hit counter script

باقلامهم - الدكتور نسيم الخوري

عندما تصفّق الأمكنة بالكاتدرائية في زمن تدمير الكنائس

الإثنين ١٥ كانون الثاني ٢٠١٨ - 06:10

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

مهما مطّ الحبر عنقه فهو لن يضاهي أو يتجاوز عتبة الكبرياء والقيم الإنسانية الرفيعة والمتجذّرة في لحظة افتتاح الإمارات العربيّة المتّحدة المبنى الجديد لكاتدرائية النبي إلياس الأرتوذكسية، في إمارة أبو ظبي، وبحضور بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر(18/1/18). لحظة ضخّت بإنسانها وزمانها ومكانها دماء الحضارة الراقية في شرايين المستقبل. الكاتدرائية ترتفع فوق أرض منحها رئيس الدولة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، لمطرانية الروم الأرثوذكس بادرة زاخرة بالقيم النبيلة والعقل الوازن المشبع بالخير والمحبة والتآلف والإنسجام. سأضع نقاطاً.... ليملأها القاريء معي بالصفات الإيجابية التي تستحقها مبادرات من هذا الطراز.

لا تشبه تلك اللحظة اللحظات الأخرى المشابهة التي تصدّرت فيها دولة تعبق بالتسامح والأصالة المرتبة المتقدّمة بين دول العالم وشيوع الضلال.
لماذا؟
لا لأنها خطوة تفوح بالسلام والتسامح، واحترام مختلف المعتقدات والأديان وحسب بل لإنّها جاءت في زمنٍ ثقيل ومستورد وخاص جدّاً حافلٍ بالعتمة العربيّة والضياع العالمي وتفجير الكنائس والجوامع وتفشّي الصراعات المذهبية. وقعت بعد اللحظة الميلادية القاسية بحثاً عن القدس تسلخ سلخاً من القلوب والحناجر البشرية في إعادة تحديد جارح لموقع فلسطين والأقصى وكنيسة القيامة. جاءت تعيد إلى الأذهان صورة النبي إيليا يصرع التنين في زمنٍ بائسٍ ما زالت أشجار الميلاد الحزينة متروكةً لم توضّب في زوايا البيوت تنتظر جديد فلسطين وتصلّي للقدس. ما برحت صرّة الهدايا معلّقة في فوهة المدخنة بعدما ذوى الموقد بإرباك الأقصى وكنيسة القيامة. وما زال الأطفال والعجائز يصلّون بمسابحهم الطويلة لصيانة المكان المقدّس المرتسم في تاريخ الإيمان دمغةً للوحدانية الحقّة.
هناك يتآكل المكان ويقضم "ترامبياً" بالمعنى الديني والوطني والسياسي ويختفي المولود. وتتحوّل فلسطين من الموقد إلى النشيد العام، ويتحوّل الفلسطينيون في الأرض الى تجديد أعيادهم في الدمعة والجرح والإنتظار وشدّ الدماء والأعصاب، ويتحوّل الموقف العربي والعالمي الى فصاحة الإنقسام والشعور بالعجز الملفوف بالقصائد.
لماذا أيضاً؟
لأنّني أجلّ مناسبة طقوسية في خليج يقدّس الأمكنة بخجلٍ راق ونادر، بينما يرتكب العالم جرم تهديم المكان الأوّل ، مع أن الأمكنة وفيرة في الأرض يختار الإنسان فيها مقدّساً له مناظره ومقاماته وطقوسه منذ التفكير بالصخرة المقدّسة التي استخدمها يعقوب وسادة، والتي يصرّ اليهود على أنّ الملك سليمان قد شيّد فوقها بعد داوود الهيكل الأوّل أي في المكان الذي حدّده له أبوه على جبل الموريّا وحاول إبراهيم التضحية فيه بإبنه إسحاق. هذا المكان العالمي يشتعل أبدياً وقد يخبّيء حروباً عالمية تذكّرنا بكلام الله مخاطباً موسى:
"لا تقترب من هنا. إخلع نعليك لأنّ المكان أرض مقدّسة".
هذا مكان غلبت فيه السياسة والمصالح والمكائد مضامين القداسة وهناك فروقات طويلة باقية بين النصوص والأمكنة أو الأشياء الثابتة على اعتبار أنّ القدّيس يمحو الأمكنة ولا مكان له سوى الأرض كلّها بينما المقدّس يسوّى ويرتّب ويظهر في الأمكنة كلّها التي يحددها البشر.
صحيح أن الطفل الناصري ولد في مذود فلسطيني معلناً أن مملكته أي مكانه ليس في هذا العالم، لكنّ الكنائس عمّت الأرض والأذهان والسلوك بالمعنى الإجتماعي والسياسي للصراعات السياسية وطموحات الشعوب والدول. صرنا نجد الكاثوليك يحجّون نحو مغارة سانت لورد، والبروتستانت يخرجون من الأمكنة كلّها نحو المكان السياسي المحصور بمقبرة غيتسبرغ وبما يرضي اليهود ، كما نجد المحاربين القدامى يتطلّعون الى أقواس النصر وقبور الجنود المجهولين والشعلات التي لا تنطفيء منذ الحربين العالميتين وعبثية لم تعرف أسبابها ونتائجها متكررة حتّى اليوم، في الوقت الذي يلج فيه الروس الكنائس الصغيرة والقبب الأرتوذكسية متقفّين بذلك خطى الروس في دمج السياسة بالدين بحثاَ عن عظمة القياصرة. وصحيح أيضاً أنّ الكعبة أو الحجر الأسود المكعّب الملفوف بقماشٍ أسود مطرّز والذي نزل على مكّة من السماء يرتفع 15 متراً، وله الحق بالطوفان. وإذ يطوف حوله الحجّاج المسلمون، فإنّهم يسعون بدورهم جاهدين في الأرض بالمعنى الديني والسياسي والقيمي حاملين تسليم أمورهم لله مباركاً لصحواتهم حيث يتقدّس المكان في الأرض كلّها عند فلش السجادة والتوجّه نحو القبلة والركوع فالصلاة.
يتحاشر المؤمنون الوارثون لكلمات الله التوحيدية الثلاثة حول الأرض كلّها بالمعنى الديني الملطّخ بالسياسي وهم يلمسون صخرةّ أو ضريحاَ أو يمارسون طقوساً وأناشيد معينة أو يقبّلون صوراً وأيقونات، لكنه تحاشر يتّخذ مداه السياسي أكثر في التلاحم الإجتماعي لطرد الظلم والقهر والغلبة وإفساح المجال للعدالة بين كلمةٍ وأخرى. عندما تتلاحم رئات المؤمنين ونظراتهم في أمكنة تجمّعهم للصلاة شفاهاً أو غناءً أو حجّاً أو إجتماعاً أو إحتفالاً فإنّما يخرجون من فردانيتهم وسيّئاتهم الذاتية الى قوّة المجموعة النقيّة، لكنّ يبقى الصمت الأبلغ أو العجز المكابر ممثّلاً الموسيقى الإنسانية للفقراء والمحتاجين والبؤساء والمعذّبين والمكسورين والمشرّدين في الأرض مثل الفلسطينيين وغيرهم في ديار العرب.
لماذا أيضاً وأيضاً؟
لأنّ العظمة سلام من الربّ تطلب وليس في تعاظم الأمكنة ومطّ أعناقها قبباً مذهّبة نحو السماء، بقدر ما هي تطلّع متواضع الى التراب وقدسية المكان حيث البشر حفنات تراب مؤجّل دفنها تعيدنا الى الأسطورة التي ترى بأنّ الشجرة الأولى كانت ينام عند جذعها التنين، بينما كان عصفور السعادة يضع بيضة الحياة فوق غصنها الأعلى. هذه البيضة المقدّسة المطلّة على الدنيا تشابه اليمامة التي تقف فوق قبب قصور أوروبا وأميركا الرسمية وأبنيتها التي لا نصل الى رأسها إلاّ بالمصاعد الهائلة السرعة، وهي بهذا لا تشابه إلاّ رمزيا النجمة التي يضعها المسيحيون فوق الغصن الأعلى من شجرة الميلاد في زوايا بيوتهم ووسط ساحات مدنهم وهي قطعاُ لن تشبه نظرات المؤمنين في تطلّعهم الهاديء نحو السماء.
لقد ألفت "الحضارة" الدولية سلوك التعالي الإنساني والإستهزاء بتاريخ الخطب التي سارت فيها الساحات والشوارع مثل البشر وتشلّعت فيها الألسن والمخيلات والحناجر وملّت النيران من حرق الصور والأعلام وتعب أهلنا من السجون والمنافي والتشرذم طلباً لتسهيل طرق العدالة والحريّة والديمقراطية التي شاعت بعدما قرعت أبواب الدنيا الكلمات التوحيدية الثلاثة مجبولةُ بتراب الشرق. أضاع العالم نجمته التي تدخله الى أعلى رأسه وشموخه الفارغ، وما أن يدخل الإنسان في جلده لا في الغابات الدولية الموحشة حتى يجد ما يبحث عنه ولو كان في سجنٍ أو كهفٍ أو مذود فكيف إذا كان النبي إيليا أمامه يلوذ بحمى العقل في سماح الخليج؟ الجواب: يمتليء الصدر والزمان بالغبطة.
الدكتور نسيم الخوري - أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه، لبنان.

 

 

  • شارك الخبر