hit counter script

باقلامهم - مازن ح. عبّود

قبل ان يسدل الستار

الثلاثاء ١٥ آذار ٢٠١٨ - 06:18

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع


 "اتيناك كي نمنحك الوسام، فوجدناه فيك. انت هو الوسام والمعلم". قلنا له ذلك، فكان ان اتضع وتخشع. خجل واستحى. احنى رأسه نحو أسفل...قال:"هذه التفاتة أعظم من ضعفي".
من عظة السيد يوحنّا العاشر-بطريرك انطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، البلمند في 04-03-2018

كان البطريرك متأثرا. ولم يخف تأثره عن شعبه وسائر المشتركين معه في الخدمة. وهو تقّصد ان يطل عليهم في قداس أحد القديس غريغوريوس بالاماس بهذا الكلام الكبير عن المطران جورج. فكأنه بتخصيصه العظة للكلام عن المطران جورج في هذه المناسبة، كان يجدد تمسك انطاكية بالمبادئ اللاهوتية التي شكل المطران جورج أحد اهم عناوينها في المرحلة الأخيرة. 

فكلنا يرفض ان تعري سيول الرزنامة القديمة الجارفة ومن يتحكم بها، الاورثوذكسية الانطاكية من مضامين الانفتاح والحوار وتقبل الاخر وفهمه والتفاعل معه في إطار احترام الخصوصية. 

لقد استكان المطران جورج خضر البارحة. اراح قلمه لكنه لم يسلمه. قال كلماته الشحيحة والمعبرة، وصمت. فلا يجوز للشيوخ ان تكهل. فالشيوخ تكبر دون ان تكهل. وعندما تشعر بأنها تكهل، تنحسر. وتسلم ذاتها للصمت والتأمل.
بدا البطريرك متأثرا. فالشيخ المرسل أسدل ستارته بلباقة وترتيب، قبل ان يفوت الاوان. أسدل الشيخ ستارة مسرحه بنفسه وهو يحيي شعبه. خرج من الكرسي كبيرا كما دخل اليه. 

استكان وسلم مفتاح القلعة الى ابنه وأخيه وبطريركه يوحنّا، منهيا قصته بفصول الطاعة. سلّم المفتاح بعد ان قال كل كلماته. قال كل شيئ. ونحن شيّعناه وصفقنا له، والدموع في عيوننا. اذ اننا ما كنّا نودع رجلا، بل مرحلة كتب لنا ان نعيش فيها.
لم ينفكّ السيد البطريرك في عظته ينطلق من جورج خضر ويحلق. كان يعرّج على القديسين، ويعود اليه، فهو الحدث. قال فيه بانه رجل الله. 

اعتقد بأنّ السيد البطريرك اراد ان يقول من خلال المطران جورج خضر بأنّ كنيسته ليست كنيسة نصوص، ليست كنيسة متحفية جامدة. فكنيسته كنيسة احياء. أراد ان يكرّم ذلك الحبر الذي صلب في كنيسته. والحبر يصلب من اجل شعبه كي يتقدس بهم ويقدسهم. 

أراد السيد البطريرك من خلال جورج خضر ان يقول بانّ كنيسته هي الحاملة لكل خطايا وعذابات وقضايا ونضالات بشرها في هذا الشرق. فهي التي تحمل القضايا، ولا تغرق في الوحول وردات الفعل. تجول في الزواريب بحثا عن الدراويش، لكنها ما كانت وليست ولن تتحول الى امارة زواريب. 

بدا البطريرك متأثرا، فالتحديات التي تنتظره، وتنتظر كنيسته والشرق برمته ليست بالقليلة. والتحدي الاكبر هو الحفاظ على وجه جماعته المتألق المطل على المستقبل بروح، وليس بجماد وموت وتطرف وتكفير. فهذه هي المعركة الأكبر.
لا ليس جورج خضر كاملا، وما كان ذلك، ولم يدع ذلك يوما. بل سعى الى الكمال، وهمه كان ان يصير ايقونة.

بدا البطريرك متأثرا، فالحدث ارخى بظلاله عليه. كيف لا وجميعنا نقف في حضرة التاريخ وقفة تأمل ورهبة! نتطلع جميعنا الى الرجال الذين شكلوا عناوين مراحل بوقار. ونحاول ان نقرأ من خلالهم كل تلك المراحل. نأخذ ما يلزمنا وندفن ما لا يلزم في التراب. نقرأ في قوتهم وضعفهم وفي المراحل، كي نتعلم. نقرأ ونتعلم كي نصنع مستقبلا يليق بنا وباخوتنا وبأبنائنا وبكنيسة انطاكية. 

مطران جورج خضر نعدك بأن لا نحفظ منك ومن زمنك، الا ما هو للحياة والفرح. نعدك بان لا نبقي من فترتك الا ذلك التألق، وتلك الومضات التي سننقلها بدورنا الى من بعدنا. نعدك بأن نبقى نتكلم اللغة الانطاكية الواحدة التي نشرتها على صفحات الجرائد وما بين دفات الكتب ومن المنابر والابواب الملوكية. سنحمل من بعدك ارث مدينة الله انطاكية، ونسير!

أسدل المطران جورج ستار مسرحه وراح يستعد لمواجهة الفرح. لا اعلم ما ستكون عليه ابرشيته وكنيسته من بعده. الا اننا على ثقة بانّ من ارسله سيرسل ما يلزمنا. ونحن سنقبل. 

ترك المطران كرسيه الاسقفي، وفي جيبه أربع مائة وخمسين دولارا امريكيا لا غير، وهذا كلّ ما يمتلكه. فقد نقل الفقراء والمعوزون كل ما جناه الى فوق. من حيث كان يأتي محملا بعبق البخور المعطر حبرا، والمكتسي حللا كلامية.
"من تكرمون أيقونةً يكون أو ليس بشيء...والايقونة هي في من تذكّر به. المحتفى به ان لم يعد بكم إلى السيد وحده تكونون ضعتم في متاهات"، هذا ما قاله في تكريمه في جامعة الحكمة في العام 2014. وإننا نعدك يا مطران جورج، ان نعمل كي نأخذ الناس اليه وليس اليك. وذلك كي لا نطرح خارج الحنان. 

تعلمنا منك "أنّ الرتب ليست بشيء، اذ قد تكون مليئة بالفراغ. ولن تكسب الا رؤيتك المسيح مرتسما على كل الوجوه الملتمعة منها والغبية. لأن الذكاء لا ينقذ أحدا. ويخلص المرء فقط، إذا قرأناه بعين المحبة التي هي وحدها قراءة الله لخلقه". وها نحن اليوم نعاهدك بأن لا نعمل للرتب، وبان نقرأك ونعمل بعيون المحبة. 

سنعمل ونناضل أيها السيد، كي لا تتحوّل الكنيسة الى "تجمع بشري فيه تفاهة كبيرة". وسنبحث عن التماعات "ضياء القديسين". وسنحفظ مناهج الحب والفرح والجمال في قلوبنا. وسنحاول ان نجمع طراوة القلب الى عظمة العلم والثقافة حتى "لا ينفصم اللاهوت عن الناسوت ولا يختلطا"، كما قلت في الجامعة الانطونية يوم تكريمك.

وتراني اقرأ على مسامعكم، قبل ان يسدل الستار نهائيا، ويخطفكم النعاس: " ليس مهما أن يكتب الانسان عن نفسه كلها. المهم أن يكتبنا الرب في سجل الحياة". وانا على ثقة بأنكم قد كتبتم في سجل الحياة. 

أخيرا، اعدك بانك ستبقى في بالي أسقف الكنيسة جمعاء. ستبقى في بالي وجها من ضياء كان يوافي الى تلك الضيعة، فيصطحب معه في سيارته ذلك الصبي الصغير الذي احاطه بمحبته. ويروح يكلمه في مناهج المحبة واللاهوت، وفي انطاكية والكنيسة. ستبقى كلماتك في بالي من ذهب كوجهك. ولن ينفك ذلك الصغير فيّ يتطلع الى عينيّ الشيخ اللتين تنقلاه الى مكان خضرة، الى حيث تنسكب الكلمات حلاوة وجمال وحبا. واني اعدك بان أكون ونكون جميعا ما اردتنا ان نكون عليه.

  • شارك الخبر