hit counter script

مقالات مختارة - عبد اللطيف السعدون

لنرقص مع كوبا

الأربعاء ١٥ كانون الأول ٢٠١٤ - 06:46

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

العربي الجديد

في بداية رحلة "التيه"، كان علي أن أحط في مطار "خوسيه مارتي" في هافانا، قبل أن أستقل طائرة كوبية إلى كاراكاس. كان الوقت ليلاً، ولم يكن المطار يوحي بأنه يستقبل، أو يودع، طائرات، ثمة فضاء واسع أقرب إلى العتمة. تبدده، بين حين وحين، أضواء مشعة منبعثة من طائرة قادمة أو مغادرة، يشعر المرء معه أنه في بلد محاصر حقاً، لكن الصالة النظيفة واللامعة تعطيه انطباعاً مغايراً إلى حد ما، خصوصاً حين تغزو أذنيه ضربات رقصة "التشاتشاتشا" الكوبية الأصل، والتي عرفها العالم كله، والمنبعثة من أكثر من سماعة، وحسناوات المطار ورجاله يتحركن ويتحركون على وقعها، عيد الميلاد يقترب، ورأس السنة على الأبواب.
عندما يحين الجد، يحدق رجل الأمن في جوازي، يكتشف أنني قادم من بلد اسمه العراق، غزاه الأميركيون قبل شهور، قد لا يعرف شيئاً عن العراق، أو حتى عن العرب، على الرغم من أن خوسيه مارتي، الثائر والمفكر والشاعر الذي سمي مطار هافانا باسمه، وصف العرب بأنهم "كائنات رشيقة جذابة، تكون شعباً هو الأكثر نبلاً على وجه الأرض"، وكتب عنهم دواوين عديدة، منها "عبدالله" و"إسماعيل الصغير" و"هاجر" و"لؤلؤة".
ينادي رجل الأمن زميلاً له، يتحادثان بلغةٍ لا أفهمها، ثم يطلبان مني مرافقتهما إلى صالة أرضية، تضم حجرات مكاتب تبدو كأنها ملتصقة بعصر راحل. هناك، يستقبلني آخر يتكلم الانجليزية، يجري معي استجواباً خفيفاً. يبلغني، بعده، أنني وصلت متأخرا، وأن طائرتي إلى كاراكاس على وشك أن تقلع، وعلي انتظار طائرة أخرى غداً. بعد برهةٍ، خلتها دهراً استدرك، وهو يبتسم، أنه سيبذل جهده لتسهيل سفري، وسيوصلني بنفسه إلى الطائرة. فهمت الرسالة، أخرجت ورقة مائة دولار، قدمتها له: "هذه هدية الميلاد"، علت ثغره ابتسامة عريضة، اقتادني بيده إلى مكتب آخر ليضع الختم على جوازي، ثم ليرافقني إلى ساحة المطار، حتى باب الطائرة، ويودعني شاكراً. أدركت، آنذاك، أن الحياة لا تقاس بما تقوله الشعارات الثورية، وأن النظرية لا تكون خضراء دائماً.
سمح لي "التيه"، فيما بعد، بالتعرف إلى كوبيين، هنا أو هناك، بعضهم كان سقوط "الامبراطورية الأميركية" قاب قوسين أو أدنى، بالنسبة له، لكأن حماسه وثوريته كافيان وحدهما لتغيير العالم.
"
حمل آخرون مشاعر مختلطة، دفعتهم إلى التفكير في مشروع للتغيير، لكنهم يخشون نفوذاً أميركيا، يريدون تغييراً من داخل "الثورة
"
 غير هؤلاء وأولئك وضعوا أيديهم بأيدي الأميركيين، واستقروا على شواطئ ميامي، ينتظرون المراكب التي تقلهم، حين يأزف موعد غزو بلادهم الذي وعدتهم به واشنطن، لكي تأخذهم إليها، كما فعل نظراؤهم في العراق.
تداعت إلى ذاكرتي تلك الوقائع، وأنا أشهد، على شاشة التلفزيون، لحظة نادرة في تاريخ القارات الأميركية، اعتراف الأميركيين بثورة فيديل التي تجاهلوها أكثر من خمسة عقود. لم يعد ممكناً لهم لي عنق التاريخ، ووضع هافانا بيد خونتها. أفكر في دلالات الخطوة التي لم تكن في البال، أكتشف أن "صمود" الكوبيين وحده جعل الأميركيين يقرّون بأن استمرار القطيعة مع هافانا عبث. وحدهم الكوبيون كفيلون بإصلاح "الثقوب" التي حملتها تجربتهم، ولم تحرف خيارهم الوطني، ولم تدفعهم إلى طلب الحماية من واشنطن، كما فعل خونة العراق!
أتذكر كتاباً للمكسيكية- الكوبية، ألما غويليرموبريتو، عنوانه "لنرقص مع كوبا"، ضمنته خلاصة رؤيتها عن الثورة الكوبية: "كانت تجربة واعدة، لكنها تعرضت لإخفاقاتٍ كثيرة". جذبتها الشعارات الثورية الداعية إلى التغيير، لكنها اكتشفت أن الوقائع اليومية لا تعكس تلك الشعارات عملياً، ولم يدفعها ذلك إلى مد يدها، كما تقول، إلى أعداء كوبا، بل صمدت مع الكوبيين، فالتغيير يجب أن يأتي من داخل "الثورة"، وعلى يد أبنائها، وليس على يد الذين يريدون إخضاع كوبا للسيطرة الأميركية التي وصفتها بأنها "سيطرة وحشية وشرسة، تبدأ من السوبرماركت، ولا تنتهي عند غاليري الفنون"!
في هذه الأيام، تعود كوبا إلى الواجهة، تعلمنا درساً في "الصمود" الذي يصنع التغيير، يبقى ما هو محير حقاً، هو صمت "فيديل"، المعتكف حالياً، وتجاهله خطوة التطبيع مع "الامبراطورية الآيلة للسقوط والاندثار"، كما يحلو له أن يسميها. هو، بصمته وتجاهله، يبدو كما وصفه الراحل آرثر ميلر: "ساعة قديمة جميلة، لكنها لم تعد تعلن الوقت في أوانه"!
 

  • شارك الخبر