hit counter script

عراقيان من الموصل: نعيش جلجلة فهل من قيامة؟

الإثنين ١٥ تموز ٢٠١٤ - 09:51

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

لا يروي ذاك الشاب كثيراً عن ظروف هروبه مع شقيقه وزوجته من الموصل ومجيئه إلى لبنان. في ذهنه أن الرواية باتت مكررة، وقد حفظها ليس سكان المنطقة العربية فحسب، بل العالم بأسره. لا شكّ في أن ما عاناه مرعب، لكن يبقى أقل رعباً مما خبره مسيحيون آخرون من المنطقة، لم تحملهم ظروفهم إلى أماكن أبعد من مدن عراقية يختبرون فيها مرارة النزوح واللجوء.
جلس ذاك الشاب في المقعد الأخير في كاتدرائية الملاك رافائيل للكلدان في الحازمية وإلى جانبه شقيقته وشقيقه وصديق. بدا وكأن أفكاره مشتتة، أبحر فيها إلى حيث يودّ أن يكون. في المقعد الأول ممثلون عن الأحزاب والكنائس المختلفة قرروا المشاركة لتسجيل استنكار جديد يضاف إلى جملة الاستنكارات التي تلف الكرة الأرضية، بدءاً من الدول العظمى «الراعية للديموقراطية في العالم»، وصولاً إلى تلك التي ما خبرت إلا حاكماً واحداً.
تلك الاستنكارات، لا تنفع الشاب الصغير. لا تضع حدّاً لمعاناته ولا أفقاً لحياته المتوقفة حالياً.
بعد التأكيد على عدم ذكر اسمه، يروي أنه ترك الموصل خلال المهلة التي فرضتها عليهم «داعش»: «قالوا لنا هذه باتت أرضاً إسلامية وعليكم تركها إما إشهار إسلامكم». أضاف انه وشقيقه وزوجته كانوا من بين المحظوظين الذين لم تؤخذ منهم أوراقهم الثبوتية، وقد تمكنوا بمساعدة أصدقاء من السفر إلى لبنان حيث لجأت شقيقتهم وعائلتها منذ نحو السنتين.
يحلم الشاب بالهجرة إلى بلد غربي، فالعودة باتت مستحيلة والرسالة باتت واضحة: «لا مسيحيون في العراق». أوضح أنه قدّم ملفه إلى «المفوضية العليا لشؤون اللاجئين» لإعادة توطينه في أي بلد يضمن له حياة كريمة ومستقبلاً سالماً وآمناً، «فلبنان بلد باهظ وما من فرص عمل فيه. ومن الممكن أن يكون مصير المسيحيين فيه مثله مثل مصير المسيحيين في العراق».
لا يعرف الشاب عدد العراقيين الذين لجأوا من الموصل إلى لبنان، لكنّه يجزم أن عددهم ليس بكثير أبداً. يعلل تحليله بالإشارة إلى أن عناصر داعش أعطت مهلة ثلاثة أيام لإخلاء المنطقة وقد نهبوا وسرقوا ما يملكه المسيحيون، ومنعوهم من حمل الذهب أو الأموال أو حتى أوراقهم الثبوتية وأخرجوهم وهم يشتمونهم. كانوا يرتدون قمصاناً سوداء ولحاهم طويلة وقد نهبوا وكسروا الكنائس فما كان بالإمكان اللجوء إليها». ويشير إلى أن عدداً كبيراً من مسيحيي الموصل لجأ إلى كردستان وشمال العراق وتركيا... و«هم يدركون أن لا عودة إلى الديار».
بعد انتهاء القدّاس وقف الأب العراقي دنحا يوسف يستمع إلى مطالب أبناء الرعية، يحدثهم تارة بالعربية وتارة أخرى بلهجة غير مفهومة. يرد جازماً أنه «نعم، هناك مخطط لإفراغ العراق من مسيحييه وضعته الدول الداعمة للإرهاب، فالموصل أفرغ من أبنائه المسيحيين وكان عددهم نحو 35 ألفاً وحجزت أملاكهم ومورست بحقهم كل الممارسات البشعة من تنكيل وتعدّ وترحيل والكل بات على اطلاع بالفتاوى التي أصدرتها داعش في هذا المجال».
يعترف يوسف أن دور الكنيسة محدود، «فما يحدث أكبر من أن تصدّه قرارات وممارسات كنسية». ومع ذلك يتمنى أن يكون العراق محور لقاء سينودسي مسكوني، خصوصاً أن الاستنكارات وبيانات الدعم ما عادت تنفع. وهي في الأصل لن توقف النزف المسيحي من العراق».
يوضح أن عائلة الشاب هي الوحيدة التي لجأت إليهم بعد أحداث الموصل ولا يعرف إذا كان هناك من لجأ إلى كنائس أخرى «فالعراقيون في لبنان لديهم ست مرجعيات كنسية».
ويلفت إلى أن إمكانيات كنيسته محدودة، فهي تقدم مساعدات مالية وطبية ولكن من الصعب أن تؤمن مأوى للاجئين إليها. ويشير إلى أن أرقام المسيحيين الذين يتركون أو تركوا العراق صادمة «فنصف منطقة قرقوش وعددهم 50 ألفاً هم مشروع مهاجرين. وقد هاجر منذ العام 2007 عبر طريق المفوضية نحو 10 آلاف عائلة عراقية. مع الإشارة إلى أنه أيام صدام حسين بلغ عدد المسيحيين في العراق نحو مليون و600 ألف، أما اليوم فلم يبق منهم إلا نحو 350 ألفاً».
جلجلة من دون قيامة
يرفض الأب السرياني أن يذكر اسمه هو أيضاً، يبدأ حديثه بتحميل المسؤوليات إلى المرجعيات السياسية التي أولاها «راعية الديموقراطية أميركا والدول الحليفة التي أنهت نظام صدّام حسين الديكتاتوري لإرساء أنظمة جاهلية بربرية. ومن ثم تأتي الكنيستان الكاثوليكية والأرثوذكسية اللتان لم تدعما مسيحيي الشرق إلا بالكلام حتى باتوا مجموعة يمكن انتشالها وزرعها في أي تربة ترتئيها الدول العظمى». يؤلمه تشرذم أبناء المنطقة الواحدة «ضربوا الجذور ومبدأ العائلة، فهنا شقيق وشقيقة يعيشون في لبنان في انتظار إعادة توطينهما وعائلتيهما في بلد يجهلون حتى طقسه، بينما نجح أشقاؤهم بالهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية. كان والدهم يتواصل معهم من البلد الأم العراق ويصرّ على رواية أخبار أبنائه في لبنان إلى أبنائه في أميركا والعكس. مات من دون أن يرافقوه إلى مثواه الأخير. حزنوا كثيراً لكنهم كانوا دائماً يشعرون أن مقبرة الوالدين ستبقى الرابط بالوطن. جرفتها داعش. هذه جلجلة من دون قيامة».
يتولى الأب الاعتناء بعائلة عراقية وصلت من الموصل قبل أيام، يروي أن وضعها النفسي صعب جداً: «أب وأم وطفلان جرّدوا إلا من ملابسهم، قبل أن يتحنن عليهم أحد الأصدقاء في بغداد ويؤمن سفرهم إلى لبنان. تركوا عمراً في العراق وأتوا بحثاً عن مستقبل جديد لا يدرون متى يتحقق.
يشير الوالد إلى أنه يشعر وكأن أحدهم علّق حياته لفترة: «الانتظار يؤلم كثيراً. ماذا لو مرّت سنوات قبل أن يتم توطيننا في بلد جديد؟ شعور يقتل وكأن هناك وحشاً يلاحقني أينما حللت وينكّل بهويتي وبعائلتي ويقضي على ممتلكاتي وأيامي الجميلة ويفرّق عائلتي ويعاملني كحشرة أريد لها الانقراض. وولداي يكبران في بيئة موقتة وحياتي وزوجتي متوقفة إلى أجل غير مسمى. هذا موت أم جلجلة أم صلب؟ ربما هي جلجلة يليها صلب وبعدهما موت لا قيامة منه».
في القداس الاحتفالي أمس حمل أطفال عراقيون أعلام الفاتيكان وأعلاماً لبنانية ويافطات ردّوا فيها على «ن» «داعش»، فكتبوا عليها «نحترم»، «نتسامح»، «نحاور»، «نصفح»، «نغفر»، «نتضامن»، «نرحم»، «نحترم الآخر»... دخلوا الكاتدرائية على وقع أغنية «إيماني ساطع». وترأس الذبيحة الإلهية رئيس الطائفة الكلدانية في لبنان المطران ميشال قصرجي، فأشار في عظته إلى أن «التاريخ سيسجل أن الإسلام السياسي هو الذي هجّر مسيحيي العراق، وسيسجل التاريخ أن المسيحيين قبل خمس عشرة سنة كانوا أكثر من مليون ونصف المليون واليوم مع الديموقراطية الجديدة باتوا صفراً. وسيسجل أن الغرب يدعم الإرهاب في العراق»، قبل أن يطلق حملة التبرعات لدعم مسيحيي العراق.
مادونا سمعان - السفير

  • شارك الخبر