hit counter script

الحدث - شارل جبّور

الانعزال البريطاني؟

الإثنين ١٥ حزيران ٢٠١٦ - 06:55

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يؤرخ لمرحلة جديدة عالميا على قاعدة ما قبل الاستفتاء ليس كما بعده، حيث ان ارتدادات هذا الحدث الكبير ستبدأ بالظهور تباعا في كل بقعة من هذا العالم. وعلى رغم تقارب النتائج بين المعسكرين، ولكن لو انتصر معسكر البقاء داخل الاتحاد لكانت رياح التغيير رُحِّلت إلى مرحلة أخرى، ولو لم يكن رئيس الوزراء المستقيل ديفيد كاميرون متأكدا من ان الاستفتاء سيؤكد بقاء بريطانيا ضمن الاتحاد لما دعا إليه، ولو كان الانطباع لدى البريطانيين ان الفوز سيكون من مصيب معسكر الخروج لكانت التعبئة وصلت إلى أشدها، إلا ان ما حصل قد حصل وشاءت الظروف ان يبدأ مع هذا الاستفتاء التأريخ لمرحلة جديدة.
البحث عن الأسباب التي أوصلت إلى هذه النتيجة مهم بطبيعة الحال، والتي تبدأ من العولمة وما أثارته من هواجس متصلة بالخصوصية والهوية، ولا تنتهي بعولمة الإرهاب وأزمة النازحين، وما بينهما المشاكل الاقتصادية، إلا ان اهم ما في هذا الحدث رمزيته المتمثلة بأولوية الخصوصية على أي اعتبار آخر، ولا نتكلم هنا عن شعوب العالم الثالث المتهمة بتبدية الغريزة على العقل، إنما عن شعب تشكل الثقافة الديموقراطية جزءا لا يتجزأ من تكوينه وشخصيته وممارسته.
وما حدث في بريطانيا ليس معزولا عن ظاهرة دونالد ترامب في الولايات المتحدة او صعود اليمين في كل أوروبا، بل يعبر عن مزاج شعبي جديد سيتحول عاجلا أم آجلا من تيار أقلوي إلى أكثري على غرار بريطانيا، ويخطئ كل من يعتبر ان ما حصل ظاهرة عابرة في الزمان والمكان، إنما انعكاس طبيعي لاتجاه تاريخي جديد.
فعقدة الحرب العالمية الأولى والثانية انتهت، والمخاوف اليوم ليست من حرب عالمية ثالثة على طريقة الأولى والثانية، إنما من حرب طويلة الأمد تؤدي إلى زوال حضارات وهويات وخصوصيات في حال استمرت الشعوب الغربية مخدّرة بهذا الشكل وتدافع عن عناوين وقيم وشعارات من دون وضع الضوابط والتشريعات والقوانين التي تحمي بواسطتها تاريخها وتضمن مستقبلها.
فالاستفاقة الشعبية الغربية، ولو متأخرة، تشكل السبيل الوحيد للحفاظ على هذه الحضارة، لأن حكومات تلك الدول غارقة في مستنقع أفكارها القديمة ورفضها التعامل مع الوقائع المستجدة، ولا يفيد بشيء تحميلها مسؤولية الإطاحة بكل هذا الإنجاز الحضاري، باعتبار ان ما حصل يكون قد حصل، فيما المطلوب على طريقة الشعب البريطاني تدارك التسونامي القاتل للحداثة والعصرنة والرقي والثقافة...
فالحدث البريطاني هو حدث مبارك وفي الاتجاه الصحيح ويجسِّد وعي الشعب البريطاني لمصلحته ومصلحة بلده، وهذا الوعي مرشح ان يتعمم ويتحول إلى ثقافة عالمية جديدة تُسقط أوهام ما يسمى بالوحدة، وتعيد الاعتبار للخصوصيات والهويات، سيما ان المطروح ليس تشييد جدرانا من الفصل، إنما الوصل مع كل العالم شرط عدم الذوبان والإضمحلال والإمِّحاء، لان خلاف ذلك كل الحضارة الغربية ستكون في خبر كان بعد عقود قليلة من الزمن.
وإذا كان من السهولة بمكان توجيه تهمة الانعزال لمواطن لبناني حريص على هويته وثقافته ووجوده وحضوره، فليس بالسهولة نفسها ان توجه تهمة الانعزال إلى الشعب البريطاني أو الأميركي ومن شعوب العالم الثالث، بل شاءت الصدف التاريخية ان الشعوب الغربية التي تعبِّر اليوم صراحة عن أولوية خصوصيتها كانت بالأمس تتهم مجموعة لبنانية أساسية بالتقوقع وعدم الانفتاح.
فالاستفتاء البريطاني جاء ليؤكد ما ذهبت إليه "الجبهة اللبنانية" عن فلسفة التعددية منذ عامي ١٩٧٧ و١٩٧٨، وما نذر المفكر انطوان نجم نفسه له منذ ستة عقود إلى اليوم وكوكبة من رجال الفكر والدين والسياسة، الأمر الذي يثبت نظرية سعيد عقل عن تفوق الشعب اللبناني على شعوب العالم قاطبة والتي ما عليها سوى ان تترجم كتب الاستشرافي نجم وتجعلها مادة أساسية في صلب دستورها ومعاهدها وجامعاتها بغية المزاوجة بين الحفاظ على وجودها والتفاعل مع محيطها.
ولا نتحدث اليوم عن سقوط وحدات قهرية وإلغائية ورجعية، إنما عن بداية سقوط وحدة عصرية وحديثة في مؤشر واضح ان الأولوية الانسانية ليست للشعارات الفارغة من أي مضمون بذريعة العصرنة والحداثة، بل الأولوية دائماً للهوية المجتمعية التي تستفيق في اللحظة التي تشعر فيها بتهديد وجودي ومصيري كما حصل ويحصل في الغرب في الآونة الأخيرة.
فكل نظرية الانعزال كان هدفها القضاء على جماعة محددة، فيما كل هدف هذه الجماعة كان عدم المس بحريتها وكرامتها والحفاظ على هويتها والعيش بمساواة مع الجماعات الأخرى. وكل أصحاب نظريات الانعزال والانفتاح هم أبعد ما يمكن تصوره عن الديموقراطية وفهم الأبعاد الحقيقية للبنية المجتمعية.
فالانفتاح يكون على قاعدة تقبُّل الآخر كما هو، وعدم الرهان على الوقت من اجل تغيير الوقائع الديموغرافية، ولا السعي المعلن او المضمر بغية فرض ثقافة جديدة وعادات جديدة، ولا التمسك بنماذج أثبتت الأحداث فشلها وعقمها، بل الانفتاح يتجسد اليوم بجرأة الشعب البريطاني الذي لم يسأل عن تداعيات انفصال دولته عن الاتحاد الأوروبي على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لأن أي شيء يمكن تعويضه إلا الهوية...

  • شارك الخبر