hit counter script

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - جورج عبيد

النبيّ إيليّا التسبيتي وقديسون آخرون

الجمعة ١٩ تموز ٢٠١٩ - 15:26

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

من عاد إلى سيرة هذا النبيّ العظيم، وقف عند آيتين ظهرتا عن لسانه: "حيّ هو الله ربّ الجنود الذي أنا واقف أمامه"(ملوك18: 15) وأخرى: "غيرة غرت لربّ الجنود". آيتان تمتلكان احتدامًا نبويًّا وتحديًّا شخصيًّا شاء إيليا منهما ظهور الله والتأكيد عل أنّه الإله والربّ وليس من إله آخر سواه.

في سيرته بعض عنف، أخذ المسيحيّة إلى جدليّة ترافقها دائمًا في بروز هذا العيد ما بين العنف واللطف، ما بين الرذل والقبول، من بين الحقد والمحبّة. وفي بعض الأيقونات يظهر إيليّا حاملاً سيفًا ملوّحًا به، وأيقونات أخرى صوّرته داخل مغارة وأخرى مرتقيًا على مركبة ناريّ صاعدة به إلى السماء. ولا غرو أن يقع عيده قبل عيد تجلّي الرب بأسبوعين، إذ في التجلّي يظهر إيليا واقفًا مع موسى على الجبل ويسوع في وسطهما؟ كيف يقف يسوع المعدّ أن يكون ذبيحة محرقة كالثور الذي قدّمه إيليا فأحرقه الله بنار، وإلى جانبه نبيّ ذبح كهنة البعل في نهر قيشون؟

ما يجعلنا نذوق بهاء إيليّا، أنّه غار غيرة محتدمة لله. بمعنى أنّه أحبّ الله أكثر من نفسه. يسوع قال: أحبب الربّ إلهك أكثر من نفسك، أي إجعل الربَّ مالئًا حياتك، ولا تفصل نفسك عنه ليظلّ هو حياتك كما قال بولس الرسول. كلّ قضيّة إيليّا أنّه أحب الله أكثر من نفسه وعشيرته، وقد جعله حياته، وأراد أن يجعله مالئًا الكون ومالكًا الحياة. إلاّ أنّ هذا النبيّ عاش في لحظة أو زمن استعر فيه الصراع على شواطئ المتوسط وتحديدًا ما بين كنعان وعبران حول عبادة الآلهة الوثنيّة، وكان ملوك فينيقية يستعملون الآلهة لترهيب الناس، كما نقرأ على سبيل المثال يوم سبت النور من سفر دانيال، حيث أمر بختنصر الملك بأن يتمّ إقامة تمثال الذهب والسجود لآلهته وعبادتها ليرفضها عازريا وميساخ وسيدراخ وعبدناغو، وما إن رفضها هؤلاء وقدّموا العبادة لله حتى زجوا في أتون النار، ليأتي ملاك الرب وينقذهم منه. البيئة عينها، صراع بين من يرى الله إلهًا خالقًا السماوات والأرض وبين سلطات تولّدت من رحم عبادة الآلهة. الفرق بين إيليّا والفتية الثلاث، أنّ إيليا قرّر وبدلاً من أن يموت في سبيل الله، أن يقتل في سبيله، فيمسي القتل عقابًا.

يكتشف من درس السيرة بعمق، بأنّ الله لم يكن راضيًا بالكليّة على سلوكيات القتل أو العنف. فالله معطي الحياة، وهو الوحيد الذي يستردّها في لحظة من رضاه. ويكتشف الدارس أيضًا، بأنّ بيئة اليهود بيئة عسكر أو جنود. فقد كان الله قرين قوميتهم، وموطّدًا لموجوديتهم. منذ ذلك التاريخ إلى الآن القوميّة في الأدبيات اليهوديّة مختلطة بالدين، أو هي، تاليًا، تجيء منها وتعمّمها، حيث يجعلون الله ملكًا لهم، مولودًا من رحم بيئتهم ويعيش فيها ولها دون سواها. بعض من ذلك كان سائدًا في الصراع الذي خاضه إيليا بوجه إيزابيل وكهنة البعل، وهو شاء كما وجدنا في النصّ أن يتمجّد إله إسرائيل، أي إله إبراهيم وإسحق ويعقوب. ما يعنينا نحن أنّ هذا الإله غير منفصل عن هويتنا وحقيقتنا، فناسوت يسوع عبريّ، وهو من نسل داوود، أي من تلك البيئة، وما يهمنّا أكثر بأنّ العهد القديم قد تمسحن قبل التجسّد الإلهيّ، بسكنى يسوع فيه. فالمسيح غير منفصل عنه البتّة هو وليده في النطق والحقيقة، إنه مكنون عند أرمياء وأشعياء وحزقيال، كلّهم تكلّموا عليه، وإيليا رمز إليه وإلى حضوره، فظهر معه ومع موسى كنبيين سابقين لحضوره في جبل التجلّي.

قلنا بأنّ الله لم يكن راضيًا. لقد طلب منه إيليّا ان يأخذ حياته، ولكنّ الله شدّده غير مرّة في بئر سبع، فاعطاه طعامًا وماء بواسطة الملاك. وسمح له بقوّة تلك الأكلة أن يسافر إلى جبل حوريب، وهو جبل سيناء الفاصل بين عزّة في فلسطين وسيناء مصر. والسفر من بئر سبع إلى حوريب يحتاج إلى أربعين يومًا للوصول في ذلك الزمن. في حوريب عاش في مغارة، وهو جبل موسى، إلى أن هبّت ريح شديدة لوم يكن الله في الريح أو العاصفة، وكانت عاصفة ناريّة، ولم يكن الله فيها، وإذ بنسيم لطيف قد تنسّم فكان الله فيه. طبعًا نحن نتعاطى مع أدب أو رواية كثرت فيها الرموز أحيانًا كثيرة أكثر من الواقع. الواقع هنا، بأنّ الله ليس إله عنف لكونه لم يظهر في العاصفة الهوجاء أو الريح الشديد أو في النار الآكلة. الله إله لطف ومحبة، بل هو المحبّة، ولهذا ظهر في النسيم اللطيف. ثمّ عاد إيليّا وبحسب السيرة نبيًّا إلهيًّا، مسح إسرائيل من بيت آخاب إلى بيت آرام، وهم الآراميون بالمسحة الإلهية، ثمّ مسح بعد ذلك أليشع بن شافاط نبيًّا بدلاً عنه.

الميزة الأخيرة في سيرته بأنّه حوّل نهر الأردن إلى يابسة ليجتاز المنطقة، ثم صعد من هناك إلى السماء بمركبة ناريّة وترك رداءه لأليشع. يقول المطران الحبيب جورج خضر، بأن هذه المركبة هي مركبة الفضائل، فيزمن ليس فيه صواريخ متنقلة. أساسًا كلمة سماء في اللغة العربيّة جذرها فعل ثلاثيّ "سما" في الماضي وفي المضارع يقلب الفعل إلى يسمو، أي ارتفع ويرتفع. صعد إيليّا إلى السماء بمركبة ناريّة أي أنه ارتفع إلى مملكة الله التي نحن ننشدها في المسيحيّة. كيف ارتقى؟ لم يحدّد العلم عن ذلك شيئًا. حتى إنّ أحدًا من علماء الآثار لم يكتشف رفاته، كما أنّ أحدًا من العلماء لم يكتشف رفاة والدة الإله مريم، على عكس معظم القديسين حيث توجد ذخائر لهم. النصّ هنا قال بأنّه صعد على مركبة، ثم ظهر في التجلّي مع المسيح في التجلّي، اي أنّ الله اتخذه حبيبًا. يعطينا هذا فرحًا كبيرًا بأنّ من آمن بالرب يسوع فإليه يصعد وفي مملكته يقيم، لا يحكم الزمان على صعودنا، المسيحية كلها مسيحيّة الازمان لأنها مشدودة إلى الحياة الأبديّة التي في المسيح يسوع وهي بدورها قائمة في التاريخ ومتحرّكة في قلوبنا. ما يعنينا في هذا العيد وفي كلّ عيد قديس بأنّ الأنبياء تكلموا على مجد الله ورنوا إليه، ودعونا لنتهيّأ لنمكث فيه، ومع تجسد المسيح وموته وقيامته صار هو نفسه مجدًا حقيقيًّا أبعد من المكان والزمان، سيّما أن الذين به اعتمدوا قد لبسوه أي قد خلعوا عنهم الترابيّة المتكسّرة.

كلمة إيليا تعني الرب إلهي. عند أشعياء نقرأ معنا هو الله. إلهي معي. لنجعل الله معنا في هذا العيد، ولنكن بدوره معه، لأنه يشاؤنا من مواطنيه، وبليس لنا سواه موطنًا. من هنا ولكون هذا العيد يتماهى مع عيد طيّب للقديس شربل، وهو شفيع كثيرين منّا. لا بدّ من القول بأنّ بهاء القديسين من بهاء الله، وهم غير منفصلين عنه. كونوا قدّيسين كما أنّ الله قدوس. شربل راهب وكاهن علا إلى وجه الرب بفضيلة النسك والإيمان، بتشدّده الرهبانيّ. ما يبقى لنا منه هو كونيّته أي انتشاره في العالم، وليس انتشاره منفصلاً عن يسوع الناصريّ. كلّ عجيبة شفاء أقامها ويقيمها مصدرها المسيح، شربل لا يشفي من ذاته بل يشفي باسم يسوع، وكاتب هذا المقال يلتمس بحبّ كبير شفيعًا حيًّا، من هنا كلّ إقبال إلى ضريحه إقبال إلى يسوع. الخطيئة التي ترتكب أحيانًا، بأن الإعلام يحاول أن يثبّته قديسًا لبنانيًّا وخاصًّا بلبنان، أي قديسًا كونيًّا. وتبدو "الهمروجة" حوله طاغيةً على شفاعة القديس مارون الناسك، وكلاهما وإن تباعد الزمان كثيرًا ينتميان إلى المدرسة الرهبانيّة التي نشأت في أنطاكيا أي في شمال سوريا من بعدما شعّت في صحراء مصر مع أبي الرهبان القديس أنطونيوس الكبير. شربل واحد من أصفياء الله، فلا تسطّحوه ولا تجعلوه مدى قوميًّا مسقطًا في الصراع على تثبيت الهويّة. نستحبّ أن يكون شفيع لبنان، ونستحب أن يكون لبنان في قلبه، ولكن نستحبّ أن نكون جميعنا جزءًا من تلك المشرقيّة النابضة في العالم والتي ذبحت بالاضطهادات وهي كمسيحها مشرقة بالقيامة. فلا ننسى البتّة أن المسيح بالتسمية الأصليّة هو مشرق المشارق، ونحن به مشرقيون.

إيليا وشربل تضرّعا إلى الله ليشفي أمراضنا وعاهاتنا ويؤهلنا لنحيا به وندوم ببركاته ونصير في لبنان شعب المحبّة وأيقونته الساطعة.
  

  • شارك الخبر