hit counter script

مقالات مختارة - آمال خليل

أربعينية معروف: «بي الفقير» ثابت في الذاكرة الشعبية

الخميس ١٥ شباط ٢٠١٥ - 07:00

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

الاخبار

يُنهي معروف سعد اليوم عامه الأربعين تحت التراب. يتصرف ورثته على أنه لم يمت. تنظيمه يعاند الرأسمالية والمذهبية والتقوقع. جزء من معاصريه بات يهتف لسواه، لكنّ «بيّ الفقير» لا يزال ثابتاً في الذاكرة الشعبية. تتناقل الأجيال حكاياه كالأساطير. يكفي أنه القاسم المشترك الوحيد حديثاً بين الأفرقاء الصيداويين. ليس اعتيادياً وقع ذكرى اغتيال معروف سعد هذا العام. أنهى المناضل أربعين عاماً شهيداً. شرارة الحرب الأهلية تُنهي معه، بعد أسابيع، يوبيلها الأربعيني.
إرثه الأكبر، التنظيم الشعبي الناصري، ميّز مناسبة اليوم بشعار: «أربعون عاماً والمسيرة مستمرة للدفاع عن قضايا الشعب وحماية الوطن». في مؤتمره الصحافي حول الذكرى، قال نجله، رئيس التنظيم أسامة سعد، إنها تحلّ «في وقت يواجه لبنان فيه والشعوب العربية تحديات العدوانية والصهيونية والطائفية والظلامية والإرهاب والأزمات المعيشية». تحديات كانت في زمن معروف. وإن لم تكن فجة، إلا أنها وجدت من يكافحها في مهدها.
على النطاق الصيداوي الضيق، ليست ذكرى الأربعين اعتيادية أبداً. تعود على وقع التقارب المستجد بين سعد والنائبة بهية الحريري. في مسيرة الوفاء للشهيد معروف، كان بعض المشاركين من التنظيم وحلفائه في المدينة يهتفون ضد الحريرية ويرفعون شعارات تهاجم نماذجها وعقائدها، برغم أن الرئيس رفيق الحريري تفاخر يوماً بأنه «معروفي الهوى».

عاماً بعد عام، كانت الهوة تكبر بين أيتام سعد وأيتام الحريري، لكن في مسيرة هذا العام، قد نجد شقيقته، النائبة بهية الحريري في مقدمة المسيرة التي ستتعقب خطى معروف حتى ساحة النجمة. في مؤتمره الصحافي، أطلق سعد الدعوة لكل من يرغب في المشاركة. سئل عن دعوة الحريري وتيار المستقبل على وجه الخصوص، فأكد أنه يرحب بمشاركة الجميع. لذا ليس مستبعداً أن ترى الحريري أن المناسبة تعنيها بسبب رمزية صاحبها في الوجدان الجماعي الصيداوي، أو في إطار «رد الإجر» على الأقل بعد تلبية سعد الجمعة الماضي دعوة الحريري إلى افتتاح أكاديمية «علا» في مبنى مدرسة عائشة أم المؤمنين. الدعوة وتلبيتها أراحتا المزاج العام. كأن الصيداوي تعب من الثنائية التنافسية، من سعد ــــ البزري إلى سعد ــــ الحريري، بعدما أرهقته في السنوات الأخيرة ثلاثية: سعد ــــ الحريري ــــ أحمد الأسير.

بستاني من وين أجا؟


أبو محمود القرص (علي حشيشو)
قاسٍ، الدرج الموصل إلى بيت أحمد القرص في صيدا القديمة. قساوة لا تتحملها سنواته الأربع والثمانون. الكرسي المدولب مركون في زاوية عند أسفل الدرج، تجيب من افتقد حضور أبو محمود في مقاهي ضهر المير وباب السرايا. الرجل الذي ارتبط اسمه صيداوياً بالشهيد معروف سعد، لم تنصفه الحياة كما لم تنصف المناضل الذي حمله على كتفيه. إذا ما سأله أحد عن ظهره المحدودب، يجيب: «قد ما حملت معروف سعد على أكتافي في التظاهرات والمناسبات»، إلا أن ثقل وزن «بيّ الفقير»، أخف بكثير من ثقل الأيام التي مرت من بعده. يحفظ وزنه، 138 كيلوغراماً، كما يحفظ عشرات الروايات والمشاهدات عنه مذ رافقه منذ الخمسينيات. لا تكتمل عبارة واحدة على لسانه من دون أن تقطعها حشرجة أبو محمود وغصّته على «الأستاذ» كما كان ينادى. أبو محمود مثل صيداويين كثر يعتقدون بأن رصاصة الجندي في الجيش التي أصابت معروف في تظاهرة الصيادين قتلته منذ اللحظة الأولى. يظن أن الهدف من تأجيل الإعلان عن موته أسبوعين «تجزئة الغضب الذي انفجر بعد أقل من شهرين حرباً أهلية طويلة».
مع سبعين شاباً، كانوا عمالاً في موقف البوابة الفوقا، قصد أبو محمود «الأستاذ» في بيته على ضفاف نهر سينيق. قال له: «نحن جماعة رمينا حالنا معك عشان ننقذ البلد وننتشلها من وجع الرأس ويقيمنا من الذل الي كنا فيه». والوجع لم يكن في الرأس، بل في أجساد الفقراء السقيمة ومصائب الصيادين والحرمان. «المياه تنقطع عندنا لتأتي في بيوت الأغنياء. تجار المواد الغذائية كانوا يبيعونها لغير الصيداويين لكي يرفعوا سعرها 50 قرشاً للكيلو الواحد، وشاحنة الطحين كانت تفرغ الأكياس في الكاراج في البوابة الفوقا، فيحملها أصحابها على ظهورهم حتى صيدا القديمة...». فرض رقابة على التجار ونقل موقع تفريغ الطحين إلى البلد ونظم جولات للكشف السري على المحال غير المطابقة. يروي أن شكوى وردته عن فرن يعيد عجن الخبز اليابس. تنكّر بزي رجل فقير وقصد الفرن منتصف الليل طالباً سد رمقه. رأى بعينه كيف أضاف صاحب الفرن فتات الخبز المبلول إلى العجّانة مع الطحين. أقفل الفرن وحبس صاحبه. اتفق الأغنياء ضده. «كانوا يحرّضون ضده ويؤلّبون عليه في الانتخابات: هالبستاني من وين أجا؟».
في ذاكرة الناس، كان معروف حائط مبكاهم. «المي الي بتنقطع تعا يا معروف. حدا بدو يتزوج تعا يا معروف. المزارعون المتضررون تعا يا معروف...». والده صاحب البستان أحمد سعد ووالدته جميلة عطية من درب السيم، صنعا النموذج الشعبي البسيط برغم تخرجه من الجامعة الوطنية في عاليه وتدريسه في الحجاز وبيروت وصيدا وحيفا ودمشق... حتى صار ناظراً في مدرسة المقاصد الإسلامية ثم نائباً ورئيس بلدية. أبو محمود حمله في التظاهرات والاعتصامات المتضامنة مع حقوق الصيادين والعمال والمزارعين والفقراء...


معروف كان
حائط مبكى الناس: المزارعون والعمال وحتى طالبو الزواج
من فوق كتفي أبو محمود، ألقى الشهيد معروف خطبة عن الغلاء في اعتصام في باب السرايا. لم ينتظر استجابة الدولة لتحسين أوضاع الفقراء. في عام 1964 أحيا تجمع البساتينية الذي تأسس في صيدا عام 1947، ثم أطلق أول حركة تجميع لعمال البحر وأنشأ لهم نقابة عام 1954. حي الكنان ورجال الأربعين يحفظان أثر الأستاذ معروف زائراً بيوت الصيادين ومنقذاً قواربهم من الغرق في العواصف. وساهم في إنشاء نقابات للقصابين والحلاقين وعمال شركة التابلاين والمصفاة وعمال المطابع والافران والمقاهي والمطاعم... في عام 1955، ضرب الزلزال صيدا، مدمراً البيوت في صيدا القديمة. طالب بإنشاء مصلحة التعمير وبناء مئة ألف مسكن في عين الحلوة، و500 في صيدا القديمة. أنشئت عام 1970 وشيد 14 الف مسكن فقط.
استشرف معروف سعد واقعنا الحالي. في يومياته التي كتبها عن رحلته إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1956 عندما كان ضابطاً في إطار بعثة تدريبية على مكافحة الإجرام. سجل في 20 تموز أنه «حضرنا حفل ملكة جمال العالم في لوس أنجلوس. جاء دور مس اسرائيل فأخذت تتكلم عن اسرائيل وتصورها الحمل الوديع. فازت مس أميركا باللقب وجاء دور اللبناني جامز بطرس صانع التاج ومصممه وكلف ربع مليون دولار يلبسها إياه». في يوم آخر من الرحلة ذاتها، ألقى خطاباً عن فلسطين في إحدى الساحات. استوقفه أجنبي قال له: «كل الطرق التي يسلكها العرب لا تفيد. بيدكم سلاح لو استعملتموه لركعتم اميركا، هو البترول». قبل النكبة، كان يقطع الطريق على الشاحنات التي تنقل البضائع إلى التجار اليهود في فلسطين. أطعم الفقراء منها، لكنه لم يحم فلسطين.
«الله يقصف عمر القناص» يرفع أبو محمود يديه إلى السماء مناجياً. يلوي جسده النحيل يميناً وشمالاً. يقترب من آلة التسجيل مستعيداً الشعار الأشهر والمختصر الذي فصل له وعدّل على وزن نجليه مصطفى وأسامة: «صيدا كلها لمعروف.. صيدا كلها لمعروف»، حتى ينقطع النفس.
 

  • شارك الخبر