hit counter script

كلمة العماد ميشال عون في الذكرى السابعة لعودته الى لبنان

الأحد ١٥ أيار ٢٠١٢ - 16:55

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

أنتم اليوم شعب لبنان العظيم، وبهذه الصّفة سأناديكم:

 يا شعب لبنان العظيم!

أريد أن أخاطب عقلكم اليوم أكثر من عاطفتكم. لذلك، أتمنّى أن تصغوا لأنّ الموضوع هو موضوع قناعات يجب أن تمرّ ولا تضيع بالهيصة.

نحن، في حياتنا الوطنية بكينا جماعيّاً مرّتَين، المرّة الأولى كانت في 13 تشرين 1990 وكانت دموع الحزن على ما جرى وعلى الكارثة، ودموع الألم على فراقِ شعبٍ أحبّنا وأحبَبناه. وفي كلّ عام نحتفل بتلك الذّكرى تكريماً لشهدائنا الّذين رسّخوا في داخل الوطن وفي قلوبكم القيم الّتي دافعنا عنها دائماً وبخاصة منذ العام 1988 ولغاية اليوم؛ تلك القيَم الّتي لم ننقطع عنها ولا لحظة، والّتي قد تكون هي المشكلة الحقيقية الّتي تجعلنا نصطدم مع الآخرين لأنّنا شعبٌ يريد أن يبني دولةَ القيَم والنّزاهة، دولة محاربة الفساد الّذي أصبح جزءاً من بنية الدّولة. ومن هنا تتأتّى مشكلاتنا.

عدنا، في 7 أيار 2005، ويومها بكينا مرّةً ثانية، وكانت دموع الفرح ودموع لقاء الأحبّة. رجعنا كي نلتقي بشعبٍ أماتَته الحاجة وأركعَه الخوف وأفقرَه الحكّام وقتلوا فيه روح المقاومة. لم تكُن العودة سهلة كما يتصوّر البعض، حتّى أعضاء التّيار، لأنّنا كتمنا لمدّةٍ غير وجيزة ما حصل؛ أما اليوم فسأتحدّث عن كلّ الأحداث الّتي مرّت منذ العام 2005 وحتى العام 2012.

في العام 2005 وبعد اغتيال الرّئيس رفيق الحريري،. دُعيت إلى تناول طعام الفطور مع وفدٍ قادمٍ من لبنان إلى باريس، وأحسَستُ وكأنّها تقدير ودعوة إلى العودة إلى لبنان، فذهبنا إلى الفطور وكان الجوّ عائليّاً وأهدونيfoulard المعارضة باللّونَين الأبيض والأحمر، والّذي كان يحمله كثيرون عندها. ظننت أنّ هذا اعترافٌ منهم بحمل مشعل 14 آذار الّذي أسّسنا له في العام 1989. ولكن، بعد أيّام وصلَنا من أصدقائنا الفرنسيين بأنّ الوفد توجّه بعد اللقاء معي إلى وزارة الخارجية الفرنسية ليطلب عرقلة عودتي إلى لبنان قبل الإنتخابات النّيابية!! وكأنّهم كانوا يريدون منعكم من المشاركة في الحياة العامة وفي السّياسة، وذلك كي تظلّوا مهمّشين، أو على الأقل كي يُضعفوكم حتى لا تقدروا أن تجمعوا قواكم لتصبحوا قوّةً لها قدرُها ولها تأثيرُها في هذه الحياة العامة. أما الfoulard الّذي أعطَوني إيّاه، فشبّهتُه في ما بعد بقبلة "يوضاس" للسّيد المسيح.

طبعاً لم تتوقف المؤامرة هناك، لأنّ السّياسة كانت أيضاً فرنسية-أميركية. عندما وصلتُ إلى لبنان، رحّبوا بنا، وأنا شكرت الجميع سلفاً وطلبت ألا يتوجّه أحد من السياسيين إلى ساحة الشّهداء لاستقبالي. ومن يريد يستطيع أن يهنّئني بالعودة في البيت؛ كنت واضحاً يومها، لأنّي لم أكن أقبل أن يستغل أحد هذه المناسبة ويخادعَني بحضوره بعد أن عرفت كلّ نواياه! ولكن كان من الصّعب عليّ أن آخذ الموقف الملائم علناً لأنّكم كنتُم ستضعون علامات استفهام وتتساءلون "لماذا فعل الجنرال هكذا؟".. ترَكتُ الموضوع غير معلن وعالجتُه بأسلوبي الخاص، حتى تتأكّدوا أنتم من خلال الأعمال والأقوال في ما بعد ماذا كانت غاياته.

وليد جنبلاط كان صريحاً، ولم يستقبلني وقال عندما كنتُ في الطّائرة إنّني "تسونامي"، وخلال المحادثات الّتي قمنا بها مع مندوبه الّذي كان يفاوضني، الوزير السّابق مروان حمادة، وأيضاً النّائب غطّاس الخوري فهمتُ أنّ هناك موضوع تحجيم، إذا قبلت بهذا التّحجيم فأهلاً وسهلاً بي! قالوا كلاماً غير لائق وغير مقبول، ولكنّهم لم يعتبروه كذلك لأنّهم يستعملونه عادة مع الآخرين! قالوا: "منعطيك هالقد بجبل لبنان، وهالقد بالشّمال، وهلقد في البقاع.."، فأجبتُهم: "أنا آخذ ولستُم أنتم من يعطيني!" وانتهى الحديث، وكانت آخر جلسة.

وبعد ذلك عندما بدأنا بتأليف لوائح الإنتخابات، وكانوا كلّهم يسايروننا، بمن فيهم مرشّحي كسروان الّذين كانوا في الجهة المقابلة لنا في انتخابات 2005، ومنهم من الأقطاب الّذين توجّهوا إلى باريس كي يفاوضوني بتأليف لائحة أو بالأحرى كي يعلنوا عن أنفسهم أنّهم مرشّحون على لائحتي، اكتشفنا أنّ الحلف الرّباعي لم يكُن رباعيّاً، بل كان ثُمانياً! انضمّت إليه كلّ الأحزاب المسيحية يومها بما فيها قرنة شهوان،

وحصلت الإنتخابات، تألّفت كتلة التّغيير والإصلاح وكان معنا فيها الكتلة الشّعبية والطّاشناق، الكتلة الشّعبية أي كتلة زحلة، وحزب الطّاشناق، ودولة الرّئيس ميشال المر الّذي أحبّ أن ينضمّ إلينا. ولكن أثناء تأليف الحكومة، حاولوا ضرب التّكتل في بدايته، حاولوا أن يستقطبونا بمقاعد وزارية لنا ويستبعدوا بطريقة ثأرية الوزير السّابق إيلي سكاف وحزب الطّاشناق لأنهم كانوا على خلاف معهم.

وعلى الرَّغم من إصرارنا أنّه في حكومة وحدة وطنية لا يجب أن تُعتَمد السّياسة الإنتقامية، فالسّياسة الثّأرية لا يمكن أن تكون قاعدة لتأليف الحكومات الّتي تمثّل الوحدة الوطنية، ظلوا على موقفهم، فكان الإنشقاق في تأليف أوّل حكومة لأنّنا لم نشارك بها، وكنّا في حينه نمثّل 70% من المسيحيين.

بدأوا بالأداء السّيء منذ البداية بحكومةٍ موتورة ومبتورة، وهي لم تتحوّل كذلك عندما انسحب منها أصدقاؤنا الوزراء الشّيعة، بل هي كذلك مذ تألّفت. وعندما استقال وزراء حركة أمل وحزب الله أصبحت لاغية، لأنّ عنصرَين من أصل ثلاثة من كبرى مكوّنات المجتمع اللّبناني لم يكونا فيها. وعلى الرَّغم من ذلك قبلنا باللّعبة الدّيمقراطية، ولكن رئيس الحكومة صار يتصرّف وكأننا لسنا موجودين! قلنا له عدّة مرّات إنّنا، المعارضة خارج الحكومة، لكننا لسنا خارج الوطن! وعليك أن تشاورَنا وتتكلّم معنا في كلّ القضايا الّتي تهمّ لبنان ككل وبخاصة في السّياسة الخارجية. ولكنهم لم يتعودوا أن يكون لديهم معارِض في لبنان، فلم يسمعوا ما نقوله لا في مجلس النّواب ولا في الأوساط السّياسية، فذكّرونا بقول أبي العلاء المعرّي: "لقد أسمَعتَ لو ناديت حيّاً ولكن لا حياة لمن تنادي."

وأوّل بدعة ارتكبها مجلس النّواب، هذا المجلس الحريص على التّشريع وعلى مراقبة الحكومة.. اتخاذه قراراً بحلّ المجلس الدّستوري عبر أكثريةٍ مطعون أصلاً فيها! الطعنٌ كان ب 12 مقعداً نيابياً، وكان البتّ بها سيغير الأكثرية. ولكن خوفهم من الإرتكابات التي قاموا بها أثناء الإنتخابات جعلهم يستبقوننا باتّخاذ قرارٍ غير شرعي في مجلس النّواب وحلوا المجلس الدستوري. طعَنّا في هذا القانون وربحنا، ولكن أعضاء المجلس الدّستوري اعتكفوا، واعتكفت الحكومة ومجلس النّواب عن تعيين مجلس دستوري جديد، وهكذا هرّبوا 4 أعوام من حياتنا البرلمانية بدون مجلسٍ دستوري، فلتحيا الدّيمقراطية الّتي يدافعون عنها! هذه الدّيمقراطية الّتي تربّوا عليها في ظلّ التّعصب والدّيكتاتورية.

تخطّينا كلّ هذه الأمور لنتمكن من التّحاور مع كل الأفرقاء، وبدأنا مع تيار المستقبل بمبادرة حسن نية من قبلنا. ولكن، تبيّن لنا أنّ هناك خلافاً جذريّاً بيننا وبينه، خصوصاً في مفهوم الشّراكة والتّوازن في السّلطة، فسياستهم كانت احتوائية وليست تعاوناً لجمع الشّمل، لذلك فشل الحوار معهم.

كان قرارنا أن نتحاور مع جميع مكوّنات الوطن، لأنّه خلال وجودي في أوروبا وباحتكاكي مع السّياسة الأوروبية والأميركية، عرفت ما هي الأخطار الّتي تحدّق بلبنان في حينه والّتي من الممكن أن تؤدّي إلى تدميره، لأنّه لم يُحَصّن لا بتمثيله السّياسي ولا بوحدة شعبه، فلبنان تحوّل وما زال، إلى شركة مساهمة والمواطنون زبائن عندهم! لا يوجد مواطنون بل زبائن، كلّنا اليوم زبائن يجب أن يجنوا منّا الأرباح! وُضِعَت اليد على بيروت ووُضِعَت اليد على الشّركات، وأصبحت الحكومة مجلساً تنفيذياً لإدارة "سوليدير"! إذا عدنا إلى المراسيم والقوانين الّتي سُنّت إلى "سوليدير" نلاحظ أنّ الحكومة هي بالفعل مجلس الإدارة لهذه الشّركة الّتي أخذت بيروت من أصحابها الحقيقيين.

بعد ذلك، أكملنا مع حزب الله. وصدف انه في أواخر العام 2005، صدرت من العراق فتوى أبو مصعب الزّرقاوي التي يكفّر فيها الشّيعة! والتّكفير بنظر التّكفيريين يعني تحليل القتل، وهكذا بدأ الصّراع في العراق. وكنّا نخشى أن ينتقل إلى لبنان سريعاً، لم نفصح عن مخاوفنا، وبادرنا الى الحوار مع حزب الله وتوصلنا الى التّفاهم الّذي أعلن في السادس من شباط 2006.

 لماذا كنّا نخاف أن يصل الصّراع إلى لبنان؟ لأنّ القوى التي تحتل العراق هي نفسها القوى الضّاغطة في لبنان، فما الّذي يمنعها من أن تُشعل الفِتَن؟! فهي حتى الآن لا زالت تحاول إشعالها.. عندما عجزَت بحملة "فلّ"، وسقوط الحوار وعدم وصوله إلى نتيجة، دخّلَت إسرائيل كعنصر حرب ضدّ لبنان. يجب أن نتذكّر من كان يؤيّدها، حتى تعرفوا ويعرف الجميع لماذا نتصارع مع دولٍ غربية. لأننا نسمع كثيراً من يقول: "ماذا يفعل ميشال عون؟! هل هناك من عاقل يترك باريس ويذهب إلى الشّام؟! هل من يترك واشنطن ويذهب إلى إيران؟!"، وكأنّ تلك البلاد الغربية كانت الملجأ الطّبيعي لنا!! فيما الواقع هي الّتي تأتي بالسّلاح وهي الّتي تحرّض! ليس ضدّنا نحن شخصياً، بل ضدّ وجودكم أنتم، لأنّ الحل سيكون على حسابكم!

عندما تبيّن للسّفارة الأميركية أنّنا أعلَنّا عن موعدٍ قريب للّقاء مع حزب الله، بدأت تصلنا رسائل التّهديد، رسائل تهديد باللّغة الدّبلوماسية، ولا زلنا نحتفظ بالمكتوب منها وبمحاضر الإجتماعات المشتركة. عندها قلنا للسّفير الأميركي السّيد فيلتمان: " الرّئيس الحريري كان يزور السيد نصرالله بشكل دائم وهذا لم يكن يزعجكم وكنتم تلتقونه دائماً، فلماذا ممنوع عليّ برأيك أن ألتقي أنا السّيد حسن نصرالله؟!" في الواقع ليس هناك من "حزّورة"، هو كان يخبرهم ماذا يحصل معه وما هي تقديراته، بينما نحن لا نخبرهم.

بالتّوازي مع هذه المشاورات وهذه الحوارات، جاءتنا وفودٌ ممّا يُسَمّى "14 آذار" (لأنّ الإسم مسروقٌ منّا أصلاً، يجب أن نرفع دعوى لنستردّه)، وأيضاً من جبهة النّضال الوطني، لتقنعنا بالعودة الى 14 اذار والانضمام الى حلف في وجه حزب الله.!! أنا قدّرتُ لهم هذه الصّراحة في الافصاح عن غاية الحلف، وقلت: "ماذا تريدوننا أن نفعل حينها؟ هل كما فعلتُم في العام 1976 مع حزب الكتائب حين قررتم أن تعزلوه؟؟؟ تريدوننا أن نقع في تصادم؟! ليس فقط مع حزب الله بل مع كلّ الطّائفة الشّيعية! إذا كنتم تريدون فعلاً الحل فَلنَطرح جميعنا مشروع تفاهم مع حزب الله لحلّ هذه الأزمة ويصبحَ مثلَ عقدٍ وطني." طبعاً رفضوا لأنّ الغاية لم تكُن أن يرتاح لبنان، بل خلق صدامٍ فيه، وتجربتنا مع فيلتمان تؤكد هذا الإعتقاد وهذا التّحليل.

صودفَ أنّ الموعد هو في السّادس من شباط، وهو قد حُدّد قبل 10 أيّام، وليس قبل 24 ساعة كما قال البعض إنّهنا تعمدّناه ردّاً على أحداث 5 شباط عندما دخلوا الأشرفية وأحرقوها وتعرّضوا لكنيسة مار مارون ولمركز مطرانية الأرثوذكس. التقينا وأعلَنّا عن التّفاهم، وهنا كانت المصيبة، وبدأت ردود الفعل تظهر، وصورته بعض الصحف وكأنه تحالفٌ شيعي-ماروني ضدّ السّنّة! وصار حديثَ المنتديات وحديث السّهرة في منازلهم. على الرّغم من إعلاننا أنّ الإتّفاق موضوع على الطّاولة للمناقشة، ونرحّب بكل الاراء، ويمكننا أن نعدّل به حتى يتوافق عليه كلّ المواطنين وكلّ ممثّلي الشّعب اللّبناني.. رفضوا طبعاً واختاروا التشهير به! مرّةً أخرى، فهمنا أنّهم يسيرون في مسارٍ تصادمي ويريدون أن يخربوا لبنان. هذه ليست تهمة! هذا أمر محقّق بالوقائع. فمن يرفض أن يتعاطى معك لإيجاد نوع من الإتفاق يحفظ الإستقرار في الوطن يسعى للمواجهة ولخلق الفوضى. هل يعتقدون أن لديهم الزّعامة والسّيطرة لأنّهم مدعومون أميركياً، من "دولة الطّغيان والقمع الفكري" كما شبّهها قداسة البابا بنديكتوس؟! ربما، ولكن كلّ المؤشّرات تدلّ على مساراتٍ مشبوهة.

أطلقوا في البدء حملة "فلّ" على أمل تسيير تظاهرات الى قصر بعبدا لإسقاط رئيس الجمهورية بالقوة كما قالوا، ولكن الغاية الحقيقية كانت خلق صدام بين الحَرَس الجمهوري والمتظاهرين؛ هذه كانت الخطّة، هذه ليست تقديرات بل معلومات من المصدر الأساسي، من أحد المخطّطين الّذي ندم فيما بعد، وأوضح أنّهم كانوا يريدون أن يطلق الحَرَس النّار عليهم، وأن يحتكّ بهم، ثمّ يبادلونه إطلاق النّار، فيقع قتلى من المتظاهرين فيعلو الصراخ ليكون مصير إميل لحّود مثل "ميلوزوفيتش"، أي أن ينقلوه إلى المحكمة الدَّولية بتهمة هدرَ دم شعبه، كما يحصل الآن في سوريا، سيناريو يتكرّر في كلّ بلدان العالم، هكذا فعلوا مع القذّافي، هناك تشابه كبير بالسّيناريو بغض النظر عن دعمه أو لا.

قبل الاعلان عن تفليسة الحوار بثلاثة أيام، في 12 تموز 2006، وقع حادث حدود اتّخذته اسرائيل ذريعةً كي تعلن الحرب على لبنان. هذه الحرب أيضاً عشتموها بتفاصيلها، وعشتُم موقفنا يومها الّذي قلنا فيه إنّ إسرائيل ستخسر الحرب. كثيرون من الذين كانوا قربي لم يصدقوا وكانوا خائفين، لكني لم أكن قلقاً إطلاقاً، لأنّ تحليلي ليس متأتياً من ميلٍ عاطفي، و لم تكُن حفلة "تبييض وج"، ولم تكن التزاماً بالتفاهم لأن الإتفاق لم ينصّ أبداً على دعم حالة عسكرية إذا وقعت المقاومة في فخٍّ إسرائيلي. ولكن، الواجب الوطني يدعونا الى الوقوف إلى جانب شعبنا عندما تهاجمه إسرائيل لا أن ننأى بنفسنا عن الموضوع! لا يمكننا أن ننأى بنفسنا في حالتين، الأولى عندما يتعرّض أيٌّ كان من وطننا للإعتداء من قوّةٍ غريبة، بصرف النّظر عن التّوجهات السّياسية إن كانت متطابقة أم مختلفة، الدّفاع عن المواطن الأخ والشّقيق واجب أساسي، وكلّ من يتخلّف عنه خائن.

الحالة الثانية، ما يحصل مثلاً في الموقف من سوريا، نعرف جميعاً أن النظام يحتاج الى إجراء الإصلاحات الدّستورية للوصول الى هيكلية ديمقراطية، ولكن الوصول بالدّم مستحيل ونحن ضده بالمطلق. بالإضافة الى الشعب السوري شعبٌ متماسك ولديه هيكلية دولة متماسكة ولا ينهار ببساطة. النظام ثابت، ولكن أفضل للنّظام الثّابت أن يوجد على قاعدة ديمقراطية ويسمح بالحريات. وسوريا اليوم هي الأقرب إلى الدّيمقراطية، ونقولها بدون حرج، وليس لأنّنا أصدقاء مع الرّئيس أو لأنّنا ذهبنا إلى سوريا، وإذا كان هناك من يعارض هذا القَول، فليجبنا على هذه التساؤلات: هل للمواطن في سوريا حرية اختيار طريقة عيشه، نعم أم لا؟! هل حرية اختيار طريقة العيش مسموحة في الدّول الّتي تدعو سوريا لاحترام حقوق الإنسان؟ هل فيها احترام لحقوق الإنسان؟! هل فيها احترام لحقوق المرأة؟! هذا من ناحية الحياة الإجتماعية.

هل هذه الدّول الّتي تعلّم السّوريين حقوقَ الإنسان، هل تحترم حرية المعتقد؟! هل حرية العبادة مسموحة فيها لغير المسلمين؟! حتى الكنائس المبنية في بعض الدّول لا تضع على قبّتها الصّليب! لست أتحدّث هكذا لأنّي مسيحي، أتحدّث لأنّ معابد البوذيين أيضاً أثرية ولها قيمة كبيرة وتهدّمت في أفغانستان.. أدافع عن البوذي وعن الهندوسي وعن المسلم في غير بلد.. وعن أيّ إنسان ليتمتّع بحرية المعتقد!

أود أن أسأل أميركا الّتي وصلنا منها منذ يومَين فيلتمان مع جوزف ليبرمان المعروف انتسابه وهويته، وقبلهما جاءنا دايفيد كوهان ليشرف على مصارفنا... ماذا جاءوا يفعلون في لبنان؟ ماذا تعني زيارة وادي خالد؟ هل هناك تحضير لقاعدة في لبنان لم تُقبَل علناً ولكن ستُقبَل بالأمر الواقع؟! ها هي المسألة أمامكم! وهؤلاء الّذين يقولون "فليحكم الإخوان" أيعرفون فعلاً ما هي ثقافة الإخوان؟ هل يعرفون ما قاله أردوغان، عرّاب التّمرد والعصيان في سوريا، عن الدّيمقراطية بأنها "وسيلة نقل نترجّل منها عندما نصل"..، وبعدها العوض بسلامتكن! يصبح الوضع irreversible (لا رجعة فيه)، ولا ينتهي إلا بالدّم! إذاً هل هناك قبول لحرية المعتقد مع التّكفيريين الواصلين؟! من تريدون أن نختار كنموذج؟! النّموذج التّونسي؟! أم النّموذج اللّيبي؟! أم المصري؟ أم اليمني؟! أم السّوري؟ أم البحريني؟! كفى عهراً! كفى فجوراً!

بعد هزيمة إسرائيل في لبنان، انخضّت الحكومة. فأوّل المواقف العربية حمّلت المسؤولية إلى حزب الله معتبرةً ما قام به "مغامرة مراهقين"، كما لو كان هو الّذي بدأ بإطلاق النّار وحاول أن يجتاح الأراضي الإسرائيلية. وبعض اللّبنانيين كسعد الدّين الحريري الذي تكلّم من الدّول العربية مؤيّداً أيضاً هذا الموقف، ولكنّه استدركه في ما بعد عندما وجد أنّ هزيمة المقاومة مستحيلة. ويبقى السؤال: لماذا دخلت إسرائيل الحرب؟ على أثر حادث حدود لا يمكن أن تحصل حرب، بل يُعالج بوسائل أخرى، ممكن أن تكون هناك حملة ثأرية بالطّيران.. ولكن حرب؟ وبعد 12 ساعة من حصول الحادث على الحدود؟!! فهذا غير منطقي في العلوم العسكرية، ويتبيّن منه أنّ إسرائيل كانت مجهّزةً نفسها. عندما قلنا ذلك، اعتبر الأميركيون والفرنسيون أنّي أكفر، فقلتُ لهم إنّي تلميذ مدارسكم العليا! تعلّمت في فرنسا وفي أميركا! فإما يكون ما علّمتوني أياه خطأ، وإما إنكم تكذبون الآن!

عندما قامت لجنة إسرائيلية (فينوغراد) بالتّحقيق واعترف إيهود أولمرت أنّهم قرّروا الحرب في آذار، والتّاريخ يتطابق مع زيارة كوندوليزا رايس، وطلبت أن يكسبوها بعضاً من الوقت وأن يتحاوروا، فكان الحوار لإعطاء الوقت اللازم لإسرائيل، وهكذا حدث. ولكن بعد الهزيمة الّتي حصلت، تصدّعت الحكومة، لأنّ المواقف داخل الوزارة الّتي لم تكن سليمة. منهم من أراد النأي بالنّفس، ومنهم من أراد اتّخاذ موقف غير متضامن لا بل على العكس، لن ندخل في الأسماء، أصحاب العلاقة يعرفون أنفسهم، من كان مع المقاومة ومن كان ضدها.

هنا بدأت المشكلة وبرزت مسألة مقاطعة الحكومة والإستقالة، لأنّهم أرادوا أن يقرّوا المحكمة الدَّولية بدون أن يعطوا حركة أمل وحزب الله 48 ساعة ليدرسوا الملف! قبل أن يناقشوه، قالوا لهم إنّهم يريدون ردّاً في اليوم التالي، فكان الجواب بالرفض. عندها، خرج الوزراء الشيعة من الحكومة. أكملت الحكومة العرجاء بعد أن استقال منها سبعة وزراء ونحن كنّا مستقيلين من قبل. الحكم في حينه كان سرقة ونهب، وجيّد أنّه لم يوافَق على المراسيم الّتي أصدروها. أسرد هذه الوقائع لنرى كم كانت تعسّفية هذه الحكومات الّتي تسلّمت الحكم منذ العام 1993 حتى هذه الأخيرة.

ما حمايتنا نحن؟ حمايتنا هي التّفاهم مع بعضنا البعض؛ فعندها مهما عظمت أيّ دولة، لا تستطيع ان تخترق لبنان أو أي بلد أصغر من لبنان، إذا كان شعبه متضامناً ومتماسكاً، لأنّه لا يمكن أن تنجح المؤامرات إلاّ من خلال مساعدة مواطنين من الدّاخل. إن كنّا متماسكين لا يمكن أن تنجح المؤامرة. لذلك، نحن نرى اليوم أناساً وكأنّهم يريدون تفتيت لبنان من خلال مواقفهم من الجوار، لأنّ الجوار يهمّنا. ما هو الموقف الذي سيكون في لبنان فيما لو خسرت سوريا الحرب، مع العلم أنّنا مطمئنّون أنّها لن تخسر. إذا دخل الموجودون في عكّار، مع الفائض بعد الثورة السّوريّة، ما هو موقف اللبنانيين الذين يساندون التّمرّد والعصيان في سوريا؟ ستكون المشكلة قد انتقلت من سوريا إلى لبنان، وذلك بالتّعاون مع قسمٍ كبير من اللّبنانيّين وبهذا تكون قد اكتملت المؤامرة!!

 من هنا، وكما سعينا سابقاً لتحقيق التّفاهم الذي حفظ الإستقرار عندما منع الصّدام الطّائفي، فإن موقفنا اليوم سيمنع أيضاً أيّ تصادم. ولكنّنا لم نعلم بعد ماذا يريد فيلتمان؟! هل يجوز أن يأتي مساعد وزير خارجيّة أميركيّة ويختلي بمجموعةٍ سياسيّة بدون أن نعرف ماهيّة هذه السياسة؟ طالما أنّها سريّة فهي بالتّأكيد مؤامرة وخيانة. موقف القويّ يكون معلناً. قد يسأل البعض لمَ أتكلّم بهذه الطّريقة عن الأميركيّين؟ ولكن، ماذا يقول الأميركيّون عن لبنان؟؟! هم يقولون: "Lebanon is a frensh mistake"، أي انّ لبنان هو عبارة عن غلطة تاريخيّة فرنسية. ماذا يقول الفرنسيّون عن لبنان؟؟! يقولون إنّ لبنان هو "quantite negligeable"، أي أنّ لبنان هو كميّة يمكن الإستغناء عنها. كيف من الممكن ان أتّكل على دولتين باعتا لبنان سلفاً. لمَ يقولون ذلك؟ لأنّهم يريدون ان يزيدوا نسبة الهجرة، وبذلك تسلّمونهم أرضكم خالية من السّكّان من دون "خلوّ"، فيحلّون بذلك مشكلة الشّرق الأوسط، أي المشكلة الفلسطينيّة الإسرائيليّة على حسابنا، وبالتّالي ترتاح دول البترول وترتاح إسرائيل، وينتهي لبنان الذي يتحوّل إلى جائزة ترضية، ولا أعرف لمن سيقدّمون ما سيتبقّى منه. لا يمكن أن نقبل بهذا الجوّ من التّخطيطات.

إسرائيل هربت من لبنان في العام 2000، لمَ عادت في العام 2006؟ ولكن لماذا عادت؟؟ هل لتحتلّ الأرض؟ هل من أحدٍ تساءل كيف من الممكن أن تهرب من الأرض لتعود بعد بضع سنوات وتحتلّها؟ هل ازداد عديد جيشها وارتفعت نسبة تدريبه وازدادت التكنولوجيا الحربيّة لديها؟ كلاّ، وقد يكون العكس صحيح. إسرئيل دخلت إلى الأرض لتهجير السّكّان إلى الدّاخل اللّبناني، معتمدةً على البعض في الداخل لافتعال صدام سكّاني في حال التهجير. نحن منعنا الكثير من الصّدامات عندما كنّا نبلّغ الجيش عن التحرّشات بالنّازحين إلى منطقتنا. هذه كانت الغاية، وقد جاءت كوندوليزا رايس ووبّختهم لأنّهم لم يقوموا بواجباتهم كما وعدوا.. تمكنّا من إفشال هذا المخطط وفي بداية الإجتياح توجّهنا إليكم بصرخة قائلين "إنّ الصّراع مع الخارج لسنوات أفضل من الصّراع لساعة واحدة داخل الوطن". وبعد أن أُلحقت الهزيمة بإسرائيل، إستعملوا وسائل أخرى، فبدأت "ميليشيات" بالتّسلّح، وهذا مضمون كتابي الذي وجّهته لبان كي مون في 30 آذار 2007، وقد نبّهنا الأمم المتّحدة في حينه من أمرين، أوّلاً، قلنا لهم إنه لم يتمّ انتخاب رئيس في الوقت المحدّد سنكون بخطر الوقوع في الصّدام المسلّح في الدّاخل اللّبناني، وذكرنا الأسباب، إذ كان هناك قوىً وأحزاب تتسلّح برعاية الحكومة اللّبنانيّة، أي حكومة السنيورة، كما أنّ هناك ميليشيات قديمة تتجدّد وميليشيات جديدة تُنشأ تحت تسميات أمنيّة، وهذا الأمر سيسبّب الصّدام. وثانياً، إنّكم تطلبون منّا الموافقة على المحكمة الخاصّة بلبنان، ونحن ككتلة برلمانيّة مستقلّة نوافق على المحكمة ولكن عليكم أن تساعدوا كلّ المؤسّسات اللّبنانيّة وليس فقط حكومة السّنيورة، واتركوا موضوع المحكمة ليمرّ في المجلس النّيابي لكي تكتسب شرعيّتها الدّستوريّة.

تكلّم بان كي مون مع الأميركيّين بهذا الموضوع، وعندها وجّهت كوندوليزا رايس رسالة للبعثة الأميركيّة في الأمم المتّحدة لتطالبهم بعدم السّماح بمرور المحكمة الخاصّة بلبنان عبر البرلمان اللّبناني، لأنّهم يخافون من التّعقيدات، وفي هذه الحالة تكون الأمم المتّحدة مضطرّة على تأمين مصاريف المحكمة. وتوجّه رايس نسختين من نفس الكتاب لفرنسا وبريطانيا. فيوافق هذا الثلاثي (أميركا، فرنسا وبريطانيا) على اقتراح رايس على أساس أن تقوم الأمم المتّحدة بالتّمويل. قلنا انّ أميركا وفرنسا وبريطانيا قد وافقوا على ان يكون تمويل المحكمة من قبل الأمم المتّحدة، ولكن السّنيورة، ثم الميقاتي أمنوا التمويل.

نحن لم نكن ضدّ المحكمة، بل أردنا أن تتمّ عبر الطرق الشرعيّة، لأنّ هناك الكثير من الشّواذات التي تشوبها، وهذه الشّواذات لا تُطاق. وفي كلّ مرّة نحاول تصويب الأمور ووضعها ضمن الأطر الدّستوريّة والقانونيّة، يكون الموقف سلبياً ومعارضاً. وكذلك الأمر بالنّسبة للمشاريع التي نقدّمها، فدائماً يأتي الموقف ضدّ المنطق والمصلحة العامّة.

وبالإنتقال إلى الدّول العربيّة، فقد أطلقوا على تمرّدها وعصيانها وثوراتها تسمية الربيع العربي، أمّا أنا فأعتبرها الطّريق إلى الجحيم، جحيم العرب، فهي ليست ربيعاً. أما طريق الخلاص فهي طريق المشرقية، وما المشرقية إلاّ نموذجاً للحياة المشتركة بين المسيحية والإسلام منذ 14 قرناً، وقد خلق نسيجاً إجتماعيّاً وتبادلاً للثقافة ونوعاً من التّفاعل بين الجميع، ولم يحدث تصادم في التّاريخ وإلاّ كان الغرباء هم السّبب. وُلد التّصادم بعد اجتياح المغول وبعد دخول الصّليبيّين، بعد دخول المماليك وبعد دخول الأتراك. تأصّلت النّزعات الطّائفيّة لأسبابٍ عديدة، ووقع التّصادم بين مكوّنات المشرق وليس الشّرق الأوسط. المشرق هو المنطقة التي نشأت فيها الديانتان المسيحيّة والإسلاميّة، والذين إستثنوا أنفسهم من التفاعل الثّقافي فيها هم اليهود. إضطُهد اليهود في كلّ المجتمعات التي عاشوا فيها لأنّهم لم يتفاعلوا مع شعوب هذه المجتمعات، ولكنّهم لم يُضطهدوا من قبل العرب، بل تركوهم يعيشون بسلام، ومع الأسف، هم من اضطهدوا العرب في ما بعد وأعلنوا دولتهم دولةً يهوديّة عنصريّة. إذاً، التّفاعل لم يحدث إلاّ بين المسلمين والمسيحيّين، وهذه الطّريقة الوحيدة التي تتضمّن نهجاً متكافئاً ومتفاعلاً، وهذا ما يحفظ العرب ويمنعهم مستقبلاً من الإنزلاق إلى حروبٍ طائفيّة ومذهبيّة أو حروبٍ حضاريّة تعلن نهايتهم، لأنّنا إذا وصلنا إلى مرحلة صراع الحضارات، سيكون الخراب مصير العالم.

نتطلع اليوم بإيجابية إلى مجموعة دول البريكس “BRICS” والتي تتألف من البرازيل وروسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا، بما تمثل من تآلف بين الأعراق الأربعة : الحمر والسود والصفر والبيض، والديانات الكبرى الأربعة: المسيحية والاسلام والهندوس والبوذية، والقارات الأربعة: أسيا أوروبا أفريقيا وأميركا.

إنها تجربة الأرض التي تحتضن الانسان، وتبني حضارة تقوم على احترام حق الاختلاف وحرية المعتقد فتنشر العدالة والسلام بين جميع أبنائها. هذه مهادنة لكلّ الخلافات التي اجتمعت على وجه الأرض.

اليوم، لا تزال هذه الظّروف والأخطار قائمة، فمنها ما قلّ حجمه ومنها ما تراجع، ومنها ما هو قابل لأن يتطوّر ويكبر، ولذلك علينا تأمين الجهد المتواصل لتعزيز لبنان من الدّاخل. أعطانا الله وطناً جميلاً جدّاً من النّاحيتين الطّبيعيّة والجغرافيّة، ولكن كنّا نقول للشباب دائماً إنّه علينا اجتياز ثلاث مراحل للوصول إلى وطنٍ جيّد وقادر على الحياة من النّاحية السياسيّة، أولها التحرير، ثم التحرر وكان التّحرير من أسهل الأمور لأنّ الخصم كان محدّداً، إذ كان على الجيش السّوري الإنسحاب من لبنان، وكنّا نقول في الوقت عينه إنّه يجب أن نقيم أفضل العلاقات من بعد الإنسحاب، لأنّ العلاقات بين الدّول المتجاورة تكون دائماً متميّزة، فعلاقتنا مع إسرائيل متميّزة وهي عدائيّة، كما أنّها متميّزة مع سوريا وهي سلميّة، لأنّ الحالة الطّبيعيّة تفرض تعايش المتجاورين مع بعضهم البعض، تماماً كما هي الحال في المدينة الواحدة أو القرية الواحدة أو العائلة الواحدة. يجب أن يحافظ الجيران على حسن الجوار، وإن لم يفعلوا ذلك، تقع المشاكل. إذاً، حسن الجوار هو القاعدة الطّبيعيّة، كذلك الأمر بالنّسبة لإنهاء الحروب. إذاً، كلّ من وقف بوجه تصحيح الوضع وبناء العلاقة الجيّدة مع سوريا، لا يفهم المجتمع والقواعد الإجتماعيّة والعالميّة، ولا أيّ شيء من السّياسة، والمبادئ السياسيّة التي تُطبّق في العلاقات بين الدّول. الآن نقولها علناً، لأنّه في السّابق كنّا نساير كي لا نخلق الصدامات، ولكن وصل الجهل إلى حدّ لا يوصف. إنطلاقاً من هنا، يجب أن يفهموا أنّهم لا يستطيعون أن يفرضوا علينا أموراً لا يفهمون بها.

هذا بالنسبة للتحرير، أما التّحرّر فهو الأصعب، لأنه معركة مع الذّات، يتصارع المرء مع نفسه لكي يتحرّر. لا يعتقد أحد أنّه قادر على تحرير غيره.. هناك تقاليد بالية ويجب أن يتحرّر منها كل منا. أبي انتخب فئةً معيّنة من السياسيين، وجدّي انتخب فئة أخرى، ولكن أنا لا أنتخب هاتين الفئتين. أوّل مبدأ هو الوصول إلى قناعات ذاتيّة، لأنّني أنتخب ممثّلين عنّي وليس ممثّلين عن أبي أو جدّي رحمهما الله. أنا لا أقول إنّ خياراتهما لم تكن صحيحة، ولكنّها كانت تتجانس مع الحقبة الزّمنيّة التي عاشاها وليس الحقبة التي أعيشها الآن. يجب أن نتحرّر من عقدة الماضي ومن التسليم للوراثة السّياسيّة، ومن التّقاليد التي تفرض علينا انتخاب من هنّأنا في عمادة أو زواج. لم يدعني أيّ لبناني إلى مأتم إلاّ وقمت بواجب العزاء وأرسلت من يمثّلني، ولكن ليس المطلوب من أهل الفقيد انتخابي لأنّني قمت بواجب العزاء. هذا واجب إجتماعي، وواحدٌ من التّقاليد اللّبنانيّة السّليمة، لأنّه في ظروف الحزن، تزور النّاس بعضها كي تقوم بواجب العزاء، وكذلك الأمر في حالات الفرح. هذه الأمور هي جزء من تقاليدنا وأنا اعتبرها تقاليد جيّدة ولكنها لا تُلزِم سياسياً ولا يجوز الانتخاب على أساسها.

شعبنا لا يميّز بين الخدمة العامّة والخدمة الخاصّة، وهو يفضل الخدمة الخاصّة، بينما نحن نسعى الخدمة العامة. هذا لا يعني أنّنا لا ندافع عن إنسان محقّ أو مظلوم في قضيّة معيّنة، ولكن تبقى الخدمة العامّة أفضل بكثير من الخدمة الخاصّة لأنّها تشمل الجميع، والمثال على ذلك هو أنّ تخفيض فاتورة الهاتف هو أفضل بكثير من إلغاء فاتورة خاطئة، لأنّ سعر الفاتورة خُفّض على مدى الحياة. يجب على النّاس أن يقدّروا ما نقوم به بقيمته الحقيقيّة.

من أهم الأخطار الداخليّة التي تتربص بالمجتمع اللبناني الفساد، ونحن نحاربه بكل الوسائل، ربّما لا تتنبّهون لكميات ومقادير الفساد التي نتكلّم عنها. تتعاملون مع الفساد وكأنّه بات جزءاً من نمط حياتنا أو ثقافةً نلتزم بها ونتحدّث عنها في الصّالونات وكأنّنا نتحدّث عن أمرٍ جدّ طبيعيّ. الفساد هو من أفظع الأمور التي تصيب المجتمع وهو كالحشرة التي تنخر الشّجرة وتؤدّي بها إلى اليباس. الفساد هو الجفاف الذي يقضي على ينابيع المياه. الفساد يقضي على كلّ موارد الدّولة، ويؤدّي بالجميع إلى حالة الفقر. كيف من الممكن القبول بهذا الأمر؟ سأقولها لكم الآن: أنتم من يشجّع الفاسدين على الإستمرار في فسادهم لأنّه ما من أحد يسمع صوتكم. هذا الكلام ليس موجّهاً فقط للحاضرين هنا، إنّما هو موجّهٌ إلى كلّ الناس، الى كل سيّدة في منزلها، إلى كلّ محامٍ في مكتبه، إلى كلّ طبيب في عيادته، إلى كلّ نائبٍ في كرسيّه النيابيّ...

أسمع النّاس من حينٍ لآخر يتكلّمون عن الأكثريّة الصّامتة. الأكثريّة الصّامتة تشجّع بصمتها على ارتكاب الجريمة. لو أنّ الأكثريّة تقوم بالإحتجاج على كلّ عملٍ خاطئ، لما كنّا بحاجة ربّما إلى مجلس نيابيّ، لأنّها ستكون كافية لإيقاف أيّ مجرم عن مدّ يده على ماليّة الدّولة أو على حقوق الإنسان، والأمثلة كثيرة من كلّ بلدان العالم. يجب الخروج عن الصّمت. التّنازل والإستقالة من تحمّل المسؤوليّة الوطنيّة يرتب مسؤوليّة كبيرة على القائمين بهما.

بالإنتقال إلى قانون الإنتخاب، وليد جنبلاط يعارض القانون الذي يقوم على النسبيّة. نسي كلام والده كمال جنبلاط رحمه الله، الذي طالب مراراً وتكراراً بقانون النسبيّة عندما كان رئيساً للجبهة الوطنيّة خلال الأحداث اللّبنانيّة وقبلها بقليل. لماذا يرفضه اليوم وليد جنبلاط؟ هل خسر القانون من عدالته؟؟ وليد جنبلاط يصوّر القانون بطريقة سيّئة إذ يقول إنّه موجّه ضدّ الدّروز. هو يثير عصبيّة الطّائفة الدّرزيّة، تماماً كما يفعل دائماً. هو يضع الموحّدين الدّروز في حالةٍ من الخوف لأنّها الوسيلة الوحيدة التي تجمعهم حوله. هل نسي تصريحاته الصّحافيّة عندما سألوه عن المخطوفين وأجاب "ما في عنّا مخطوفين. قتلناهم كلّن"، أو عندما قال "كنت مزنوقاً وقبضت"، أو عندما قال "البلد محكوم من حيتان المال وأنا واحد منهم، وأنا أقدّم الدّفاتر المغلوطة لشركاتي للدّولة، فيما احتفظ بالدّفاتر الصّحيحة لنفسي"، وهنا يقصد بالدّفاتر الصّحيحة الأرباح التي تعود بها شركاته. سمعناه أيضاً مؤخّراً يقول: "أنا كذبت على السّوريّين لمدّة 25 عاماً"، فكيف نستطيع أن نؤمّن أنّه صادقٌ معنا؟؟!! قال مرّةً: "كانت ساعة تخلّي ساعة عندما تهجّمت على سوريا"، ومن بعدها زار سوريا، ماذا قال هناك للإعتذار؟؟ سنتجاهل هذا الأمر، ولكن بعد فترة سمعناه يقول: "عندما ذهبت الى سوريا، كانت ساعة تخلّي". والبارحة قال عنا إنّنا عبثيّين، وهنا أعتقد أنّ حدود المنطق يقف عنده فقط – (يخزي العين) - ولا يتخطّاه ليصل إلى غيره. (ساخراً).

جنبلاط اعترض على قانون النّسبيّة، وأنا اعتبر ذلك جريمةً معنويّة تُرتكب بحقّ جميع سكّان الشّوف، فقد قال إنّ النسبيّة هي تحجيم له، وهذا كذب، لأنّ النسبيّة تعطيه حجمه الطّبيعيّ، في حين أنّ ما يطالب به هو إلغاء للآخرين. قلنا لك يا وليد بيك إننا تناسينا – وهذا لا يعني أنّنا نسينا – ولكنّنا تناسينا لكي نشجّع التّلاقي والعيش المشترك في الجبل. تناسينا الأجراس المسروقة، وأيضاً غفرنا المجازر التي ارتُكبت بحقّنا، ولكنّنا لن نقبل أبداً بأن تأخذ حريّة من بقَوا أحياء بعد كلّ هذه الأفعال. تهدّد في كلّ مرّة بإشعال النّار، وأنت تعرف مسبقاً أنّنا لا نخشى التّهديدات. قلت: "إنّ نجاحنا في بعبدا وعاليه في العام 2005 سيؤدّي إلى حربٍ أهليّة"، والآن تقول: "إنّ القانون النسبي يحجّم ويهدّد الدّروز". كلّ ما تقوله هو كذب وأنت تعيش للكذب. "روح بلّط البحر وعمول يللي بدّك ياه".

اليوم، نحن نرى التّعطيل، أحتار في اختيار الكلمة المخفّفة للتّعبير عن الحالة السيّئة جدّاً. ماذا نستطيع أن نقول عن إدارة المال العام؟ هناك عشرات المليارات مفقودة وليس عشرات الآلاف أو عشرات الملايين. هذا المال مسروق. أقول وأكرر انّ الضّريبة التي تدفعونها ليست عبارة عن خوّة تدفعونها لإنسان متسلّط، حتّى ولو كان تصرّفهم بهذه الضّريبة يقوم على هذا الأساس. الضّريبة هي أموالٌ يدفعها الشّعب لتوضع في خزينة الدّولة كي يتصرّف بها الحاكم بعد ذلك ويحوّلها إلى طرقات، إلى مدارس، إلى إستشفاء، إلى مؤسّسات إجتماعيّة، إلى مشاريع إنمائيّة... بينما اليوم نراهم يتصرّفون بأموالنا المدفوعة عن طريق الضّرائب كخوّة يضعون يدهم عليها لوضعها في جيوبهم. هذا الكلام موثّق وستظهر الوثائق واحدةً تلو الأخرى. لكي يحموا أنفسهم في هذا الموضوع، يبدأون بإطلاق الشّائعات لأنّهم أولاد شـــــــــــــــــــــــــــائعات. يقومون بتعطيل كلّ وزارةٍ ناجحة تنجز المشاريع، وبشيعون أنّها تقوم بالصّفقات، وتقبض الرّشاوى... على كلّ منكم رفع التّحدّي وليسأل كلّ من يسمعكم كلاماً كهذا، عن القرائن والبيّنات التي تثبت كلامه. العماد عون وكتلة التّغيير والإصلاح يملكون الإثباتات والقرائن وهم يقدّمونها للمحاكم والقضاء والمفتّشين. أظهروا لنا ورقةً صغيرة تديننا يا أولاد الشّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــائعات.

نحن اليوم، بين قانون الإنتخابات وبين الإنتخابات، نعيش وكأنّنا في مستعمراتٍ صغيرة ضمن الوطن الواحد. هناك مستعمرة وليد جنبلاط ومستعمرة سعد الدين الحريري، ومستعمرة فلان أو فلان.. أما المسيحيّون، الذي تعايشوا مع الجميع وانتشروا، فكانت المكافأة لهم في حرمانهم من حقّ التّمثيل الصّحيح. والملفت أن من ادّعَوا طوال حياتهم أنّهم سيوف النّصارى في الدّفاع عن المسيحيّين يتعاونون مع من يسعى لحرمان المسيحيين من حقهم بالتمثيل!! أيُعقل ذلك؟؟!!

الحكومة لا تتغاضى فقط عن المخالفات، فقوّة التّعطيل في الحكومات كانت دائماً موجودة بداخلها، وبما فيها الحكومة التي اعتقدنا أنّها حكومتنا. هناك أناس في الحكومة تعمل متحالفة مع قوى التّعطيل الموجودة في البلد أيّ مع الأقليّة النيابيّة الحاليّة. يوقفون أو يمرّرون ما يشاؤون من المشاريع، يحاولون تخريب الأمور، يوقفون المراسيم، وقد قرأت اليوم أنّ المادّة 85 تقول إنّه في الحالات الإستثنائيّة يحقّ للحكومة التّصديق على قرار باعتماد من دون موافقة المجلس لتتمّ بعد ذلك قوننته، هذا إن لم أكن مخطئاً في تفسير الدّستور. هذا ما تقوله المادّة 85، فكيف بالأحرى إن تكلّمنا عن المادّة 58 والتي على أساسها أصدر فؤاد شهاب 200 مرسوم؟؟ وعلى أساسها أصدر كميل شمعون 40 مرسوماً والياس سركيس 45 مرسوماً!! لسنا نحن من يخترع الأزمة، وللّذين يقولون إنّ هناك أزمة بيننا وبين رئيس الجمهوريّة نقول إنّ أزمة رئيس الجمهوريّة هي مع نفسه لأنّه مرتبط بتعطيل الدّولة، وهو اليوم يصطدم بمجلس وزرائه وليس بنا نحن.

كما أنّه ردّ عليّ بطريقةٍ غير مباشرة عندما قلت إنّني لا أؤيّد رئيساً توافقياً في المستقبل، وأفضّل الرئيس الذي له تمثيله، ولديه كتلة نيابيّة يتمثّل بواسطتها في الحكومة. ردّ على كلامي سريعاً، ولكن من قال له إنّني قصدته هو؟ مررنا بثلاثة عهود لرؤساء توافقيّين، عهد الرئيس الهراوي، عهد العماد لحّود، ونحن الآن نعيش العهد الثّالث. متى كان المواطنون فرحين وراضين في هذه العهود الثّلاث؟ ألا تكفي ثلاث تجارب لكي نرفض التعطيل؟ من الذي يعطّل القضاء؟ المادّة 66 من الدّستور تعطي السّلطة لمجلس الوزراء وليس له. من الذي يعطّل القضاء وما هي أسبابه؟ هل رئيس الجمهوريّة هو من سيعيّن إرسلان الذي سيتمّ تعيينه قريباً في قائمقاميّة الجنوب؟ كلاّ. نحن نعلم، والوزراء يعلمون وكذلك النوّاب يعلمون أيضاً من الذي سيعيّنه. هل هو من عيّن العميد مصري عضواً لمجلس قيادة قوى الأمن؟ وليد جنبلاط من عيّنه. هذه القاعدة التي يتّبعونها إلا عندما يصل الأمر الى المسيحيّين.. عندها يتوجب على المسيحيّين "commission" يدفعونها على الطّريق. السلطة الإجرائيّة هي داخل مجلس الوزراء، وهي تتعطّل للمرّة الأولى في عهد الرّئيس ميشال سليمان.

وبالإنتقال إلى موضوعٍ آخر، نحن مقبلون على انتخابات. سيتمّ صرف الكثير من الأموال في الإنتخابات، إذ أنّ الحرب الكونيّة لا تزال قائمة ضدّنا، والقوى السّياسيّة الدولية التي نختلف معها لا تزال تتدخّل لصالح خصومنا. بالكلام عن المال، لو افترضنا انّهم دفعوا مبلغ 1000 دولار ثمناً للصّوت الواحد، مع العلم أنّ الأسعار لم تصل لهذا القدر. لنفترض أنّ المعذل هو 1000 دولار للصوت الواحد، نقسّمها على أربع سنوات، أيّ الفترة الزّمنيّة لكلّ مجلس نيابيّ، يكون ثمن الإنسان الواحد 250 دولار سنويّاً أي 68 سنتيماً يوميّاً!!! تخيّلوا أنّ الإنسان يبيع نفسه بمبلغ 68 سنتيم!!!

هناك أقلام تدّعي أنّها حرّة، وأصحاب قرار يدّعون أنّهم أحرار، باعوا القلم وباعوا رأيهم. وهنا أقول إن كل من يباع في سوق الرقيق يكون عبداً، وعبدٌ أيضاً من يبيع ثقته أو رأيه أو قلمه، فنبّهوا هذه الفئة من الناس من فقدان كرامتها وحريتها لأن حرية الفرد تعبّر عن حرية الوطن، ولا يمكن بناء أوطان حرة بمواطنين عبيد.

والآن إلى مناضلي التيار أقول: لقد قاومتم بوجه الهراوات والبنادق، وبعضكم يحمل آثار الجروح في أجساده، ومنكم من قاسى السجن والتعذيب في أصعب الظروف وأكثرها ظلماً، وذلك على أيدي من أفسدوا الوطن وادعوا تحريره، وهم يدّعون اليوم الدفاع عن حقوق الإنسان لشعب آخر وهم الذين حرموا شعبهم من هذه الحقوق.

لا تلينوا، لا تصمتوا، وعودوا الى نضالكم واستوحوا قلبكم الذي يضخّ حريّة وكرامة.

عشتم، عاش التيار الوطني الحر، وعاش لبنان.
 

  • شارك الخبر