيحيّة-الكاثوليكيّة شيئًا فشيئًا، وعن لغة الجمال الفريد وتمركزها حصرًا في مركزيتها الصناعيّة ورؤيتها الاستعماريّة، من دون نسيان وقوعها خلال خمس وعشرين سنة من القرن المنصرم بحروب مذهبيّة بين الكاثوليك والبروتستانت في إيرلندا، ومن ثمّ بين الكروات والصرب في أوروبا الشرقيّة.
لقد أعادنا "إله الموت" كوفيد-19، إلى هذا التقييم التأريخيّ والتاريخيّ لعلاقة الكنيسة الكاثوليكيّة الجدليّة بأوروبا بقراءة سريعة. ثم كشف مؤثراتها بالجراح البليغة التي أثخنت بها لتبلغ نحو أرض يباب وقاحلة، وفضحها بقوّة، بل فضح قوّة الترجرج في طبيعة الترجرج. وفي الوقت عينه كشف "هذا الإله المسخ" وغير المرئيّ عقم التلاقي ما بين الإيمان والعقل وعدم التلاقح والتناضح بينهما، لا سيّما بإيجاد مساحة مشتركة وفعّالة، ناتجة من قراءة هذا الفيروس بلجنة من علماء وأطباء ولاهوتيين، بغية بلورة طرائق فعليّة لمواجهته، وهذا غير محصور في العالم الكاثوليكيّ بل في العالم المسيحيّ قاطبة.
لن تسع تلك العجالة لسرد بعض النواحي الأخرى والتي أدت بدورها إلى فراغ أوروبا من المسيحيّة. فهي وبالإضافة إلى ما سردناه عديدة ومختلفة ومتنوعة، تراكمت وتدحرجت وبلغت نحو هذا الفراغ الخطير وغير المسبوق في عالم المسيحيّة، مع إغلاق أبواب الكنائس ليس في أوروبا حصرًا بل امتدادًا نحو الشرق.
لقد حاول بابوان عظيمان على الأقلّ وضع إصبعيهما على الجرح بشكل مباشر وهما يوحنّا بولس الثاني، وهو المساهم الأوّل في ضرب الإلحاد وبينيدكتوس السادس عشر اللاهوتيّ العظيم والمستقرئ للمخاطر على كافّة أنواعها، وهو لم يهادن في توصيفها وإعلان تأثيرها على العالم بنوعيّة السلبيات الحاوية لها. ذلك أن بيع الكنائس وتحويلها إلى مراقص وملاهٍ ودور قمار ودور دعارة ودور سينما، ما كانت لتتمّ من دون موافقة الجهات الكنسيّة التامّة ورضاها المطلق.
السؤال المطروح كيف قبلت الدوائر البابويّة بصكوك بيع مشبوهة فاحت منها روائح الآثام والخطايا النتنة، ألا تعيد صكوك البيع مشهد خيانة يهوذا الإسخريوطيّ للمسيح يسوع بثلاثين من الفضة؟ أليست الكنائس مواضع لسيادة الله حيث تسجد كل ركبة أمام وجهه القدوس؟ أليست المدى لحلوله فيها بالقرابين الإلهيّة؟ بيع الكنائس بهذا الشكل المهين للسيّد المبارك، غير مرتبط بخلوّ بعض الدول الأوروبيّة من المسيحيين والكاثوليك، بل بدور الدوائر الفاتيكانيّة في البيع. والسؤال الأخطر ماذا فعل الفاتيكان لمنع الزواج المثليّ في العالم، ومنع الإجهاض غير إصدار الوثائق المانعة والمحذّرة؟
في كلّ كلمة وفعل دخلت السياسة والمصالح، وتمّ الاكتفاء بوثائق وضعت للتاريخ ولم توضع للتنفيذ والتجسيد بالتعاطي القويّ والفعال مع الدول المسماة كاثوليكيّة. الارتخاء في الكنيسة الكاثوليكيّة والارتماء في المصالح غير مبرّر في أوروبا أو سواها.
ليس هذا السرد من قبيل التهكّم، بل من قبيل الإيضاح، وبعيدًا عن اي انتفاخ وكبرياء، بأنّ المسيحيّة المشرقيّة بمحتواها اللاهوتيّ المستقيم هي الركيزة الأولى لإعادة أوروبا إلى قلب المسيح. "إله الموت" وحّد الكنائس ووحّد الدول والمجتمعات في الخوف والرعب والقلق. الكنائس كلّها من الغرب إلى الشرق أغلقت أبوابها حتى في الأسبوع العظيم خوفًا من الوباء. والكنيسة الكاثوليكيّة لم تعد وجهًا آخر لاستعمار مضى وانطوى، أي أنها لم تعد قادرة على الانتفاخ والتماهي بالمركزيّة الأوروبيّة، والهيمنة الغربيّة. كما أن الولايات المتحدة الأميركيّة لا تحوي الكثلثة في توجهاتها، وهي بدورها آيلة إلى التفتت والسقوط. من هنا إن رحم الخلاص سيسطع من المشرق في عالم ما بعد كورونا. أي من المسيحية المشرقيّة على وجه التحديد.
من المفيد هنا القول أيضًا، بأن المسيحية المشرقيّة والإسلام القرآنيّ لا سيّما في الدول المشرقيّة من سوريا إلى فلسطين إلى لبنان والعراق والأردن، مستهدفة بالقيم المتأصّلة في كنائسها ومجتمعاتها. يمكن الاستهداف بتصوير، أنّ الحياة الاجتماعيّة في عالم ما بعد كورونا مختلفة بالكليّة عما كانت عليه قبل كورونا. لنبدو في الواقع أمام نظرية من نظريتين:
1-إمّا أن الفيروس التاجيّ وجد بهدف إفراغ العالم كلّه من البهاء الدينيّ من المسيحيّة إلى الإسلام، ويمارس هذا الإفراغ بأدبيات طبيّة وفلسفيّة واجتماعيّة تسوّغ له، ومنها ما اندرج بمبدأ التهويل النفسيّ (بالإرعاب والإرهاب)، فنكون أمام نظريّة المؤامرة Conspiracy theory تستبدّ بنا في سبيل تغيير النظام العالميّ الجديد برمتّه، وهذا ما تتمّ الإضاءة عليه بجوانب عديدة، ولكن حتمًا ليس وفقًا لما توسّله على وجه التحديد الغرب الأميركيّ. ومع ذلك فإنّ هذا الغرب لا يزال يحاول، وهو في قمّة مأساته الكورونيّة، بثّه في العالم كلّه. لقد كشف المفكر الدكتور حسن حمادة جانيًا من تلك الرؤية وهو عاكف على تأكيدها والتحذير منها.
2-وإمّا أنّ الفيروس التاجيّ يستعمل كحجاب أو قناع، إذا افترضنا بأنّه غير مصنّع، كما يميل بعض الأطباء بدورهم، للهدف عينه، تحت ستار سرعة انتشاره، لضرب تماسك المجتمعات، لا سيّما المشرقيّة، بأقدس وأطيب ما هو فيها، أي الإيمان بالله والعاطفة الصادقة والمحبّة المجانيّة بين الناس وإن فترت أحيانًا كثيرة.
هذه محاولات انطلقت في الأصل منذ ما قبل كورونا، وأدّت في لبنان على سبيل المثال لا الحصر إلى فراغ كبير في حياتنا الاجتماعيّة، لا سيّما على مستوى اللقاء بين العائلات بالزيارات المتبادلة والمعايدات الشخصيّة في المنازل وعيادات المرضى، لقد تحوّل كلّ ذلك من اللقاء الشخصيّ إلى العالم الافتراضيّ، وهذا دال على فقداننا الوداد الكبير والتعاطف الفعليّ. هذا كان قائمًا قبل انتشار الوباء التاجيّ. ومع انتشاره، يخشى كثيرون، بأن يؤثّر الحجر على طبيعة الحياة الإنسانيّة والاجتماعيّة للناس في مرحلة ما بعد نهايته فتنتفي المسلّمات التي تربّى عليها المشرق.
المخيف والمربك في المسألة، أن يغدو خوف الواحد من الآخر، بسبب تأثير الفيروس بثقله النفسيّ على الناس، هدفًا استهلاكيًّا واستغلاليًّا، بغية رسم الحدود بين الأفراد وبين العائلات وربما بين المناطق وبين الدول، فيتفتّت التماسك الأسريّ والعائليّ والبشريّ، وتتمزّق السمات المشرقيّة الطيبّة الجامعة بين الناس. هذا انسياب مفترض وماثل في بيئتنا، ويتسرّب من دوائر عديدة، ويحوي مغازيَ ومراميَ بمحتويات تخدم رؤى سياسيّة واقتصاديّة.
وفي الاحتمالين، لا بدّ من الرصد، بأنّ المسيحيّة بالمعطيات كلّها، ومنها الثقافيّة والمجتمعيّة والروحيّة، ما بين أوروبا والشرق مستهدفة. لا أستثني هنا الإسلام حتمًا وحكمًا. ذلك أن النظام الجديد بالطبعة الأميركيّة، ما قبل كوفيد-19 كاتب لعالم تسوده آحاديّة دينيّة يهوديّة غير مباشرة حينًا ومباشرة أحيانًا، تنقّحه سياسيًّا، تخرج كنتيجة من جوف صراع الحضارات والأديان. فماذا لو سقطت الآحادية القطبيّة وهي آيلة نحوها، ورسا النظام الجديد بفعلها على شراكة كونيّة تنطلق من ثنائيّة روسيّة - صينيّة؟ المشهد حتى ذلك الوقت سيكون ضبابيًّا ومشوبًا بفوضويّة متلاشية.
على هذا، تنصح نخب واعية، بأن لا يسلك الخطاب الدينيّ المسيحيّ-الإسلاميّ، سلوك الخوف والرعب، بإغلاق الكنائس والمساجد أبوابها بتلك الطرائق المتبعة. بالنسبة للمسيحيين، الكنيسة مصدر للإيمان الحقّ، ورحم للأمان الثابت، وموئل للثقة العميقة، ومشفى للمرضى، ومتكئاً لكلّ من يطلب رحمة، وملجأ للخائفين، ومدى للتائبين، وقبس للقوة، وشهاب للنعمة، وباب للخلاص...في الكنيسة ينزل المسيح إلى خاصته بالكلمة والقرابين، يصير في أجواف الناس ويسري في عروقهم، فيصيروا جددًا. يتحد بهم، ويجعلهم أمته المقدّسة المنتشرة.
علميًّا قد يكون الخوف مبرّرًا، لكن ما هو غير مبرّر عدم إيجاد مساحة مشتركة بين الإيمان والعقل لحلّ تلك المعضلة. وخلوّ أوروبا من المسيحية لا يوازى أيضًا بخلوّ المشرق منها. الخطاب الكنائسيّ في المشرق يجب أن يتحضّر لمواكبة العالم الجديد أو المشاركة في صنعه ليكون المسيح بصليبه وقيامته حاضرًا وراسخًا. كما على الكنيسة المشرقيّة أن تتحفّز لخطاب ديني روحيّ ومتوثّب يعيد المسيح إلى أوروبا لتحيا به.
في الطريق إلى أورشليم، إلى الجلجلة، إلى القدس، فكّروا بتلك المسلّمات، لا تغلقوا كنيسة المسيح. وائموا بين العلم والإيمان، أو اللاهوت. لا تتركوا الناس مشلوحين بالخوف والرعب، لا تضعوا الحدود بينهم، فالمحبّة لا تعترف بالحدود ولا تعرفها، بل تأباها. إذ كل حدود تقسيم وتمزيق. لا تحجبوا العاطفة، ولا تمنعوا القبل، ولا تخلقوا الحجج لمنع التواصل بين الناس. الناس واجهت الكورونا بالعون، والعون تعبير آخر عن المحبة المجانيّة المنسكبة بفرح وشكر الله. سينتهي الكورونا، والمحبة ستنتصر لأنها تعبير عن وجود الله فينا وهو يجمعنا دومًا في برّه وسلامه وخلاصه.
دعونا ندخل معه إلى أورشليم لنسجد لآلامه ونقوم معه ونلتحف بنوره الساطع ونصره المبين.

  • شارك الخبر