hit counter script

باقلامهم - جورج عبيد

الوسام هو السعيد بأن يتجوهر على صدره

الثلاثاء ١٥ أيلول ٢٠١٨ - 08:52

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

"إشهد أيها التاريخ"، عبارة لطالما طاب لإيلي الفرزلي أن يردّدها، لا ليؤنسنه فينطقه، وليس لأنّه ذاكرة الأمم، بل لأنّ هذا الحبيب الساطع يؤدّي للتاريخ شهادته، والشهادة بذل دائم في شتى الحقول وبالرؤى المكنونة فيه والمعطاة له في العمق ليبقى دائم التدفّق.
عاصرت دولته بالعمق، واندمجت به مرجعًا راقيًا حمل التاريخ كلّه على منكبيه، وصديقًا كريمًا قادني غير مرّة نحو التجليات. الجانب الشخصيّ أضعه جانبًا، فاللسان عندي يتكلّم من فضلات القلب، وشهادتي به دومًا مجروحة بسبب كثافة المحبّة، فالمحبة عندي تناجي المحبة عنده، بل تخاطب نفسها بنمط تصاعديّ وقد ذقنا غير مرّة أنّ الله محبة. وإذا ساغ لي أن اقاربه، فالمقاربة لا تنغمس بما هو شخصيّ بحت، بل تستخلص العبر من الدور، وتنحت حضورها من الفعل، وتكثّف مسارّها من السلوكيات والأدبيات المنطلقة منها.
لم أعرف إيلي الفرزلي، سوى رجل دائم الحراك مشتعل بالكلمات ملتهب العقل. يجول ويصول، ويجيء سياسيًّا من مجموعة قناعات تولّدت لديه، بعد مسيرة طويلة من العمل المتواصل من البقاع إلى لبنان والمشرق كلّه. يفتخر الرجل بأنّه لبنانيّ المولد، مشرقيّ الهوى عروبيّ المدى. ويفتخر بأنّه ناضل طوال حياته لكي يتجسّد إيمانه ويتسع أكثر فأكثر خاليًا من الأنماط الطائفيّة والمذهبيّة الجامدة والقوالب الضيّقة. فلا هو بات فيها بل لفظها، ولا عائلته التي أدركت العمل السياسيّ وأسست لتاريخنا المعاصر والحديث قاربتها. هو في الأصل مؤمن بأنّ العروبة لا تنمو وتتفاعل إلاّ بالتلاقي الفعليّ ما بين الحقّ المسيحيّ والحقّ الإسلاميّ في الوجود، وصولاً إلى بلوغ فجر سياسيّ جديد يتمّ الفصل فيه ما بين الدين والدنيا وهو العالم أنّ دون ذلك عقبات كأداء.
إنطلق الرجل من مسيحيّة أرثوذكسيّة ومشرقيّة، في ملامسة هذا الحيّز الكبير. كان صديقنا الحبيب والمشترك المطران جورج خضر يقول "أبت العروبة إلاّ أن تتنصّر". المسيحيون هم من أشعلوا هذه الجغرافيا بلغة الضاد وسكبوها في قوالب من جمال، وزخموها في مسرى النضال، لقد كان المشرق رازحًا تحت الاستعمار العثمانيّ أفسد الأخلاق والقيم وسلب العقول. وما أن تحرر منه حتّى أمسى تحت انتداب فرنسيّ-بريطانيّ تبعًا لما سمي آنذاك باتفاقية سايكس-بيكو، وفي سنة 1948 سلبت فلسطين من تاريخها ودورها، وقبل ذلك تمّ تأسيس دولة لبنان الكبير، حتى بلغنا الذروة في الصراعات بين المعسكرات في الخمسينات، الناصرية من جهة وحلف بغداد من جهة ثانية، وانفجرت فلسطين في عمان وبيروت من بعدها، إلى أن انتهت تلك المرحلة في لبنان بالطائف وفتح الباب على حرب جديدة في سوريا، وظلّت لغة الضاد هاجسًا للمشارقة والعروبيين المسيحيين، والهاجس الأكبر فيها أن تكون وجهًا للمسيح الحيّ والمتحرّك في التاريخ والمتلاقي مع كل من لم يدِن به أو يدنُ منه أو إليه. إنطلاقة إيلي الفرزلي لم تكن سوى من هذا المعنى وذلك المحتوى وكانت لغة الضاد بتلك المقاييس والمعايير لسانه ووجهه، والكلمة هنا قادرة بهذا المعنى أن تصيره أو يصيرها في كلّ تجوال ونزهة وتبحّر. هو من القلّة من ظلّ أمينًا على هذا المحتوى، فيما كثيرون خرجوا منه خروجًا جارحًا او سقطوا على جنباته سقوطًا مدويًّا، أو باعوا وجودهم بثلاثين من الفضة ليصير لهم وجود عفن ومزيّف. لم يحد إيلي عن مسلمات تشرّشت به، وتجذّر بها، وهي عنده قد تكوّنت من هذا المحتوى.
من المسلّمات الجوهرية النابضة عنده والتي لم يحد عنها قيد أنملة والتي يتحرّك بها أو تتحرّك به:
-نهائيّة الوطن اللبنانيّ. كان لبنان عند كثيرين مبعثرًا، وعند آخرين غير موجود. أمّا عند إيلي الفرزلي فهو ثابت وراسخ وغير متحوّل ولا متبدّل. لبنان عنده يفترض أن تصنعه إرادة اللبنانيين وليس إرادة الآخرين. ينحته الميثاق الرابط ما بين المسيحيين والمسلمين، ومن أجل ذلك أطلق مشروعه الانتخابيّ، وقد نسبه إلى اللقاء الأرثوذكسيّ فعرف بمشروع اللقاء الأرثوذكسيّ، علمًا أنّه عمل مع شلّة لقراءته وإبرازه وإطلاقه. من المفيد القول هنا، إنّ إيلي لم يتوسّل الطائفيّة من أجل نفسها، فهو عارف على الرغم من سوئها أن لا بدّ من خواصها كدواء لمعالجة الداء والشفاء منها. (وداوني بالتي كانت هي الداء). ذلك أنّ الدستور في المادتين 24 و95 حاو لهذه الرؤية ومعتبرًا أنّ البلوغ إلى إلغاء الطائفيّة السياسيّة يقتضي تحقيق المناصفة ونجاحها ورسوخها إلى أن يتمّ البلوغ إلى دولة المواطنة. هذا عين ما اقتنع به نائب رئيس المجلس النيابيّ وعمل لأجله، وانطلق في معركة ترسيخ عهد قويّ يجسّد هذا البعد الخلاّق، فجاء قانون الانتخابات صورة عن هذا الرجاء المقرون بالنضال. وقد جسّده هنا. وبرأيه إن نهائيّة الوطن تتجسّد من هذه الزاوية. وقد قال الطائف بها قولاً نهائيًّا وعقيديًّا.
-عروبة لبنان: كثيرون ممن واكبوا دولته ظنّوا أنّه خرج من تلك المألفة إلى مألفات غريبة عن تراثه وأدبياته. وقد ثبت أنّ بعض الظنّ إثم ومجافاة لرؤية لا تزال تخضّه. من قرأ إيلي الفرزلي وعاشره وتحاور معه، أدرك ومن دون لبس، أنّ العروبة هويّة وهوى. واللغة العربيّة يسكنها الله الواحد الأحد، فقد نزل بها القرآن الكريم، وتنصّرت أو هي متنصّرة بجوهرها وتكوينها، فكيف يكون لبنان منسلخًا عنها؟ العروبة عنده لا تعني الإسلام حصرًا وليست حكرًا على دين أو مذهب، إنها الهوية الحضاريّة والإنسانية المتكونة من لغة، ولبنان جزء منها، وهو معنيّ بها، وميثاق جامعة الدول العربيّة منسوج من خيوطها. فلا يمكن للبنان أن يعصم نفسه عن تجلياتها، ولا عن التفاعل بروحيتها. وعلى هذا فعلاقة لبنان بسوريا هي المدخل الطبيعيّ والجغرافيّ لتوطيدها، ويتذكّر إيلي كيف أن والده وجدّه عاشا فترة طويلة في حلب وعملا فيها، عنده ليس من انفصال ما بين دمشق وبيروت وحمص وطرابلس وحلب وصيدا واللاذقية وجبيل وطرطوس وصور، وليس من انفصال بين جبل لبنان والكورة والشمال ووادي النصارى أو جبل العرب، وحماه وبعلبك وتدمر وعنجر وزحلة والزبداني... فالبيئة عينها والعائلات تجيء من جذور واحدة أو تلاقت بالمصاهرة. والمدخل الآخر قضيّة فلسطين وهو متوجّع على بيعها وضياعها. لا يمكن نسيان تفاعل الصديق إيلي مع واقع الحرب في سوريا وعليها، فهو رأى ما رأى كثيرون سواه أنّ سوريا إن سقطت سقطنا، وإن انتصرت انتصرنا، فنصرها بإمكانه أن يضمن حقّ الفلسطينيين بالوجود، ويحمي لبنان والعراق من السقوط. والعلاقة مع سوريا تبقى ضروريّة واستراتيجيّة، وقد آمن بأن لبنان لن يحكم منها وفي المقابل لا يسوغ أن يبقى ممرًّا للمؤامرات عليها ومستقرًا للمتآمرين عليها. وعنوان المرحلة الحالية هو هذا.
-أرثوذكسيّته. هذا شقّ حميم ومقدّس عنده. لطالما افتخر بإيمانه بالمسيح يسوع وجاهر بانتمائه إلى أنطاكيا وبطريركيتها. لم تكن ثورته ضدّ الإكليروس، وعمّه كان متروبوليتًا على البرازيل أي إغناطيوس الفرزلي، بل ثورته كانت بوجه ممارساتهم القامعة لمنطق الشراكة بين الإكليروس والمؤمنين. عنده أن الكنيسة تحيا بها وتتحرّك في هذا الإقليم من خلالها. ما من شكّ أنّ قوة الكنيسة تجيء من يسوع المسيح، لكنّ تجسيد القوّة تكمن في عمل المسيح بشعبه. فالكنيسة جسده والشعب أمّته، وإمامة البطريرك أو الأسقف لا تحجب دور الناس في القرار. من هنا، إنّ إيلي سيبقى عاملاً حتى تتجسد تلك الرؤية كعامل قوّة للكنيسة وتفاعلها بالقوة والقدرة مع الناس من كلّ الملل والنحل بأمل ورجاء.
"إشهد أيها التاريخ" بأن إيلي الفرزلي قد بلغك شهادته على تلك المستويات، وعلى هذا فقد استحقّ بجدارة فائقة أن يقلّده بطريرك كنيسته الحبيب والمجاهد يوحنا العاشر وسام القديسين بطرس وبولس من الدرجة الأولى خلال القداس الإلهيّ ويرصّع صدره به وفاء لإخلاصه ومحبته لوطنه وكنيسته ومبادئه. إنه اعتراف راق بالدور الشخصيّ من ناحية ودوره التأسيسي للقاء الأرثوذكسيّ من ناحية أخرى ولإنطاكية كانت هي البداية والنهاية.
"إشهد أيها التاريخ"، ليس دولة الرئيس السعيد بالوسام بل الوسام هو السعيد به، هو السعيد أن يتجوهر على صدره كما تجوهرنا بفكره، واشهد بأنّ المسيرة ستبقى مستمرّة إلى النهاية.

  • شارك الخبر