hit counter script

مقالات مختارة - حسن منيمنة

أميركا ترامب والعالم: بين القبول والاستهجان

الأحد ١٥ آب ٢٠١٨ - 07:13

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

لا ينجح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في إخفاء ازدرائه الكثير من الجنسيات والقوميات والجماعات الدينية. الواقع هو أنه لا يجهد نفسه في إخفاء هذا، بل يفصح، وإن بالمقادير المعتادة من الالتفاف الذي يتيح للإنكار عند الضرورة، فوائد جمّة. فهذه المشاعر يشاطره إياها جمع لا يستهان به من الناخبين الأوفياء، ممن يريدون تلك المادة الحماسية الاستفزازية الطاعنة.


غير أن ترامب ليس «عنصرياً» بالمعنى العقائدي المعهود. هو أكثر احتقاراً وإساءة لغير «البيض» ذوي الخلفية الأوروبية بالتأكيد، ولكنه ليس معنياً بالعرق «الأبيض» من حيث المبدأ أو المنطلق. فمعياره وحسب هو الفائدة الشخصية أو الانتخابية أو المالية، والتي يجنيها ممن يتفاعل معه: فإن ارتفعت، ازداد تقرّباً وأفاض بالثناء، سواء كان محاوره أبيض أو أسود أو بنفسجيا، وإن انخفضت ابتعد وأخذ بالتجريح، من دون أن يرفّ له جفن، ولو كان المعني من أصحاب الحظوة لديه بالأمس. هي «أميركا أولاً» بمعنى «ترامب أولاً»، أي بتعريف ضمني ثابت لـ «صالح أميركا» يطابقه طوعاً أو قسراً مع ما هو لصالح ترامب. ليس للرجل حلفاء ولا أصدقاء إذا كانت هذه الصفة أو تلك تستوجب المراعاة، بل أشخاص يتلاقى معهم لاعتبارات آنية، فإن زالت تبدل موقفه، بل شطب وأعدم كل ما كان لهم بالأمس من تقدير. هي المصلحة الفجّة الفورية الطمّاعة والتي لا تساوم. وإذ لا يتحرج منها البعض لأنها صيغة أكثر صراحة وحسب، وإن أكثر وقاحة، لحقيقة العلاقات بين الدول، وكذلك الأشخاص، فالواقع أنها بتفريطها بالثقة المؤسسة اللحمة الإنسانية تستجلب شريعة الغاب.

ليست هذه قراءة نفسية نظرية لأحوال الرجل، خارجة عن سياق الشأن السياسي، بل هي استقراء موضوعي لسلوكه لا بد من اعتباره عند تقييم مواقفه العامة.

التقى ترامب رئيس الوزراء الإيطالي الجديد، والذي يمنّن نفسه بأنه متماهٍ معه بمواقف عدة، لا سيما الهجرة والاقتصاد، وسارت قراءات اللقاء باتجاه السؤال حول ما إذا كان هذا السياسي الشاب في موقع التأثير على ترامب، ربما بشأن إيران، ربما بشأن ليبيا، ربما في شأن الرسوم على الاستيراد. هي احتمالات واردة ولكنها ضئيلة. وإن حصلت، فلن يكون ذلك لما لوجه إيطاليا الجديدة من جاذبية وقدرات إقناعية. بل لما في وسع إيطاليا أن تقدمه لترامب، وهو الشروع بعلاقة ثنائية بين البلدين، خارج إطار الاتحاد الأوروبي، هذا الخصم الأول، في التعريف الجديد لرئيس الولايات المتحدة.

ترامب، عند التجديف، صادق بكلامه، وإن اقتضى الأمر بعض التراجع للتموضع. لا يروق له حلف شمالي الأطلسي، وإن طاب له الزعم بأنه قد حصد المبالغ الطائلة لهذا الحلف خلال اللقاء الأخير في بروكسيل. لا يريد أن يفهم أن نسبة الاثنين بالمئة والتي تعهد أعضاء الحلف بلوغها ليست مبالغ تسدد للحلف، بل هي مستوى الإنفاق العسكري الذاتي لكل دولة. المعطيات ليست مهمة، زعم الإنجاز هو المهم. لا يروق له كذلك الاتحاد الأوروبي. يريد بدلاً منه علاقات مع كل دولة على حدة. يسعده حين يسمع النقد لهذا الاتحاد، من إيطاليا، كما من بولندا والمجر. الاتحاد الأوروبي مزعج، وهو الخصم، لأن الدول الأوروبية مجتمعة ذات قدرة تفاوضية كبيرة. أما إذا افترقت، فالتعامل مع كل منها أسهل.

يستطيع ستيف بانون، كبير مستشاري ترامب السابق، أن يجول في العواصم الأوروبية، مستدعياً وداعماً النزعات القومية، بل العنصرية، واعداً أنصارها بعالم جديد يقوده ترامب. غير أن الواقع مختلف. ترامب يستفيد من محاضرات بانون، إذ تعزّز النزعات الناقضة للاتحاد الأوروبي، ولكنه لا يسعى إلى قيادة العالم، بل إلى الاقتصاص منه لاستهزائه بالولايات المتحدة، وفق قناعة الرجل، ولاستغلاله لها. المطلوب من وجهة نظره إطاحة منظومة العلاقات الدولية لما هي عليه من واقع لا يقرّ للولايات المتحدة بقدرها، إذ يجعلها بمصاف دول هزيلة وفقيرة، تستفيد من الولايات المتحدة أكثر مما تفيدها، هذا إذا كان منها فائدة ابتداءً، وتحظى بامتيازات تجارية وأمنية على حسابها. فلترحل هذه المنظومة وليتم استبدالها بأخرى، تكون الولايات المتحدة في كل وجه من أوجهها في موقع المستفيد الأول والأكبر. وليسجل التاريخ بأن كافة الرؤساء قد تناوبوا على هذه الولايات المتحدة وعجزوا عن إعلاء شأنها كما هذا الرئيس. هو الأعظم وهو الأذكى بشهادته الشخصية المتكررة.

فمن ينكر العظمة هنا في مسعى هذا الرئيس لوضع الأمور في مواضعها هو حسود حاقد، ومن يشتكي من تهديم بنية عالمية حافظت على الأمن والاستقرار لعقود عدّة غبي وخائن، ومن يتحرّى أسباب ميوعة هذا الرئيس إذ يدعي الصلابة إزاء روسيا هو عدو الشعب. وكلما ازداد التدقيق في كيفية وصوله إلى سدة الرئاسة، ارتفعت وتيرة التشنج لديه، وتصاعدت معها الرغبة بإحياء القضايا المصيرية للولايات المتحدة والعالم، عسى أن ينحاز الاهتمام إليها، من دون أن يتمكن هو بذاته من تجاهلها.

«عارض الاختلال العائد لترامب» هي التسمية التي تطلق، بين الجدّ والهزل، على الانشغال بأفعال هذا الرجل والخشية من أن تؤدي أفعاله إلى الضرر الفائق. الولايات المتحدة بخير، والعالم بخير، ومهما تفاقم شغبه فإنه لن يتسبب بنهاية العالم. قد يكون بهذه الدعوة إلى التعقل قدر من الصواب. ولكن خطورة الضرر الذي يمكن ترامب من موقعه كرئيس للقوة العظمى أن يتسبب به تجعل لهذا القلق ما يبرره. وفي ما يتعدى الضرر المادي، فإن هذا الرجل بسلوكه يتسبب يومياً بتفتيت منظومة القيم التي كانت قبل أيامه تسود الخطاب العام.

«فرّق تسُد» هو مسعى صريح لترامب في سياساته الداخلية والخارجية، كي تكون له الغلبة، وهو أيضاً النتيجة الفعلية لسلوكه على أكثر من صعيد. والخـــيار المــطروح هو إما الرضا بالسلوك الشاذ والكلام المهين والسياسات الاعتباطية، بما يستتبعه من اهتراء مادي ومعنوي، أو الاستمرار في الاستهجان لتأكيد أن هذه الأقوال والأفعال وإن سادت كماً لا يجوز لها أن تستتب وتصبح القاعدة والأساس.
 

الحياة

  • شارك الخبر