hit counter script
شريط الأحداث

باقلامهم - مازن ح. عبّود

قصة شجرة

الأربعاء ١٥ شباط ٢٠١٦ - 06:37

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

راح ينظر الى والده يرمي قطع الحطب في الموقد، وادار اذنيه كي يستمع الى اهازيج الخشب ينشد للنار. فنفخ الطفل على الحطب من بعيد وقال له وللنار كلمات سحرية احضرها من عالمه الصغير "ابرا ابرا وببرا". وصمت، وراح يتأمل في الموقدة كأنه يتابع شاشة تلفزيونية او كأنه انخطف الى عالم القصص.
ابلغ امه اشياء واشياء. قال انه سأل القطع الخشبية عن هويتها وديارها وطبيعتها. فأجابته، بانها "أشلاء مقطّعة لجسد شجرة اقامت في جبل"، وكانت وارفة الظلال فاستظلّ بها كثيرون، وأكل من ثمارها كثيرون، واستوطنتها جماعات الحساسين التي توالدت فيها. وتأمل فيها شعراء ومصلون. تسلقها صبيان من عمره وأكبر متخذين من اغصانها منازل ومساحات للخيال واللعب. والتقى في افيائها عشّاق واختبأ فيها القمر وتلطت خلفها الكواكب.
ثمّ ابلغته الشجرة عن قصصها مع الريح، وكيف كانت تراقصها رقصات ناعمة او حماسية حسب امزجة الفصول. ابلغته عن اغطيتها الثلجية واغاني القمر. ثمّ قصت عليه كيف وافى الحطّاب يوما وقطّع جسدها اربا، اربا، وباعها الى التاجر الذي جعل منها اطعمة للمدافئ. وها هي تحترق كي يشعر هو وعائلته بالدفء والنور. ابلغته كم بكت التربة على فراقها، فتغربت بعيدا الى البحار، وحتى العصافير ما عادت تمر في تلك الناحية اذ فقدت موطنها! ابلغته كم ابتلعت من جزئيات الغاز المسمم امتصت وكيف حولتهم الى اغذية بفعل نور الشمس. حكت له عن عشقها للشمس واقترانها بالارض، فكانت معملا حوّل الانوار الى اغذية بفعل الماء والتربة.
نظر الصبي اليها وقد ابتلت وجنتاه من شدة البكاء، وقبّل ما تبقى من قطعها. ثمّ تابع سائلا اياها عن ولادتها. فأجابته: "انا زهرة لقحتها الريح ام تلقحت بزيارة نحلة. صرت ثمرة كبرت حتى نضجت، فحملتني الريح بعيدا عن حضن امي الشجرة كي ترمي بي في احشاء امنا الأرض. سقتني الغيمات من دمع الاديم كؤوسا، فسكرت، وكسرت الامخال بازغا من الارض لتلقف الحياة. واقتت من محبة الشمس انوارا، ومن ملح الأرض اسرارا، ومن لقيا الريح بالغيم قطرات ماء".
وتابعت: "وتعلّمت ان لا انظر الا الى فوق، فألتقط الانوار، التهمها. وكبرت، ازدادت قامتي حتى راقصت الرياح. تعودت ان لا انظر الى الأرض التي تحملني، ولو تطلعت وما سمعت وصية الخالق، لكنت تحوّلت الى عليقة.
نعم، فمن ينظر الى الوحول يا صبيا يعلق فيها، ولا يكبر. بل يصير يزحف على سطح الأرض حتى تسكنه الشياطين. نعم، تعودت ان انظر الى فوق، وان تمتد جذوري الى تحت.
تطلع الطفل الى أشلاء الشجرة المقطعة، وقال: "هل يعقل ان يستغلك الانسان بهذا القدر؟ كيف يجرؤ الحطّاب ان يقطّعك بعد كل ما قمت به، ويبيعك للنار؟ انّ هذا غير عادل وعندما أكبر اعدك بانّ أوقف كل ذلك".
تطلعت به الشجرة، وقالت: "يا بنيّ مسكين الحطّاب، مسكين من يحرق، ولا يحترق نورا ودفئا وومضات! مسكين من يصعد ولا يصعد! نعم، مسكين من لا يكون شجرة يتلطى في افيائها كثيرون، ويأكل من ثمارها المارة. مسكين هو، لأنه لم ولن يدرك طعم الحقيقة. يعتقد بأنه ذكيّ الا انّ ذكاءه من موت. انّ السعادة نور وعطاء. مسكين هو الحطّاب لأنه لم يدرك السعادة الحقيقية، ولم يذق العطاء! ذكاؤه من غباء، ودهاؤه من هباء، واساليبه من خوف وجهل وشك وموت! مسكين لانه يتذاكى كي يستغل فينال اشياء وموت وقلق واحباط. صل من اجله يا بني فهو من أتعس الناس، لانه إذا ما شرب لا يرتوي، وإذا ما اكل لا يشبع، وإذا ما خلد لا ينام ولا يعرف الراحة".
وختمت:
"كن ومضة، كن نورا، كن شجرة، ولا تسأل.
للشجرة رب يرعاها، ولطيور السماء وحيوانات البر إله ينطرها".
سرّ الصبي كثيرا بقصة الشجرة التي رسمها في باله خضراء نضرة، ومعطاء ووارفة تربط الأرض بالسماء وومضة تضيء وتدفء ليالي البشر الباردة.
استفاق من سحره على قبلات امه التي ارادت ان تستعيده من امارته ومن صمته، فقد تسمّر امام النار لعشرات الدقائق. استفاق وابلغها قصة الشجرة والسلم والنور والدفء. اما هي فقد ضحكت وانساب من عينيها سحر قصص الامومة والسعادة الحقيقية.
 

  • شارك الخبر