hit counter script

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - العميد المتقاعد غازي محمود

التهويل لا يُمكن أن يُخفي الغبن اللاحق برواتب العسكريين والمتقاعدين

الخميس ١٤ آذار ٢٠٢٤ - 00:44

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

في كل مرة تُقر فيها حكومة تصريف الاعمال الزيادات العشوائية على الرواتب والأجور، تتزايد مخاوف الهيئات الاقتصادية من تداعيات هذه الزيادات على العملة الوطنية يدعمهم في مواقفهم وتوقعاتهم بعض "الخبراء الاقتصاديين". ويعتبر هؤلاء الخبراء أن زيادة الرواتب والأجور التي أقرت بالقانون الذي صدر في العام ٢٠١٧، كانت أحد العوامل الرئيسية التي تسببت بالانهيار المالي والاقتصادي الذي أصاب لبنان في نهاية العام ٢٠١٩، متجاهلين دور الفساد المستشري في إدارة الدولة، وحجم الهدر الذي يفوق بعشرات المرات حجم الزيادات.

والمشكلة بحسب الهيئات الاقتصادية والخبراء، لا تقتصر فقط على الحجم الإجمالي لزيادة الرواتب والأجور، لا بل في تمويل الزيادات التي تم إقرارها، في ظل غياب مصادر التمويل الداخلي والخارجي للبنان. ذلك إن تمويل الزيادات على الأجور يقتصر على إيرادات الخزينة من الرسوم والضرائب، مع العلم أنه من غير الممكن احتساب هذه الإيرادات على قاعدة نسب الزيادات التي أُقرت عليها. سيما وأن العديد من الإدارات العامة التي تحصل هذه الرسوم هي معطلة او تعمل بشكل جزئي، الامر الذي يبعث على الشك في حجم الإيرادات التي يُمكن تحصيلها، وبالتالي التشكيك بكفايتها لتغطية كلفة زيادة الرواتب والأجور.

كما يُشكك خبراء آخرون بدقة أرقام تكلفة الزيادات الجديدة على الرواتب والأجور، الامر الذي سيدفع بحكومة تصريف الاعمال الى السحب من احتياطي الموازنة لتغطية الفرق. ذلك أن استخدام هذا الاحتياطي لتغطية الفرق بين الكلفة الحقيقة والكلفة المقدرة قد يؤدي الى استنفاده وربما الى عجز في الموازنة، وهو ما سيحول دون قدرة الدولة على مواجهة أي نفقة طارئة ويفقدها المرونة في الإنفاق العام خلال العام ٢٠٢٤. وما يُعزز من هذه المخاوف عدم الشفافية التي تعتمدها وزارة المالية، من خلال امتناعها عن نشر ما يترتب عن الزيادات التي أُقرت لكل مؤسسة وإدارة وجهاز على حدى.

ومسألة تحديد عدد الموظفين في الإدارات والمؤسسات العامة والاسلاك العسكرية والأمنية، هي بدورها موضع شك سيما وأن ثمة تقديرات لأعدادهم تتراوح بين ٢٠٠ و٢٧٠ ألف موظف، وأخرى ترفع العدد الى ٣٥٠ الفاً، بين قوى عسكرية وموظفي الإدارات المدنية. وهذا التناقض في تقدير اعداد الموظفين يتسبب بطبيعة الحال في اختلاف في كلفة الزيادة، ويجعل من كلفة الرواتب والأجور بما فيها الزيادات الاخيرة تتراوح ما بين ١١٠ و٢٠٠ تريليون ليرة لبنانية، أي أن هذا التناقض يؤدي الى ارتفاع الفارق بالكلفة الى ما يزيد على ٨٠٪.

في المقابل، إن أي تصحيح للرواتب والأجور، لا بد من أن يتم وفق معايير موحدة ومحددة بين جميع موظفي القطاع العام، وهو الأمر الذي لم تتقيد به حكومة تصريف الاعمال عند اقرارها للزيادات الأخيرة. من هنا إن وصف الزيادات الأخيرة بالعشوائية وغير القانونية ليس من باب المبالغة او التجني، بل هو توصيف لحقيقة الزيادة التي تتجاهل المؤشرات الاقتصادية ومعدل التضخم الذي يؤدى الى تآكل القوة الشرائية للرواتب والأجور والزيادات عليها. ذلك ان المطلوب استناد عملية التصحيح الى معايير واقعية تأخذ في الاعتبار قدرة الدولة على الإيفاء بالزيادة التي تقررها من ناحية وتؤمن حياة كريمة للموظفين والمتقاعدين من ناحيةٍ ثانية.

وقد أدت الزيادات العشوائية التي لا تراعي المبادئ القانونية لسلسلة الرتب والرواتب، الى تفاوت في نسبة الزيادة التي حصلت عليها فئات الموظفين المختلفة وخاصة العسكريين، فراتب العسكري الذي كان راتبه يُساوي مليون ومائتي الف ليرة لبنانية او ما يُعادل ٨٠٠ دولاراً اميركياً قبل بداية الأزمة في عام ٢٠١٩ بات سيحصل عليه بعد الزيادة الاخيرة ٢٢٥ دولار، في حين أن من كان يتقاضى راتب يُعادل الـ ٤٠٠٠ دولار يقتصر ما يحصل عليه حالياً على نحو ٦٠٠ دولار أميركي. في حين لو أن زيادة الرواتب راعت نسبة ارتفاع سعر الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية، لوجب أن تبلغ الرواتب والأجور اليوم ٦٠ ضعفاً مما كانت عليه الرواتب والأجور في العام ٢٠١٩.

وإذا كان من المستحيل أن تلحق زيادة الرواتب والأجور بمستوى ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي، وهو واقعياً مستحيل في ظل الازمة المالية والاقتصادية التي تعصف بالبلد، غير أن ذلك لا يبرر التمييز الفاضح بين موظفي القطاع العام من ناحية وعدم اعتماد معايير علمية وواقعية للزيادات التي أقرت من ناحيةٍ ثانية. وأكثر ما يظهر التمييز وعدم العدالة في الزيادة التي أُقرت للمتقاعدين، خاصةً وأنها تتجاهل المادة ٧٩ من قانون الدفاع الوطني التي تُحدد مقدار الراتب التقاعدي بـ ٨٥ بالمئة من راتب مثيله في الخدمة الفعلية وهذه النسبة تنطبق على الزيادات بطبيعة الحال.

ويأتي رفض المتقاعدين للزيادات التي أُقرت مؤخراً لعدم مراعاتها مبادئ العدالة والمساواة والتمييز بين فئات الموظفين، لا بل اعتراضاً على ضرب الحقوق المكتسبة لمن هم في الخدمة الفعلية الامر الذي يستتبع ضرب نصيب المتقاعدين من هذه المكتسبات بحسب المادة المادة ٧٩ المشار اليها أعلاه. وفي الوقت الذي كان من المنتظر أن تبدأ ورشة إعادة بناء مؤسسات الدولة على اسسٍ علمية تلبي طموحات المواطنين وتُسهم في معالجة أزمات الوطن، يكشف إصرار الحكومة على زيادة الرواتب والأجور زيادة عشوائية تمسكها بالمعالجات الآنية وعدم الالتزام بخطة طويلة المدى لتصحيح الرواتب والأجور تتوافق مع تطور قدرات الدولة.

اما التهويل الذي تُمارسه الهيئات الاقتصادية ومعها بعض الخبراء الاقتصاديين، فما هو الا محاولات لإبقاء الزيادات عند ادنى مستوى ممكن على حساب ذوي الدخل المحدود من موظفين واجراء. مع العلم أن احداً من موظفي القطاع العام أو المتقاعدين بصدد المطالبة بزيادات تُرهق الخزينة العامة او تستنفذ الإيرادات المتوقعة، انما جُل ما يُطالبون به اعتماد معايير علمية وقانونية توفر شروط عيش حياة كريمة مع الحفاظ على الحقوق المكتسبة. وهذا مطلب مسؤول وعقلاني وتنم عن إحساس بالمسؤولية تجاه الدولة التي نذر المتقاعدون وخاصةً العسكريون منهم، حياتهم لخدمتها والذود عنها.

ولا بد من التأكيد مجدداً أن العلاقة مباشرة بين مستوى الرواتب والأجور والنمو الاقتصادي، بحسب ما تؤكده الدراسات الاقتصادية، وبالتالي فإن أي زيادة للرواتب والاجور مبنية على قواعد علمية لا بد من ان يكون لها تأثير إيجابي في زيادة النمو الاقتصادي للبلد. كما أن تصحيح الرواتب والأجور يُحفز إنتاجية الموظفين والعمال لا سيما منهم موظفي القطاع العام، خاصةً وأن إحدى مُسميات الزيادة "رفع الإنتاجية" الامر الذي قد يُساهم في إعادة إحياء مؤسسات الدولة التي تتلاشى سلطتها وتندثر مؤسساتها بشكل متسارع يوماً بعد يوم.

وغالباً ما تُشكل الازمات المالية والاقتصادية التي قد تواجهها الدول، مناسبةً لإعادة هيكلة اداراتها وإعادة النظر في سلاسل رتب ورواتب موظفيها وتعويضات نهاية الخدمة والرواتب التقاعدية. وبالتالي، هي فرصة لبنان اليوم لإعادة الهيكلة وتصحيح الرواتب، خاصةً وأن الرواتب والأجور هي في الحضيض فيما تعويضات نهاية الخدمة لا تصلح جائزة ترضية لمن افنوا شبابهم في خدمة الدولة ومؤسساتها.

ولو كانت الحكومة واركانها على مستوى المسؤولية التي تتطلبها معالجة الازمة، لكانت أقدمت على وضع خطة متكاملة تُعيد هيكلة المؤسسات والإدارات العامة وتطويرها لتجاري التطورات التقنية، وتصحح الرواتب والاجور لتحقق مبادئ العدالة والمساواة. ولكانت أعادت النظر في تعويضات نهاية الخدمة بصورة جذرية، وأخشى القول التخلي عنها في ظل حكومة تفتقر الى الرؤية الإصلاحية وتنعدم فيها الثقة.

 

 

 

  • شارك الخبر