كان صباح، وكانت الشاشة الصغيرة تضج بالناس الذين اجتمعوا حاملين الرايات والاعلام يهتفون للزعيم. اما هو فقد كان منصرفا لالتقاط خيوط الشمس التي كانت تلوّن الارض التي عليها يسير.

كان يلقي من وقت لاخر نظرات على التلفاز اذا ما علت نبرة او صدحت موسيقى. على ما يبدو، كان يحاول التقاط الضوء كي يلتهمه، فيتذوقه، ومن ثمّ انه كان يحاول تحريك يديه جاهدا للمس خيوط الضوء وتذوق طعمها بعد ان شعر بدفئها ورأى انعكاساتها على الارض الوانا. لكنه ما استطاع الى ذلك سبيلا، فالشعاع لا يلتقط ولا يلمس ولا يؤكل ولا طعم له الا طعم الحرية. والحرية لا تلتقط ولا تذاق، والانسان اذا ما فقد فسحة الحرية يصير شيئا يتحكم به من يحوز البعض منها. فلعبة الضوء والعتمة هي التي تجعل من هذا او ذاك البشري مختلفا وفريدا عن غيره وعن نفسه في كل لحظة.

ما كان الطفل المنهمك بالنور الا منشغلا به. نعم، فما كان مهتما بازمة الفراغ الرئاسي ولا بانفراجها ولا بكل الضجيج والحراك، فعوالم الاطفال لا تتصل بعوالمنا الا نادرا ومن خلال بوابات محدودة يفتحونها للكبار احيانا بأسئلتهم.

حاول استدعائي الى عالمه، وطلب اليّ ان اقصّ عليه قصة التراب والشمس، فقلت:

"التراب هو الارض، وكل ما يمشي او يبزغ فوق التراب لا بدّ ان يعود اليه ويصير منه حتى نفايات البشر. لا حياة الا لمن التصق به فرضع من صدره حبيبات ماء ومعادن واغذية.  فالنبتة لا تخرج الا من رحمه، تطمر فيه، فتبزغ  شتلة، تخرج كي تعانق اوراقها الشمس والهواء، تلتهمهما كما تحاول التهام الضوء انت، فأوراقها اقراص تلتقط الاشعة، ويتحول ما تلتقطه من شموس بمفعول ما يطلع من التراب الى غذاء تلتهمه انت. نعم انك تلتهم الشمس والهواء والماء والعناصر يا ولدي في كل مرة تأكل".

ثمّ قلت له، وهو يستمع ويتابع محاولاته في التقاط الضوء:

"لا تصير النبتة مثمرة ان لم تتفاعل جذورها وعناصر التراب ومخلوقات باطن التراب. لا تصير النبتة مثمرة ان ان لم تستضف جذورها بكتيريا الارض كي تفعل فعلها في كتل الهواء العالق في الجذور، فتستخرج منها الهواء وتحول النيتروجين الوافر وغير النافع الى ما هو قليل ونافع، يصير  غذاء البروتين الذي تقتاته انت وسائر المخلوقات كي تنمو. وهكذا يجد من يولد طعاما. تتصحر الاراضي ان فقدت اولادها، وأولاد الارض شجر وخضرة من زواجها بالشمس.  نعم، تتصحر الاراضي عندما لا يتزاوج التراب مع الشمس، كي يخرج من رحم الارض للسماء بنين وبنات،  فتهجرها اتربتها". 

فسأل: ألى اين تذهب؟

فأجبته:

"تتعرى الاراضي اذ ترحل اتربتها الى البحار بحثا عن قصص وعوالم، ترحل بحثا عن الشمس.  تبحث الاتربة عن حياة تعيد اليها الحياة، فتجلب الشمس الى جوفها العطش الى الدفء.

اذا ما رحل التراب يا ولدي لا يعود لكل من هو من تراب على سطح الارض مكان. ببساطة، لا تعود النباتات تنمو، ولا تعود الارض تتنفس بل تروح تضج بسمومها. فيندر الغذاء، ويهوم الناس بحثا عن الغذاء.

تذكر يا صغيري بأنّ الغذاء لا يأتي الا من علاقة الارض بالشمس عبر النبات الذي ينبته البشر.  واذا ما كسرت هذه العلاقة، لا يعود يجمع ممن هو من الارض بالارض الا الموت، يسير الانسان بعكس مسيرته. اذا ما هجر الانسان الارض، يهجر التراب الارض، فيمضي هو وهي مع السيول الى البحار البعيدة". 

تطلع بي وقال: "نشرب مياه عندها ونأكل شوكولا".

فأجبت:

"اذا ما رحل التراب او رحّل يا ولدي لا يعود لقطرات الماء درب الى جيوب الارض كي تغذي ينابيع التراب بدموع السماوات، فيجف الجوف.  وتمتلئ طرقاتنا مياها، لكن ليس خزاناتنا، تشح كميات المياه العذبة ولا تعود الحياة عذبة، ولا نجد ما نشربه من الارض، وتموت اشجار الشوكولا".

وانهيت حديثي معه قائلا: "من التراب يا توماس تخرج العناصر والاجساد وفيها تتحلل واليها تعود. الارض هي موطن الديدان والنمل وكل حيوانات البر. وما تحتها لغز ونار. اما ما فوقها فسراب وهواء. ثبت حياتك يا ولدي واختك واخيك على الارض كي تنزل جذوركم الى ما دونها وتطلع اغصانكم الى فوقها فتزاوج الشمس، وتصير طعاما يتغذى منه اولادكم ورفاقكم وكل من يعرفكم،  فنسر بكم انا وامكم لانكم دخلتم حلقة الحياة والتحمتم بها، والا فانكم ستهومون على الارض بحثا عن طعام ووطن وقضية. نعم،  فكل ما لا يطلع من الارض ويعود اليها ليس من الارض".

"ستلتهم النور يوما يا بنيّ، وتختلط به، فتصنع خبزا يطعم من حولك وعدها فتكتسي حياتك معنى. الا فتطلع دوما الى فوق زارعا رجليك في الارض متغذيا مم تحتها ومتطلعا الى الشمس".

ومضى الصبي في محاولاته لالتهام النور. كبرت عيناه وعاكستا التلفاز، تطلعتا الى الكرم، حيث الشجرة والنور والارض، وهذا كان اساسيا لطفل من عمره.