hit counter script

حديث العماد ميشال عون الى قناة "الميادين"

الإثنين ١٥ تشرين الأول ٢٠١٢ - 15:19

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

س: أريد أن أبدأ معك من المشرقيّة، فبعد توسّع حضور تعبير "المشرقيّة والمشرقيّون"، وتحوّله إلى كلمةٍ تقارب الكلمة الأيقونيّة المفتاحيّة، يبدو أنّ البعض ظنّ أنّ هذه الكلمة هي تعويذة مسيحيّة فقط، أو أنّ المشرقيّة هي مشرقيّة مسيحيّة. أنت، كيف ترى المشرقيّة؟
ج: أرى المشرقيّة ثقافةً إسلاميّةً مسيحيّةً، نتجت عن التّفاعل بين الدّيانتين. الدّيانة المسيحيّة هي الأقدم، وكان الفارق بين نشوء المسيحيّة والإسلام 622 عاماً. عند الدّعوة الإسلاميّة وتشابك الدّيانتين في العيش المشترك في المشرق، نتجت ثقافة معيّنة، تطوّرت مع الزّمن. وعلى الرّغم من كلّ المشاكل التي عصفت منطقة الشّرق الأوسط بعد سقوط الخلافة العبّاسيّة، إستطاعت هذه العلاقة أن تحافظ على وجودها ولم تسقط مع حكم الأغراب الذين دخلوا إلى المشرق العربي، بدءاً بالمغول، فالمماليك، ثمّ السلاجقة ومن بعدهم الفتح العثماني ليليه الفتح الأوروبي. نستطيع أن نضيف الصليبيّين أيضاً الذين أتوا مع السلاجقة، وأُطلِقت عليهم تسمية الصليبيّين لأنّهم يحملون إشارة الصّليب، وكانوا يُعرفون أيضاً بالفرنجة. كلّ هؤلاء أحدثوا الكثير من المشاكل في الشّرق، ولكن استطاعت الثّقافة المشتركة أن تتطوّر إيجاباً، ففي بعض الأحيان تكون مشرقةً كثيراً، وفي أحيانٍ أخرى تخبو قليلاً. وقد تبيّن ذلك في النّهضة العربيّة بعد كلّ المراحل المظلمة التي مرّت في المشرق العربي. تبيّن في النّهضة العربيّة أنّ هناك إستفاقة للثّقافة المشرقيّة.

س: كيف من الممكن جمع المسلمين والمسيحيّين على المشرقيّة؟ صحيحٌ أنّ الجغرافيا واحدة، ولكن هناك تبديّات في الإجتماع، وتبديّات في السياسة... نستطيع أن نقول "الخلافات حدّث ولا حرج". كيف من الممكن الخروج بخلاصة لما يجمع المسيحيّين والمسلمين في المفهوم المشرقي؟
ج: إذا عدنا الى النّصوص القرآنيّة الكريمة، نجد أنّه ليس هناك من مشكلة. نجد فيها الإعتراف بالآخر، ونجد دعوةً إلى الحياة المشتركة، ويظهر ذلك في اكثر من آية قرآنيّة وأكثر من سورة، بخاصة في سورة مريم بنت عمران والحجّ. كلّ هذه السّور تحمل دعوات للتّعايش وإحترام الآخر. إذاً التّخلّي عن هذه النّصوص وتفسيرها الصّحيح، هو الذي يخلق المشاكل، فيما العودة إلى النّصوص القرآنيّة تبعدها.

س: وإجتماعيّاً؟
ج: إجتماعيّاً، نلاحظ على سبيل المثال، أنّ الزّواج بين المسلمين والمسيحيّين ليس محرّماً. إذاً، الحياة المشتركة تتطوّر إيجاباً إذا قبلنا النّصوص المشتركة التي تدعو للعيش المشترك ولمحبّة القريب. المسيحيّة تدعو إلى محبّة القريب، والقريب هو أيّ إنسانٍ آخر بصرف النّظر عن دينه أو عرقه. والإسلام يدعو إلى الإنفتاح وخصوصاً على المسيحيّين، إذاً ليس هناك مشكلة في أساس العلاقة بين المسيحيّين والمسلمين. ولكن، لأسبابٍ سياسيّة وعلى مراحل مختلفة، خُلقت هذه العصبيّة والتي ترتكز على العصب السياسي وليس على الدّين، وأنا أعتبرها عصبيّات دينيّة وليست تديّناً، لأنّه في العصبيّات تكون الغرائز هي المحرّك الأساسي. من الطّبيعيّ أن يظهر المتزمّتون من حينٍ إلى آخر، ينحرفون بالمسلمين او بالمسيحيّين إلى التّطرّف. مجيء الفرنجة إلى هنا لم يكن طبيعيّاً، ففي الظاهر كان دينيّاً ولكنّه كان في الباطن إقتصاديّاً.

س: هل هناك فرنجة جدد؟
ج: بالطّبع. كلّ أميركا وأوروبّا هم فرنجة جدد.

س: بالعودة إلى الموضوع المشرقي. هذا المشرق هو خزّان للأقليّات، وبعضها أقليّات حاكمة، حتّى أنّ البعض يقول إنّ المشرق هو أقليّات ولا يوجد أكثريّات، أي أقليّات حاكمة في العراق وفي لبنان وفي سوريا. هل أنت مع تسويغ إعطاء المبرّرات لمفهوم الأقليات، وهل هذه المبرّرات تعني شيطنة مفهوم المواطنة؟ في السياسة، القليّة تعني أنّه لا يمكنك الحصول على كلّ الحقوق. هل هذا يعني شيطنة لمفهوم المواطنة؟
ج: بالمفهوم الدّيمقراطي والدّيمقراطيّة العدديّة، لا قيمة للأقليّات، ولكن بالمفهوم الإنساني، ليس هناك من أقليّات، هناك فقط حقوق إنسان ومواطنة؛ المواطنة تساوي بين الجميع بصرف النّظر عن المعتقد الدّيني أو العرقي أو السياسي فلا يعود هناك أقليات. إذاً، إمّا أن نعتمد المنطق الدّيمقراطي الذي يرتكز على العدديّة فقط، وهو عمليّاً لا يعبّر عن الدّيقراطيّة، وإمّا أن نعتمد منطق المواطنة التي تساوي بين الجميع. مفهوم الأقليّات يؤدّي إلى نوع من الفدراليّة ضمن الوطن الواحد، ونحن في لبنان نعيش فدراليّة طائفيّة، يطلقون عليها تسمية "الطّائفيّة السياسية"، ولكنّها نوع من الفدراليّة الطّائفيّة إذ أنّ هناك حقوقاً موزّعة على الطّوائف. هذه الفدراليّة ليست جغرافيّة ولكنّها إجتماعيّة. "الأقليّات" مفهوم يدلّ على فوارق بين أفراد المجتمع.
في العام 1993، في مقابلة صحفية لي مع "المحرّر نيوز" سُئلت عن موضوع الأقليّات في الشّرق، وعن رأيي ب"خوف الأقليّات في المشرق"، فقلت إنّ الخوف يأتي من عدم المساواة، لأن حقوق الأقليّات تأتي من عدم المساواة، والسّبب هو عدم وجود "حقوق إنسان" للأكثريّة، لنقول بعد ذلك إنّه ما من حقوق للأقلية. عندما يكون هناك نظام يرتكز على الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان، لا يعود هناك وجود لأقليّات، لأن المواطنة تصبح هي الأساس بدلاً من أن يكون الإنتساب إلى مجموعة طائفيّة معيّنة هو الأساس.

س: هل أنت مع تركيبة فكرة المكوّنات الإجتماعيّة بدلاً من الأقليّات؟
ج: أنا لا أقول "طوائف"، فالعبارة التي استعملها هي "مكوّنات المجتمع اللّبناني"، لأنّه من الممكن أن يكون هناك مواطنون خارج إطار الطوائف، ملحدون مثلاً أو علمانيّون مؤمنون يمارسون طقوسهم الدّينيّة، ولكنّهم لا يعترفون بالحكم الطّائفي.

س: هناك علاقة ملتبسة بين المسيحيّين المشرقيّين والغرب. هناك مسلمون يعتبرون المسيحيّين المشرقيّين "ديفريسوار"، شيئاً دخل بينهم.. وهناك غرب ينظر إلى المسيحيّين وكأنّهم هنود حمر. أنت تعرف الغرب جيّداً، كيف ينظر الغرب إلى المسيحيّين في المشرق؟
ج: في مرحلة معيّنة، أعتقد أنّه تمّ تكوين علاقة ثقافيّة بين الغرب والمسيحيّين، ولم يكن أساس العلاقات مرتكزاً على النفط والثّروات الطبيعيّة الموجودة حاليّاً في الشرق الأوسط. كان هناك بعثات علميّة طوّرت علاقات أكثر إنسانيّةً وعلميّةً من الوقت الحاضر. اليوم، إنقلبت المصالح لجهة الثّروات، وباتوا يرون مسيحيّي المشرق بصفتهم كميّة يمكن إهمالها، quantité négligeable" ، والأميركيّون لا يهتمّون بمسيحيّي لبنان ولا بمسيحيّي المشرق ككلّ، إذ نراهم اليوم يتعاطون من منظارٍ آخر، وهو ليس من باب التنوّع الثّقافي في المشرق أو المحافظة على كلّ شعوب المشرق، إنّما من باب المحافظة على أكثريّة، أيّاً كان نوعها، فالمهمّ أن تكون متعاونة معهم، غير آبهين بحقوق الإنسان التي ينادون بها في تصاريحهم.

س: برأيك، ألا يريد هذا الغرب أن يذهب المسيحيّون المشرقيّون إليه خوفاً من تراكم الحضور الإسلامي فيه؟
ج: لا شكّ في أنّ الغرب يعاني من تناقص سكّاني خصوصاً في أوروبا، وهذا التّناقص يجعله بحاجة ليد عاملة غير متخصّصة، وهذه اليد العاملة غير المتخصّصة، إلى جانب الفراغ السّكّاني الحاصل، دفعا تلك الدول الى دعوة الشّعوب الفقيرة نسبيّاً، كي تنتقل إلى أوروبّا وتملأ الفراغ السّكّاني. من المؤكّد أنّ الغرب يفضّل أن تكون هذه الشّعوب من المسيحيّين، لأنّ اندماجهم في المجتمعات الجديدة سيكون أسهل من إندماج المسلمين الّذين يحملون معهم تقاليدهم وعاداتهم الإجتماعيّة.

س: من يهجّر إذاً الأقليّات التّاريخيّة للأشوريّين والسريان والكلدان. ألمانيا مثلاً، تعطي آلاف التأشيرات والإقامات للنّازحين السّوريّين.
ج: هذا تهجير سياسيّ تحضيراً لحلولٍ معيّنة يريدون فرضها في الشرق الأوسط. قال كيسنجر في أحد الأيّام، "إنّ هناك شعباً فائضاً في لبنان، فهناك الفلسطينيون والإسرائيليون والمسيحيّون"، وكان على المسيحيّين دفع ثمن توطين الفلسطينيّين في البلدان العربيّة، ومن ثمّ، هم وبمزيجهم مع المسلمين يخلقون شبكة إتّصالات وتواصل ومصالح مع العالم الغربي الذي تعمل إسرائيل على استقطابه لتكون هي المرجعيّة الوحيدة في منطقة الشّرق الأوسط. من خلال هذه السياسة، والصّهيونيّة في العالم، ركّز الغرب تحت تأثير الصهيونية، على سحب المسيحيّين من الشّرق الأوسط، وذلك ظنّاً منهم أنّ إسرائيل قادرة على بناء حاجزٍ بينه وبين الغرب بعد مغادرة المسيحيّين.

س: بصراحة، هل المسيحيّون المشرقيّون مغرّبون؟ هل هم مغرّبون فعلاً؟ أو بالأحرى من غرّر بهم؟ هناك نزعات لدى البعض لأن يكون غربيّ الهوى.
ج: هذه النّظرة مغلوطة. لطالما كان الشّرف للمشرقيّين في "مسحنة" العالم. هم من حملوا رسالة السّيّد المسيح. في أيّ مجتمع نشأ السيّد المسيح؟ أين بشّر؟ من هم الرّسل؟ كيف تمدّدت المسيحيّة في العالم؟ إنطلقت من فلسطين بإتّجاه الأردن، فحوران، ثمّ إلتفّت على الأراضي السّوريّة...

س: ومن لبنان إلى إنطاكيا... وعلى السّاحل...
ج: وأيضاً دمشق، ثمّ حمص وحلب لتصل إلى إنطاكيا، كما أنّها دخلت في فرعٍ آخر بإتّجاه بلاد ما بين النّهرين. هذا هو الإنتشار الأوّل للدّيانة المسيحيّة، حتى عام 313 حين صدرت براءة ميلانو التي سمحت للمسيحيين بممارسة ديانتهم بشكلٍ علني ضمن الإمبراطورية الرّومانية.

س: وهذا التّغريب في المدرسة وفي العائلة، هل هو استسهالٌ للهجرة؟ في مدارسنا العربية منتفية، لا وجود لها، للأسف الشّديد يتعلّم أطفالنا العربي، إذا قُيّض لهم منزل يتعلّمون فيه. هذا التّغريب في الدراسة، ماذا يعني؟
ج: هذه ردود فعل، أي إذا لم يكن عقلك واضحاً ومتنوّراً فمن الممكن أن يؤخذ بهذه النّظرة؛ فهذه ردّة فعل على ظهور نوع من التّطرف الإسلامي التّكفيري.

س: قلت دائماً إنّ لا مسيحية في العالم دون القدس واليوم في فلسطين، القدس أصبح فيها المسيحيون 1% فقط، كانوا 53% عام 1948، أليس هذا تهجيراً؟
ج: هذا ليس فقط تهجيراً للمسيحيين بل للمسلمين أيضاً، لأنّه إلغاء لمعالم المسيحية من الأماكن المقدّسة، وأيضاً إلغاء للمعالم الاسلامية، كما يحصل في المسجد الأقصى تحت شعار بناء هيكل سليمان. كلّ هذه المحاولات هي تهجيرية، وهدفها إلغاء أكبر ديانتَين كونيتَين في العالم. هذا التّهجير الدّيني هو للدّيانتَين اللّتَين أتتا بعد اليهودية، فاليهودية لم تكن تنسجم معهما، هي ديانة منعزلة، ليست منفتحة على العالم مثل الإسلام ومثل المسيحية، ليست ديانة كونية بقدر ما هي ديانة انعزالية تقريباً. يريدون التّخلص من المعالم المسيحية والإسلامية حتى يتم تهويد فلسطين. هذا هو الهدف الأساسي. وكما سبق وقلنا إن إلغاء المسيحية من الشّرق هو إلغاء مكوّنٍ أساسي من مكوناته، ولا يمكننا أن نقول أقليات وأكثريات، فالمسيحيون كانوا أكثريةً في البداية، وصاروا أقلية. الشّعوب المكوّنة لمجتمع الشّرق الأوسط تقلّبت من أكثريات إلى أقليات، وبالعكس لاحقاً فلا أحد يعرف كيف ستتقلّب هذه الدّيموغرافيا. لذلك، غناها بتنوّعها، وأعتقد أنّ قدر الشّرق الأوسط بالصّعوبات الّتي يواجهها هو أنّه سبق العالم كلّه إلى التّنوع، لم يكن مجتمعاً أحادياً يرتكز على الدّين فقط، لم يكن أحادياً عرقياً.. أي أنّ نموذج التّعددية الّذي عاشه الشّرق الأوسط هو طبيعي، ومن دون أن يفلسفه أحد. هو النّموذج الّذي يحاول أن يعيشه باقي العالم المتحضّر اليوم. والمفارقة أن العالم يسير بما كنّا عليه نحن ليلغي لنا ما كنّا عليه!

س: هناك حراك شعبي يعتمد جزءٌ كبيرٌ منها نموذجاً إخوانياً من منطلق يقول إنّ الإسلام هو الحل، ربّما ذهب هذا الشّيء إلى مذهبة هذه الحركات. هل برأيك أيّ دين – بالمطلق – هو الحل بالشّأن السّياسي الإجتماعي، لا بل هل برأيك هناك رؤية إسلامية موحّدة للحكم؟
ج: أوّلاً لا توجد رؤية إسلامية موحّدة، ثانياً كلّ عودة إلى السّلفية بالمعنى السّياسي الإجتماعي تكون عودةً خاطئة، لأن لو كانت السّلفية هي الأصلح لإدارة المجتمع الحالي وللتّفكير السّياسي الحالي لَما أصبحت سلفية بل لبقيت واستمرّت. إذاً، أيّ حلّ من الماضي هو حلٌّ خطأ، إنّما الحلول الصّحيحة هي الّتي تتوخّى النّظرة المستقبلية والخيارات المستقبلية، أي أنّ الحياة لا تسير إلى الوراء بل تسير إلى الأمام، والرّؤية تفرض علينا الخيارات المستقبلية وليس السّلفية.

س: هنا ما هو دور الدّين؟
ج: للدّين دورٌ أساسي بما يتعلّق بالمبادئ الثّابتة والقيم الإنسانية الثّابتة الّتي تتعلّق بكرامة الإنسان وبحريته، بالعدالة، بالتّخلص من المساوئ الإجتماعية والفردية، هذا دور الدّين، أن يحفظ الإنسان على مستوى عالٍ، على مستوى القيم المطلقة وليس الإدارة اليومية. الإدارة اليومية تعود إلى عملٍ اجتماعي بين المواطنين. ليس مجرّد انتماء لدينٍ معيّن يحرمهم من النّظرة المستقبلية لتطوير حياتهم.

س: يستخدم البعض أي التّكفيريون السّلفيون مثلاً – وهم دون أدنى ريب موجودون في الشّارع – نصّاً مقتطعاً أو مجتزأً من السّياق التّاريخي وربّما الإيماني للنّص القرآني. هل يمكن للآخرين الّذين يقابلونهم أن يجتزأوا نصّاً آخراً؟ وإذا تمّ الإجتزاء، هل نصل إلى عملية صراع، وهذا الصّراع كيف يتبدّى اجتماعياً؟ أم هل علينا أن نأخذ النّص ككل ونعتمد عليه كمكوّن في هذه المنطقة؟
ج: في كلّ النّصوص الدّينية سياقٌ عام، وأحياناً فيها نتوءات. لا يجوز الخروج عن السّياق العام لكلّ الأركان الدّينية والأركان الأخلاقية، وكلّ ما يدعو إلى خير الإنسان وقريب الإنسان أي الإنسان الآخر هو شيءٌ ليس فقط مستحبّ بل هو من صلب الدّين. يقول الإمام علي: "النّاس صنفان: أخٌ لك في الدّين، ونظيرٌ لك في الخلق".
لا يمكن أن يكون هناك صراع ديني بين الإنسان والإنسان، بل يكون الخلاف سياسياً، على مواضيع لا علاقة لها بالدّين. الدّين لا يمنع التّلاقي ولا يمنع التّطور في سبيل خير الإنسان، إنّما المصالح هي الّتي تصطدم. وأحياناً هناك أشخاص في المجتمع يصبحون "كبش المحرقة" كي تفضّ المجموعات الكبرى مشكلاتها.

س: ولكن ها نحن نرى أنّ رجال دين يمارسون السّياسة والحكم من منظورٍ سياسي، وربمّا سياسي حاد أيضاً.
ج: هذا يُسّمّوه "فلتان"، إذ تكون الضّوابط الفكرية والضّوابط القِيَمية قد اختفت. نحن أيضاً في لبنان نعاني من هذا الموضوع، وهذا أدّى إلى إسفاف كثير وإلى هبوط بمستوى الخطاب السّياسي اليوم، فلم يعُد يوجد معالم ومعايير من خلالها يقدر الفرد أن يعبّر أو أن يتّخذ سلوكاً معيّناً.

س: ما يحصل الآن، هل هو نوعٌ من وعي أكثرياتٍ مذهبية في هذا العالم العربي، نسمع من يقول: "المارد قد قام"، وآخرٌ يقول إنّ هذه البحيرة كبرى، وهناك بحيرات صغيرة حولها...
ج: إذا كانت هذه الأكثريات نائمة، فبالتأكيد ليست الأقليات هي الّتي نوّمَتها. هي نائمة لأسبابٍ أخرى، لا علاقة للأقلية بها. الأقلية أيضاً نائمة مثلها، ولكن هنا على الإثنَين أن يتنشّطا ويرجعا سويّاً، لأنّ كلّ صدام بين مكوّنات مجتمعٍ معيّن سيضرب الإستقرار، وطبعاً لمصلحة من؟ من يغذّيها الآن؟ ألا نجد أنّ الصّراع القائم الآن في الشّرق الأوسط صار صراعاً دَوليّاً كبيراً وعالياً؟ لأنّهم استعملوا الصّراعات المذهبية واستعملوا الفوارق، الّتي يمكن أن تغني شعباً متنوعاً إذا تمكّن من جمعها.. ولكن ما يحاولون القيام بعه هو ضرب الفوارق ببعضها من منطلق "قرّق تسد" ! أليس كلّ مجتمع متجانس دينياً فيه فوراق ومشكلات؟ ماذا عن ليبيا؟ وتونس؟ كلّهم من مذهبٍ واحد، من ديانةٍ واحدة.

س: لكن المجتمع المشرقي هو مجتمع متنوّع.
ج: التّنوع لا يعني المشاكل. هناك مجتمعات كلّها حجرٌ واحد، متماسكة دينياً ولكن الخلافات تشقّقها، فكيف تمذهب الدّين؟ الدّين تمذهب أيضاً! الدّين كان ديناً واحداً وانتشر كدينٍ واحد، بعدها تمذهب. تمذهب لأنّ السّياسة مذهبَته، وليس النّصوص الدّينية. ثمّ صارت هناك خلافات، كي تُبَرّر المذهبية صار هناك اختلافٌ بتفسير النّصوص والإجتهادات.

س: إذن أنت تحيل الخلاف إلى خارج النّص، تضعه في السّياق السّياسي.
ج: بالتّأكيد. تماماً.

س: إذاً هنا المطلوب فصل الدّين عن الدّولة.
ج: فصل الدّين عن السّياسة.

س: نعم فالدّولة ممكن أن يكون فيها الكثير من المكوّنات الدّينية.
ج: أنا علماني، ولكن علمانيتنا تختلف.

س: الدّولة كحاضنة لكلّ مكوّنات المجتمع، إذا بقينا على هذه الشّاكلة أي كما تتحدّث عن شمال أفريقيا، فنحن ذاهبون إذاً إلى شرخٍ في السّياسة أكثر ما هو في الدّين؟
ج: دائماً الشّرخ في السّياسة. الدّيانة الواحدة تمذهبت لأنّهم اختلفوا سياسياً.

س: هناك نموذج إسلامي تركي بربطة عنق، ينظر إليه الكثيرون وكأنّه نموذجٌ مخلّصٌ لأكثريةٍ ما، ويتمّ تسويقه. هل هذا النّموذج التّركي بربطة العنق هو قابلٌ للحياة في المشرق؟
ج: هناك نوعٌ من الدّول كتركيا مثلاً تتأقلم من ناحية المظهر مع الدّول الأوروبية، أما من ناحية المضمون فتتكلّم باللّغة المشرقية الإسلامية. إذاً دائماً هناك لغةٌ متأقلمة مع الشّعب الّذي تريد أن تخاطبه صاحبة اللّغة، أي أنّها تخاطب جمهورها بلغة والآخرين بلغةٍ أخرى.

س: أليس هذا خارج إطار الأخلاق السّياسية؟ أليس هذا نوعٌ من الثّعلبة السّياسية؟
ج: بالتّأكيد، فالأهداف مضمرة وليست معلنة. هناك أهدافٌ معلنة، ولكن الأهداف الحقيقية هي مضمرة ولا تظهر إلا بعدما يكون قد فات الأوان .

س: برأيك نحن ماذا أخذنا من الإسلام العثماني؟
ج: كانت مرحلةً ظلامية. بالنّسبة إلينا نحن، أخذنا الجوع، أخذنا الدّولة الّتي تفرض علينا الجزية والضّرائب، أخذنا نظام أقليات بعد تدخّل دول أجنبية وفرض محميات علينا؛ أي أنّنا كرّسنا وضعاً طائفياً بدل أن نكرّس وضعاً وطنياً ومواطنة. أيام فخر الدّين، كلّ اللّبنانيين اجتمعوا وحاربوا العثمانيين، وكانوا سنّة وشيعة ومسيحيين وموارنة.. كانوا شعباً مواطناً، ثمّ بعد الحركة العثمانية ومجازر عام 1860، صارت هناك مداخلات غربية وكلّ دولة أخذت ما أمكنها من نفوذ على الأرض اللّبنانية.

س: برأيك هل هذا النّوع من الإسلام يضحك على الغرب؟ أو يظن نفسه يضحك على الغرب؟
ج: هو يؤمّن مصالح الغرب ولكن يستفيد من هذه المصالح المؤجّلة للغرب فيتمدّد ليكسب مصالح أخرى في البلاد الإسلامية.

س: الرّئيس رجب طيب أروغان منذ مدّة تناول بيزنطيا بكلامٍ طائفي - بغضّ النّظر عن أنّ البيزنطيين قد حكموا هذا المشرق ألف عام -، ولكن القسطنطينية كقسطنطينية، قسطنطينية المسارح، المتاحف، الأفران – لمدّة 300 عام كانت تطعم النّاس مجّاناً -، كيف تقارنها باسطنبول السّلطنة؟
ج: هناك عالمان. اسطنبول السّلطنة عالمٌ آخر. هناك فرقٌ كبير بين الإثنَين. كانت قد وصلت القسطنطينية إلى درجةٍ متقدمة من الحضارة والوعي والثّقافة، كان عندها تاريخ، بينما لم يكن للسّلطنة تاريخ بل نشأت من قبائل وتجمّعت تقاليدها وعاداتها. هناك مسلسلٌ تركي يُعرَض حالياً اسمه "حريم السّلطان" يظهّر الواقع الاجتماعي في السلطنة، وحياة الجواري والسّلطان، هذا مجتمعٌ نقيض للمجتمع القسطنطيني، كما أنّ درجة الحضارة والرّقي الّذي وصلَت إليها القسطنطينية في حينه كانت تحفة العالم من ناحية البناء ومن ناحية الفكر، ونقلت التّراث الرّومي إلى الإسلام.

س: هل هناك شعور بأنّ أحداً ما يضمر ذمّيةً اجتماعيةً أو سياسية خلف هذا الشّعور الإسلامي العثماني، أي الآن مصر تحبّذ النّموذج التّركي، ليبيا تحبّذ النّموذج التّركي، تونس تحبّذ النّموذج التّركي.. هل يضمر هذا ذمّيةً برأيك؟
ج: هذه الدول أمام خيارين، فإما أن يكون فيها مواطنة تحفظ حقوق الجميع، وإما ستتكوّن فدراليات طائفية للمحافظة على الأقليات. وخلاف لذلك لا يوجد حل. وحتى لو تكوّنت فدراليات فيجب أن تسعى باتّجاه الإنصهار. يحصل هذا الإنصهار باقتباسٍ متبادل، فيختار الإنسان من عند الآخر ما يراه مناسباً له.
خذ مثلاً اللّهجات اللّبنانية، في الماضي كانت اللهجات تختلف حتى في القرى المتجاورة، فمثلاً ابن عاليه له لهجة تختلف عن لهجة ابن بحمدون، وابن حارة حريك يتميّز باللّهجة عن ابن برج البراجنة.. ! حتى باللّهجة كان هناك اختلاف.. الآن اختفت اللّهجات الخاصة باتجاه لهجة عامة ساعدت عليها الإذاعات والتّلفزيونات والمدارس..
أنا ابن الضاحية، وأذكر أننا كنا نتقاسم العادات والتقاليد نفسها نحن والمسلمين، بالطبع كان لكل منا خصوصياته لكن القسم الأكبر المشترك كان أكبر من الخصويات بكثير.

س: ماذا تعني العلمانيّة بالنّسبة إليك؟
ج: العلمانيّة بالنّسبة إلي تعني ثلاثة أمور؛ فصل الدّين عن السّياسة، فالدّين علاقةٌ عاموديّة بين الإنسان والخالق، بينما السّياسة هي عقدٌ إجتماعي وعلاقة أفقيّة بين مكوّنات المجتمع الذي يمكن أن يتألّف من ديانات وأعراق مختلفة. لذلك في الإسلام وفي المسيحيّة، ليس هناك إدانة للجماعة إنّما للفرد ولا أحد يشفع بأحد عند الآخرة. على هذا الأساس كلٌّ يُحاسب بحسب أعماله. هذا من ناحيّة الشّكل. من ناحية أخرى، حتّى تعيش العلمانيّة، يجب أن تَحترم مبادئ أساسيّة، أوّلاً: حرّية المعتقد لجميع مكوّنات المجتمع لأنّ علمانيّتنا التي نؤمن بها ليست مُلحدة بل علمانيّة مؤمنة أو علمانيّة إيمانيّة، فلا نتعرّض للمعتقد، إذ ليس لنا الحق في أن نفصل أو ندين، فإذا أراد أحدهم أن يكون مُلحداً فذلك شأنه، والله وهو الذي يفصل بين النّاس يوم الدّين ، فطالما يحترم العقد الإجتماعي فإنّ الدّيان هو المسؤول عن العلاقة العاموديّة.
ثمّ في حرّية المعتقد هناك حقّ الإختلاف، وهنا تأتي التعدّدية السياسيّة وحقّ التعبير. هذه الحريّات الثلاث الأساسيّة هي التي تستطيع أن تؤسّس لنظام علماني فيه مساواة بين مكوّنات المجتمع بدون فوارق، وهذا ما يؤمّن استقرار المجتمع بالأساس.

س: هل يقبل المسلمون بالعلمانيّة، أم نحتاج إلى عقدٍ إجتماعيٍّ جديد لوضع مفهوم العلمانيّة في سكّة العلاقة الدّولتية أو العلاقة داخل الدّولة؟
ج: يجوز ألاّ يقبلوا بالعلمانيّة حاليّاً ولكنّ سنّة التطوّر ستفرض قبولها نظاماً وسلوكاً أيضاً، وهذا الأمر يتطلّب تطوُّراً معيناً. ربّما سنترك الوقت كي يترك هذا الموضوع لينضج في المجتمع، لأنّه من الصّعب جدّاً اليوم التغيير بسرعة، لأنّ كل تغييرٍ يثيرُ جوّاً من القلق عند الناس. فالمريض الذي اعتاد على حالته، إذا استيقظ ذات يومٍ ووجد أن ألمه زال عنه ولا يشعر به، يقلق ويظنُّ أنّ ذلك أمرٌ غير طبيعي، ويظنُّ نفسه انتقل إلى حالةٍ مرضيةٍ ثانية.

س: ألا تخاف أن يكون أحياناً التاريخُ دائريّاً وأن تعود الدّولة الدينيّة؟
ج: مطلقاً، لأن التاريخ ليس دائريّاً، هو كالحياة، فبين الرحم واللحد خطٌّ مستقيم. إذا أردنا أن نبحث في الدّيانات بحثاً فلسفيّاً فنرى أنّ أساس التطوّر يندرج أيضاً في نظرة الإنسان للإله، فالتجلّي الإلهي كان أيضاً متدرّجاً، إذ لم يُنظر إلى الخالق نظرةً واحدة في كل المراحل. يمكن أن يكون الله قد أراد للإنسان أن يتطوّر بفكره حتّى يصل إلى درجة التجلّي النّهائي، إلى الإله الواحد الذي نعبده وهو خارج الطّبيعة ما بعد المادّة. فحتّى العلاقة مع الله قد تطوّرت، فكان في البداية من المظاهر الطبيعيّة وتطوّر إلى الله الواحد الماورائي، وقد كانت العلاقة معه بدايةً علاقةَ خوفٍ ورعب مع اليهودية ولكنّها أمست علاقة محبّةٍ مع المسيحيّة وعلاقة رحمةٍ مع الإسلام. فإذا نظرنا إلى هذه المسارات يجب أن نؤمن عندئذٍ أن التاريخ سيتقدّم إلى الأمام وسيتطوّر من السيئ إلى الأفضل باتّجاه الخير.

س: يتنامى الكلام دائماً عن مفهوم الآخر، أهل هناك آخر في الوطن؟
ج: الآخر هو أخوك.

س: إنه أنت..
ج: إنّه أنا، إنّه أنت، أنا وأنت. كلُّ واحدٍ منّا هو الآخر.

س: إذاً في الوطن لا يوجد آخر..
ج: الآخر بمعنى احترام خصوصيّة الفرد. الإنسان مخلوقٌ مبني على الفرادة أي أنّ جميعنا لدينا مكوّن الإنسان في وجهنا ومظهرنا ولكن جميع البشر الذين بلغوا ال7 مليار في تشرين العام الماضي، كلُّ واحدٍ فيهم له صورةٌ وبصمة إصبعٍ وبصمة عينٍ ونبرة صوتٍ مختلفة، إذاً، فلكلّ إنسان طبيعةٌ مبنيّةٌ على الفرادة. اثنان من نفس المذهب ليس لهم نفس كثافة الشّعور بالإيمان بالديانة التي ينتميان إليها. هذه فرادة الإنسان.
هناك شقٌّ مشتركٌ مع الآخر هو الشقُّ الإنساني الذي يجمعه فيه كإنسان، كفكر، كالميل الطّبيعي إلى الحياة الإجتماعيّة. كل تلك الأمور تكوّن الإنسان، لذلك فنحن جميعنا نولد ونموت متساوين، نولد ونموت كبعضنا البعض ولكن نعيش بطريقةٍ مختلفة، والحياة والإدارة والسّياسة.. هي فنّ إدارة حقّ الإختلاف للأفراد في المجتمع.
في رثاء ملكة فرنسا Marie de France قال المطران Bossuet : "إبنة ملك، زوجة ملك، شقيقة ملك وأمُّ ملك، باطلُ الأباطيل وكلُّ شيءٍ في الدنيا باطل." لقد كانت في القمّة ولكنّها في النّهاية نامت على خشبة. كذلك عندما ماتت إبنة ديغول وكانت "منغولية" قال "elle est devenue comme tout le monde" أصبحت كجميع الناس، فهي قد صعدت من الأسفل ونامت بجانب الملكة. إذاً، يمكن أن نعيش الكثير من الفوارق في حياتنا غير أنّ بدايتنا ونهايتنا هي نفسها لجميعنا.

س: في هذه المنطقة من العالم نقول ونكرّر عبارة "آخر". عندما نكرّر مفهوم الآخر، نكرّر مفهوم الإختلاف بمعنى خلاف جذري..
ج: هذا خلاف وليس اختلافاً. الكلمات في اللغة الفرنسيّة أو الإنكليزيّة تعطي معنىً أوضح، فالخلاف هو ال"conflit" أو "conflict" ، أمّا الإختلاف فهو ال"difference"، بحيث هناك ما يُسمّى بحق الإختلاف أو "droit a la difference" وليس حقّ الخلاف. أمّا حق الإختلاف فيفرض أن نتبادل بأفضل ما لدينا وليس الأسوأ.

س: لقد انكفأ المسيحيّون النهضويّون والتنويريّون بعد الإستقلالات العربيّة، فقد كان هناك حالة تنوير في نهاية غروب شمس الدّولة العثمانيّة استمرت إلى مرحلة الإستقلالات ثمّ انكفأوا. لماذا حصل ذلك برأيك؟
ج: انكفأوا ربّما لأنّ المخاطر التي عاشوها مع المسلمين من قبل لم تعد هي نفسها وخصوصاً عندما كان هناك حملة التتريك للدّول الإسلاميّة، وقاومها المسيحيّون الذين وضعوا أسس القوميّة العربية. والقوميّة تجمع أكثر من الحضارات الدّينية التي تريد أن تبني دولةً، القوميّة تجمع دياناتٍ واعراقَ مختلفة بينما الدينيّة قد تجمعُ أعراقاً وشعوباً مختلفة ولكنّها لا تجمع الأديان المختلفة.

س: لماذا لا يوجد تنويريّون جدد الآن في ظلّ حالة التتريك الجديد ؟
ج: نحن نسعى إلى ذلك. 

  • شارك الخبر