hit counter script
شريط الأحداث

- جهاد الملاح

الانحطاط... والانحطاط الآخر

الثلاثاء ١٥ حزيران ٢٠١٣ - 07:47

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

عاد مقدّم البرامج إلى منزله بعد منتصف الليل، وخلد إلى الفراش. لم يفلح في النوم، فالبسمة كانت تفاجئه كلما تذكّر العراك في برنامجه، وكلما تراءى إلى مخيّلته عشرات آلاف المشاهدين الذين تسمّروا على الشاشات. حاول أن يغمض عينيه، لكن عبارات الثناء و"التهنئة" التي تلقاها صوتاً وكتابة، لا تغادر ذهنه.
لم يستطع النوم، فجلس وحمل إحدى "شهادات التقدير" وراح يتأملها ويسرح في "نبوغه" الإعلامي وفي ما يؤديه إلى العلا، من رسالة في الإعلام. اتصل بصديق لسؤاله إذا كان برنامجه تفوّق على برامج أخرى في عدد المشاهدين، فسمع منه تأكيداً وجزماً، وأسمعه دعوة إلى الحلقة المقبلة!
أخذ نفساً عميقاً ثم عاد إلى الفراش، فشغلته من الآن، الحلقة المقبلة. قلّب في ذهنه لائحة الضيوف المحتملين، وهي بالطبع اللائحة ذاتها التي تتجمّد كل سنتين أو ثلاث، ريثما ينجح في دخولها من يثبت مشاكسة مذهبية وأخلاقية وانحطاطاً في لغة التخاطب والحوار ورفضاً لتقبل الرأي الآخر. غفا فجأة دون أن يستقرّ على أسماء، غير الصديق أعلاه.
إلى منزل آخر، عاد الضيف المشاكس، بعد حلقة مضنية. صوته لا يزال يخونه، على الرغم مما تناوله من حبوب على الطريق. لكنه أبى حتى الدخول إلى الفراش، فالوقت وقت الاحتفال. انتظر الاتصالات، وقرأ الرسائل النصية والتعليقات على "فيسبوك" و"تويتر": "يا مبَيّض وجه الطائفة" و"الله يحميك"، و"بهنيك بَرَشتو، يا كبير". ثم أعاد قراءتها مراراً، حتى أنه راح يتهجى الحروف للتمعن: "ب ر ا ف و ع ل ي ك!".
جلس على الكرسي الهزاز، ابتسم وانتشى، ثم ذهب إلى الفراش. وفجأة تأتيه رسالة أخرى، تقول: "عفاك، مكانك في البرلمان أو الحكومة". انتفض من سريره وعاد إلى الكرسي الهزاز، ليبتسم من جديد. وغفا وهو يتذكر شتائمه في البرنامج، متمتماً: "أنام ملء جفوني عن شواردها... ويسهر الخلق جرّاها ويختصم".
في اليوم التالي، عُرض أحد البرامج مجدداً، بالشتائم ذاتها، وبكل "ثقة وفخر وعزة". وبدأت التبريرات، منها أن المستضيفين لا يتحملون المسؤولية أو أن هذه البرامج تعكس حقيقة المجتمع.
ومن هذه التبريرات أيضاً ما يدلي به أحد مقدّمي البرامج، فيضع اللوم على المتلقي وليس على المصدر، إذ يقول: "نسمع أصواتاً كثيرة تقول ملّينا من السياسة ومن السجالات والصراخ والشتائم. ولكنّ الواقع هو للأسف معاكس لهذا الكلام. فعندما تُعرض حلقة تتضمن سجالاً عنيفاً وشتائم وعبارات تتخطّى حدود اللياقات، نجد في اليوم التالي نتائج الإحصاءات تؤكّد أنّ الحلقة كانت ضاربة وحصدت نسبة مشاهدة قياسية". ويضيف: "يفهّمونا الناس شو بدّن". ويوضح: "نحن في النهاية شأننا شأن أيّ وسيلة إعلامية، نقدّم مادّة نتوخّى من خلالها الوصول إلى أكبر عدد ممكن من المشاهدين، وهذا هدف كلّ وسيلة إعلامية وكلّ برنامج".
بكلمة أخرى، وكأن مقدمّي البرامج يقولون: "الناس تريد هذا الانحطاط، فما ذنبنا نحن؟ وهذه هي مادتنا، فما يهمّنها هو جذب المشاهدين فقط لا غير، أما الأخلاق واللياقات والقيم ومسألة المذهبية والطائفية، فلا نتوقف عندها".
بحسب الانتقادات الكثيرة التي ظهرت هذه المرة، من المفترض نظرياً، أن تلقى تلك البرامج قليلاً من المشاهدين في حلقاتها المقبلة وأنها سقطت بالضربة القاضية. لكن هل سيترفّع المنتقدون فعلاً عن متابعتها مجدداً؟
للأسف، تحوّل الكثير من اللبنانيين، بحكم الأمر الواقع، إلى متابعين دؤوبين، يتنقلون بين شاشة وأخرى، ليقضوا وقتاً طويلاً في الاستماع إلى أحاديث ونقاشات لا تقدّم ولا تؤخّر، ولا تتضمّن أي إخراج لافت أو سيناريو جذاب، وكثيراً ما تحمل رخصاً ونفاقاً ومغالاة وإساءة ومزايدة وشتائم، بعيداً عن الحوار البناء وأسلوب نقض الأفكار ودحضها بالحجج المضادة وبالأدلة والبراهين الواضحة.
فباستثناء الانحطاط الأخلاقي الذي يبدونه، ماذا يقدّم الضيوف؟ هم يعلنون مثلاً تنبؤاتهم الأكيدة حول مستقبل الأزمة السورية، بينما لا يعرف الرؤساء باراك أوباما وفلاديمير بوتين ومحمود أحمدي نجاد وبشار الأسد ومجلس الأمن ماذا سيحصل بالفعل. ثم يساهمون في تأجيج الفتن، ويسيئون إلى الدين باسم الدين، ويتحدثون في كل شيء ويفتون بما يريدون، ولا من يسأل عما استفاد منه المشاهد. أما المستضيف، فينتشي فخراً بـ"نجاحه" كلما سقط الحوار وأساء إلى السياسة والمواطن والقيم والأخلاق.
ومن المنطقي هنا التساؤل: أين القضاء؟ أيعجز عن ملاحقة "استديو"؟ أليس خرق القانون جليّاً؟ أم أن ما جرى يحتمل أيضاً فكرة "الرأي والرأي الآخر"؟

  • شارك الخبر