hit counter script

مقالات مختارة - عبد الصمد بن شريف

بين الدولة السياسية والدولة الصفر

الإثنين ١٥ آذار ٢٠١٥ - 05:17

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

العربي الجديد

انهارت الدولة ككيان في أكثر من منطقة عربية، وغابت المؤسسات التنفيذية والتشريعية، ولم يعد لأية سلطة أي وجود أو نفوذ، كما هو الشأن في ليبيا، حيث يجوز أن نتحدث، بكل اطمئنان، عن الدولة الصفر. وكذلك يجسد ما وصلت إليه اليمن من تفكك وتمزق واحتراب واضطراب مؤسساتي مشهداً سوريالياً، يتعذر على أي تحليل عقلاني ومنطقي أن يفك شيفرته وألغازه.
أصبحنا في سياق التداعيات التي أفرزها ما اصطلح على تسميته الربيع العربي أمام مشاهد دموية وتراجيدية يومية، وحروب تصفية الحسابات المذهبية والعقائدية والعرقية والفئوية، وكأن الثورات أو الهبات أو الرجات، وفق ما ترسخ من مفاهيم في المجال العربي، لا بد أن تتوفر على قدر هائل من القبح والكراهية والاقتتال والاحتراب بمعناه الشامل، ولا بد لها أن تستند إلى القيامة المطلقة لتدمير العمران وتخريب الأرض وقتل الإنسان.
وفي استقراء السياقات والمبادرات، المعلنة هنا وهناك، بما فيها التأسيس الدستوري لدولة المؤسسات والقوانين والحقوق والواجبات، أدرك الجزء الأكبر من دول الربيع العربي أن ضمان الأمن والاستقرار لا ثمن له، ولا يمكن أن يكون موضوع مساومة أو مزايدة أو مغامرة، مهما كانت التبريرات والذرائع. ففي غياب وجود قوى وطنية حاملة مشروعاً مقنعاً وقادراً على إنتاج التوافق بين مختلف المكونات الداعية للتغيير، وفي غياب الثقافة الديمقراطية والحس الحضاري والتاريخي والوعي المدني، من السهولة بمكان أن تتحول "ثورات" إلى كبوات وأزمات وانكسارات وتمزقات وتطاحنات عرقية وقبلية ومذهبية.
ومؤكد أن الانتقالات الكبرى، عادة، ما تكون مصحوبة بمخاضات عسيرة، قد تستغرق وقتاً طويلاً، ولكن ضمن معادلات وضوابط لا تخرج عن مقتضيات العقد الاجتماعي والتماسك الوطني، مثل ما حدث في دول أوروبا الشرقية، عقب انهيار جدار برلين وتلاشي المعسكر الشيوعي، حيث كانت الهبات والانتفاضات، ولكن بأسلوب حضاري. وحصل الانتقال من أنظمة إلى أخرى، بمعنى تحولات جذرية، ونظمت انتخابات بدون اقتتال، أو اندلاع مواجهات، وبدون نعرات وعصبيات.
الأوضاع التي تعيشها المنطقة العربية، وتزايد مخاطر الإرهاب والتطرف والإقصاء وانتعاش فتاوى وثقافة التكفير والتحريض على الكراهية المذهبية، وتناسل شروط انهيار المؤسسات، يذكّر بنقاش غير مسبوق ومثمر، في 1988، بين الفيلسوف المغربي الراحل محمد عابد الجابري والمفكر المصري حسن حنفي، في مجلة اليوم السابع.
يحتفظ ذلك الحوار المشرقي - المغربي براهنتيه، على الرغم من أنه يعود إلى فترة لم تكن فيها الأمة العربية والإسلامية قد انزلقت إلى الأسوأ، مثل ما هو حاصل الآن، ففي إحدى مطارحاته، اعتبر حسن حنفي أن الجناح المحافظ هو الغالب على الأصولية الإسلامية، حيث أصبحت
"مؤكد أن الانتقالات الكبرى، عادة، ما تكون مصحوبة بمخاضات عسيرة، قد تستغرق وقتاً طويلاً، ولكن ضمن معادلات وضوابط لا تخرج عن مقتضيات العقد الاجتماعي والتماسك الوطني" إلهية، تبدأ بالدفاع عن حقوق الله أكثر من الدفاع عن حقوق الناس، وكأن الدين غاية في ذاته، وليس وسيلة لتحقيق مصالح البشر. مضيفاً أن هذه الحركة نصية، تميل إلى التطبيق الحرفي للنصوص الدينية، من دون مراعاة لظروف العصر ومقاصد الشريعة وحاجيات الناس، وكأن الواقع لم يكن أساس نشأة النص، كما هو معروف في أسباب النزول. لذلك، غلب عليها الاستنباط عوض الاستقراء، والأصول أكثر من الفروع، والمبادئ أكثر من الوقائع، والنظريات أكثر من التطبيقات، والعقائد أكثر من التشريعات. تريد أن تطبق الإسلام بمنطق الكل أو لا شيء.
وبناءً على هذا الفهم والتمثل، يرى حنفي أنه لا ضير في منطق هذه الحركة في استعمال العنف، لأن استعمال العنف في الله واجب، وكان الإسلام لم يدع إلى الحسنى، ولم يطالب بالجدل، وكأن الدين ليس رديفاً للنصيحة، خصوصاً وأن الإسلام أعلن أنه لا إكراه في الدين. قد تبين الرشد من الغي فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر. ونتيجة لهذا الطرح، يتساءل حنفي: هل يمكن الحديث عن إسلام مستنير تقدمي، لا يحمل من لقب سوى القيم الإيجابية والتحررية والتنموية، من دون اتهامه بأنه إيديولوجيا مقنعة، تنطوي على فكر ما. إسلام يجمع بين الحسنيين، خدمة أهداف الأمة وثقافتها الوطنية. وما سبق أن طرحه حسن حنفي، وبصرف النظر عن التسميات التي أطلقها على مشروعه، والتقعيد النظري والفكري الذي اعتمده في تصريف أفكاره ورسائله، فإن الأساسي لديه تفكيره بجدية وبعمق في تجديد الفكر والممارسة الدينيين، ومحاولة بلورة نموذج إسلام منفتح ومتسامح ومتنور ونهضوي، يقطع مع التمثلات المبتورة وغير السليمة التي أنتجت التمزق والتفرقة والضغينة والأحقاد والانتقامات.
في المقابل، يطرح محمد عابد الجابري مفهوم الكتلة التاريخية لمواجهة المصير المشترك للأمة العربية والإسلامية ومصير الأمم المستضعفة، أياً كان دينها وقوميتها، وفي ذلك حماية للأقليات الدينية في العالم العربي. ويقول "قضية الغد ليست أن تكون ماركسياً أو سلفياً أو ليبرالياً، بل هي أعظم وأكبر. الاختلاف الإيديولوجي شيء مشروع، ويفرضه الواقع والمصالح، ويجب أن يحميه القانون. ولكن، عندما تكون القضية المطروحة قضية وطنية قومية، مثل النهضة والتنمية والديمقراطية والعقلانية والأمن الغذائي، فلا بد من حد أدنى من العمل المشترك، إذ ليس في القوى الاجتماعية المتصارعة إيديولوجياً في العالم العربي قوة واحدة، تستطيع بمفردها إنجاز تلك المهام".
وفي خطوة استباقية، اعتبر الجابري، عشية انهيار الاتحاد السوفييتي، أن "عالم الغد سيختلف عن عالم الأمس، من حيث إنه سيشهد تعاون الكبار بدل تنازعهم وتصارعهم. ومن دون شك سيكون ذلك على حساب الصغار والضعفاء". وأمام هذا التحول، يطرح الجابري مفهوم الكتلة التاريخية بديلاً وضرورة حياتية، على صعيدي القطر الواحد والأمة. كتلة تتشكل من القوى والتيارات الإيديولوجية التي تنشد التقدم والتغيير، في اتجاه تعزيز القوة والمناعة وتعزيز الكيان العربي.
ولترجمة أهداف هذه الكتلة على أرض الواقع، حث الجابري على أن تعمد التيارات الإيديولوجية في الساحة العربية إلى نزع السلاح في الميدان الإيديولوجي، من دون أن يعني ذلك في اعتقاده وتقديره تخلياً عن الأهداف، وتنكراً للمبادئ والأصول. إنه يعني تجميد الصراعات الداخلية، وإيقاف الحروب الأهلية، من أجل مواجهة ما أسماه الصراع الأساسي، وهو من أجل البقاء في عالم لن يكون فيه مكان للضعفاء.
بيت القصيد أن الجابري يرى المشكل الجوهري هو شكل الدولة، فالإسلام الذي هو دين ودولة في آن، لم يحدد بنص قرآني، ولا بحديث نبوي، الشكل الذي يجب أن تكون عليه الدولة، وإنما ترك المسألة للاجتهاد، فهي، حسب قراءته، من جنس الأمور التي يصدق عليها قول النبي عليه السلام "أنتم أدرى بشؤون دنياكم".
ويستنتج من أطروحة الجابري أن المشكل بدا منذ نقاش الصحابة في سقيفة بني ساعدة حول مسألة الخلافة، واختلاف الخلفاء الراشدين حول طريقة تعيين كل منهم لمن يخلفه. ولقطع دابر أي طوباوية دينية متعالية عن شروط الواقع وإكراهاته، وسياقات العصر، يرى الجابري أنه لا يمكن إعادة تحقيق حكم الخلفاء الراشدين، مثلاً أعلى للحكم في الإسلام، لأن من جملة شروط وجود الحكم قيام دولة الفتح. دولة كان فيها الأمراء والعلماء فريقا واحداً، والجند والرعية فريقاً واحداً. وهذا لم يعد ممكناً إلا على أساس إقامة الدولة على أساس المصلحة والمنفعة. ولكن، ليس بالطريق التي اتبعها معاوية الذي اعتمد في حكمه على القبيلة، ومن تحالف معها، بل الطريقة التي يقتضيها عصرنا، وتهدف إلى إشراك الأمة كلها في اختيار الحكام، ومراقبتهم وفق قواعد ونظم قانونية ودستورية، أي دولة المؤسسات والحق والقانون.
وما بين دولة الخلافة ودولة السياسة، يستنتج الجابري أن شكل الدولة في الإسلام ليس من الأمور التي شرع لها الإسلام. إنها من الأمور التي تركها لاجتهاد المسلمين، يتصرفون فيها حسب ما تمليه المنفعة والمصلحة، وحسب مقاييس كل عصر. ولإضفاء المصداقية والشرعية على أطروحته، يشدد الجابري على ضرورة فصل الدين عن السياسة، في إشارة مبكرة إلى عدم توظيف الدين لخدمة أغراض سياسية. وعدم انخراط الجيش في الأحزاب، وإذا كانت العلمانية تعني فصل الدين عن الدولة، فإن الأمر غير ذات موضوع في الإسلام بالنسبة للجابري، لأنه لا توجد فيه كنيسة، وهذا ما يجعله يرفض، من الأساس، الحديث عن هذا الموضوع.
 

  • شارك الخبر