hit counter script

باقلامهم - جمال العيساوي

إما نَسيح وإما "نَسوح!"

الإثنين ١٥ تموز ٢٠١٥ - 06:38

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

يُقال أحياناً أنه لو وضعت أمامك شيئاً لتراقبه باستمرار فإنك ومع مرور الوقت ستبدأ بتخيله كلما عاودت النظر إليه بطريقة مُغايرة لما هو عليه في الحقيقة، وهذا تماماً ما حدث معي وربما مع غيري من "القرفانين".
فها أنا أشرب قهوتي الصباحية المعتادة في محل سكني في إحدى المناطق الجبلية، ولكن مع فارق أنني أستمع هذه المرة إلى أصوات خرمشات القطط وفَرطها للأكياس وأشم رائحة النفايات العابقة بها أشجار الشربين هناك.
هو مَنظر اعتدته في "أسبوع الزبالة!"، لجبل تختلط ألوانه بطريقة "تجريدية!" ويرتفع تدريجياً ليُخفِي ما بَقي أصلاً من "لبنان الأخضر". وبينما أنا كذلك، طرأ عليَّ خاطر وحدثت نفسي متسائلاً ماذا لو طُلِب من فنان أن يقوم "بعمل تجهيزي Installation" يكون عنوانه: "التعبير عن واقع الوطن والمواطن" ويقوم بتركيبه في كافة أنحاء هذا البلد.. أظنه عندئذٍ لن يتردد ثانية لإيجاد شيئٍ أكثر تعبيراً من رمي النفايات بهذه الطريقة لتوصيف حالة القرف والفساد والإهمال التي وصلنا إليها.
والأمر يأخذ منحاً سريالياً بعض الشيئ، فإنك عندما تتجول في مناطق عدة، ستُلاحظ بأن النفايات آخذة بالارتفاع والإتساع كمتاريس الحرب، والذباب مِن كَثرته بات يأكل الناس قبل الأكياس، والحرائق مندلعة واللون الرمادي يغطي أشياء عديدة ثم ما يلبث أن ينقشع عن لوحات إعلانية محلية تُذكرك بأن تلك الروائح الكريهة والإنبعاثات المُضرة مصدرها ليس "مفاعل تشورنبيل" بالتأكيد!
مَشهد يُشبه إلى حد قريب لقطات كنا قد رأيناها في الكثير من الأفلام التي تُصور حركة الاحتجاجات العشوائية التي تَحدُث في المناطق وما يَنتج عنها من فوضى وقذارات على إثر انهيار بلد معين. إلا أننا نَعلم مُسبقا بأن كل ما شاهدناه لا يعدو كونه فيلماً لا تتجاوز مدته التسعون دقيقة، أما هنا فإنك ستشاهد الحقيقة كاملة ومباشرة على مدار الساعة وليتني كنت أستطيع أن أقول في الهواء الطلق (لأنه لم يعد كذلك)، وستَجد وعلى الرغم من كونها حقيقة بأن لها مخرجين وممثلين، ومع ذلك ويا للعجب فهي تحقق نسبة مشاهدة عالية ومصفقين كُثُر.
ومن الشوارع نهرب إلى بيوتنا مجدداً، ولأننا كالغريق الذي يتمسك بريشة ويُريدها أن تطير به بعيداً عن دخان هذه النفايات، فإننا نتابع نشرات الأخبار المسائية آملين بسماع خبر نظيف يُنسينا مَنظر الجرذان على البراميل وهي "قيد البَحش!" فإذا بنا نتفاجأ بأن الأزمة على الطاولة ما زالت "قيد البَحث!".
ثم يمر الخبر سريعا وننتقل إلى آخر كمن يكش ذبابة عن وجهه فيذهب قسم منا "للنوم طب على وجو" دون أن ينسى إشعال دزينة من أقراص البرغش المتزايدة عدداً وحجماً حتى أنك لتخال نفسك أمام ديناصور طائر! ولكن بما أن اللبناني محب للحياة ولا يفقد الأمل كما يُشاع ويقال فيقرر القسم الآخر متابعة النشرة عسى ولعله يَسمع ما يُطَمئن، فإذا بأحدهم يُصَرِّح ويُطمئننا بدوره بأن وضع السياحة لا خطر عليه وكيف أنه في ظل هذه الكارثة البيئية استطاع أن يَمر بالمغني الشهير بعيداً عن مشاهد "التعتير".. ويزداد تعتيرنا لسماع مثل هذا "التعبير"، ونسأل.. وماذا عنا نحن!؟ قد لا نكون من الذين يَدفعون ثمن بطاقة باهظة للبقاء ساعتين أو أكثر في حفل غنائي ولكننا في المقابل ندفع أثمانا باهظة وأضعافا مضاعفة من الضرائب التي تُثقِل شبابنا وتَجعلهم كالعجائز! وكل هذا لقاء البقاء في بلد تُدفع فيه فاتورة كهرباء تنزل في أيدينا نزول الصعقة الكهربائية ثم لا نراها فنضطرللجوء لمولدات الإشتراك! وندفع فواتير الماء للبلديات ثم نشتري مياه الصهاريج! وندفع أغلى فاتورة جوال لندق Missed call! ثم ندفع "الكناسة والحراسة" فنَرى الخطف والقتل والأوساخ في الطرقات!
فإلى كل مسؤول عن "الوضع الزبالة" الذي وصلنا إليه، إليكم نُكرر ونقول ماذا عنا نحن!؟ إنزعوا الأقنعة وامشوا بين دخان تلك القذارات واعلموا أنه لم يعد هناك من مساحة للسياحة بالنسبة للكثيرين منا إلا تلك الشوارع والأزِقة وهوائها، فدعونا نلتقط أنفاسنا هناك ونَسيح مِن قبل أن "نَسوح" بنيران خلافاتكم المشتعلة في المزابل!
 

  • شارك الخبر