hit counter script
شريط الأحداث

باقلامهم - مازن ح. عبّود

الارض الغريبة

الثلاثاء ١٥ نيسان ٢٠١٨ - 05:59

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

ها إني في ارض غريبة يا بنيّ، ولا اشعر بالغربة بل بالاشتياق الى أمك واليك والى اخيك واختك والى كل من أحب. فالغربة حالة وليست مكانا. والوطن يقيم في الانسان، ويرتسم على ثغره ابتسامة تشرق وتضيئ وتنتشر في كل الاصقاع التي يحل بها، وتتخطى الحدود، وتعبر الى القلوب من دون تأشيرات ولا شرطة جمركية ولا دول. فالتأشيرات وجوازات السفر وضرائب الدخل هي من مخلفات الحربين العالميتين الأولى والثانية. ولولا الحروب لما كان من لزوم لتأشيرات وجوازات وضرائب دخل.
الوطن يلتصق بالطيبين الذين يحملون عبق بخوره وميراثه واناشيده وحكاياته الى اصقاع بعيدة. يزرعونها هناك، فيزهر بهم الوطن.
الناس تعطي الأوطان هوياتها، والأرض تدمغهم بدمغتها وتربتها ونكهتها ولونها.
هنا في كندا أدركت الوطن يا صغيري شموسا ارتسمت على وجوه اهلي واصدقائي. أدركته لفتات مؤثرة من أناس قرروا ان يكتبوا الوطن على وجوههم، بعد ان تغربوا في ارضهم وراحوا يبحثون بعيدا عن شموس وارض.
شعرت بدفء كندا يا بنيّ، وذلك بالرغم من ثلوجها وبرودتها. فالثلج قد يكون مناسبة كي تشعر بدفء من حولك. تذوقت محبتهم واحلامهم وتطلعاتهم. واحتسيت خيباتهم. وتلمست عطشهم الى مثلهم.
كان من التقيت يا ولدي ينطرون قصص الأجداد. ومدنهم قد ضاعت بغالبيتها في سراب صحاري المشرق.
لا، لا تدينهم لأنهم ما نطروا الأرض والمدائن. فالأرض قد تتحوّل حبسا حكّامه سجانون. ويصير ارض الفرص الضائعة وساحات اغتيال الأحلام. ينكسر الانسان حين ينكسر حلمه فيلتهمه الاحباط. وسجانو الأرض مساجين بدورهم. سجنهم القدر الجغرافي والتاريخي والثقافي والفساد والسلطة بإرادتهم غالبا. لا يسند التراب رأسه على تراب يا صغيري، الا إذا هبّ الروح في الأخير، فأحياه.
البارحة مضيت الى ساحة الفنون في موريال واستمتعت ب"كانت نوغانو" يقود الأوركسترا السمفونية وفرقة انشاد مدينة موريال. كانا يرسمان رائعة الراكويم (قداس) لفردي" التي نظمها على نية صديقه الكاتب اليساندرو مانزيني.
والاوبرا التي غصّت بالناس قابعة على بعد أمتار قليلة من كاتدرائية مريم سيدة العالم، وكيلومترات ليست بالكثيرة من صخب واشنطن ونيو يورك وحاكمهما الذي يقلب العالم رأسا على عقب، ويزرع الخوف من حرب كونية جديدة. كانت كندا مختلفة. كانت مونتريال بعيدة على رغم قربها الجغرافي.
الأمسية الموسيقية كانت ملفتة. فكل ادى دوره بشكل متناسق ومدروس. والقائد ما احتلّ مطارحا بل نسّق، كي تخرج صلاة من جوف الآلات وفيه البشر، لا أروع ولا أجمل.
انّ الاعمال العظيمة يا ولدي تحتاج الى التجانس والتعاون والتنسيق. وإننا في بلادنا لم نتعلم ان نتكامل ونعمل معا، مخافة ان تذوبنا الجماعة. فإما صوتنا والا أصوات طبول الحرب. لذا لم تخرج سمفونيات من حضارتنا، بل عزف وغناء منفرد في غالبية الأحيان. نعم فنحن لم نخرج يا ولدي من نطاق العزف المنفرد في الشرق.
سحرتني في تلك الليلة الموسيقى والحناجر والتكامل والتناغم حتى الذوبان الكلي في سبيل اكتمال الصورة والنغمة والانشودة السمفونية. لا اعلم إذا ما بلغ أصداء ذلك الشدو الى مسامع من يسوس العالم.
كم يحتاج العالم الى أنغام وموسيقى الاهية! كم يحتاج العالم يا ولدي الى محبين على شاكلة فردي، واناس منضبطين ولاعبين مقتدرين على غرار قومه! والابداع يا ولدي منحة لا تعطى الا للقلوب التي شرّعت أبوابها للروح، وراحت تتلمس وجه ربها، وتلتقط انغامه وعبقه في الأمكنة والناس يا صغيري.
صلّيت مع الابواق والقيثارات وكل الآلات، وانشدت نشائدي مع الحناجر على نية الكوكب واهله. حلّقت مع العازفين والمنشدين الى حيث الابداع ينبع، الى حيث تخرج الانوار أنغاما وكلمات وظلالا والوانا.
تذكرتك يا ولدي وحملتك وحملت أمك واختك واخيك وكل من أحب الى فوق.
وما هي الا دقائق حتى خرجت من تلك العوالم الى خنادق موريال، حيث تمتد المدينة السفلية، هربا من البرد والصقيع.
خرجت من هناك وانا انشد نشيد الوطن في ارض غربة. انشد نشيد السلام والتناغم كي اسابق طبول الحرب والتقاتل والخصام. خرجت انشد مع عمتك نشيد وطن حفظناه في قلبنا فسحة من ذكريات وآمال وتجليات ومرارة وخيبات. خرجت كي اعود اليك انت وأمك واخيك واختك. خرجت كي اعود معكم يوما الى هنا فننشد سوية من ارض غربة نشيدا مشرقيا لبلد لا يفارقنا ابدا يا صغيري. فمن الجميل ان ترى ارضك من بعيد يا ولدي. من الجميل ان تكتشف بانها فيك، ولا تفارقك حتى في غربة...

  • شارك الخبر