hit counter script

مقالات مختارة - الفضل شلق

عذراً سليمان تقي الدين

الجمعة ١٥ نيسان ٢٠١٦ - 07:45

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

السفير

قضى حياته يسأل (ينتقد). رحل ولم يجد الجواب. جيلنا تراكمت عليه الأسئلة من دون أجوبة. مع الأجوبة خيبات وهزائم. أسوأ ما فيها المفاجآت. في كل مرة كنا نتوقع الانفراج والنصر، لكن الآمال كانت تتراجع بسبب هزيمة ما. توالت الهزائم. برغم ذلك بقيت كتاباتنا تبدأ باللازمة: جاءت الأحداث لتؤكد ما كتبناه سابقاً، الرغبات أقوى من الوقائع. خلل في تقدير الموازين المحلية والإقليمية والدولية. خلل في رؤية السياسات التاريخية.
لو التقيت سليمان، حيث هو الآن، وربما كان اللقاء قريباً، سوف نتساءل عما فعلنا؟ عما أنجزنا؟. هل الحصيلة أفضل بعد نضالنا مما قبله. سيكون نقاشاً يتعلق بالدولة (لا بالوطن ولا بالعلمانية)، سيدور النقاش حول مفهوم الدولة، بالأحرى حول غيابها في المجتمعات العربية. غياب الدولة، أولوية النظام، عدم اهتمامنا بالدولة؛ أولويتنا للنظام، كل ذلك في عمق المشكلة. تساؤلات متشائمة على المدى البعيد، ربما على المدى القريب. كان يدرك أهمية الدولة وأولويتها وأن الدولة هي التي تنشئ المجتمع.
أضيف إلى ذلك أن إسرائيل انتصرت في عام 1948 لأنها أسست الدولة قبل المجتمع، وانتصرت بسبب ذلك على عرب يفوقونها عدداً وربما عدة. تتفوق إسرائيل بنوع العتاد وتدريب العديد.
في حروب التحرر الوطني انتصرت شعوب على دول، شعوب محلية على دول غربية إمبريالية، شعوب بغير دول، على دول غربية مكتملة النمو والتجهيزات. لم يعد ذلك وارداً بعد الاستقلال منذ حوالي 1945؛ لم يمكن الاستمرار بحروب الشعب ضد الدول. صار ضرورياً بناء دولنا لمواجهة دول الاستعمار التي أبقت على تحالفاتها محلياً.
ثوارنا من البعث وحركة القومية العربية والإخوان المسلمين والشيوعيين وورثتهم اتجهوا لبناء المجتمع لا لبناء الدولة؛ فشلوا في الاثنين معاً. بدل التعبير عن المجتمع بعجره وبجره، اتجهت أنظمتنا إلى هندسة المجتمع وإعادة تشكيله. بُني الاستبداد على ذلك. استمر الاستبداد عقوداً من السنين في المواجهة بينه وبين مجتمعاته لا بينه وبين قوى الاستعمار وبقاياه المحلية. لم نتعلم أن ما كان يصلح في حروب التحرر الوطني لا يصلح في ما بعد الاستقلال. في مراحل التحرر الوطني هي حرب الشعب ضد الاستعمار؛ في مرحلة الاستقلال هي مواجهة بين دول ودول. استمر منطق المقاومة الشعبية لدى سلطات الاستقلال، وما زال حتى اليوم. غاب منطق الدولة.
صارت الأنظمة العربية إلى مقاومة الشعب بدل أن تكون في مقاومة الاستعمار وقواه. شعب اعتُبر رازحاً تحت أعباء المرض والفقر والجهل، لا يستحق أن يعرف وأن يشارك، كان يجب أن يبقى بنظر الأنظمة مطيعاً لسلطات تعاملت مع الاستعمار بانتقائية. صادرت أنظمة الاستبداد الشعب، حولته إلى مقولة ميتافيزيقية (مثل الأمة) ونطقت باسمه ووضعته في الاحتياط أو السجن. لم نفهم، أو لم يُرد لنا أن نفهم الفرق بين إسرائيل والدولة (الدول) العربية. ولم نفهم طبيعة المواجهة بيننا وبين الاستعمار وإسرائيل، وأن هذه المواجهة تمر عبر الدولة لا غيرها.
عندما التقيت سليمان تقي الدين بعد حرب تموز في ضيافة أخي وائل رأيته جملة أعصاب متوترة في جسد. لقاءات تتوالى فيها الأسئلة. يأتي السؤال قبل الجواب على السؤال الذي سبق. لكننا وجدنا اتفاقاً في تعريف المصطلحات برغم اختلاف الخلفيتين السياسية والمهنية. فاجأني بالسؤال: هل تكتب لـ «السفير»؟ كان صادقاً مع نفسه ومع الآخرين. كان يبدو في همة الشباب، وكنت قد بدأت مرحلة من الانطواء. تعللت في البداية أنني بطيء وأن الكتابة الأسبوعية صعبة ومرهقة. لكنني وافقت. لكن فكرة الدولة، وصعوبة تحول النظام، سواء كان طائفياً أو غير طائفي، إلى دولة يخضع لها النظام، بقيت الفكرة أساسية في نقاشنا الدوري بعد ذلك. تحوّل النظام إلى الدولة يحصل برضا الشعب، الذي يعطي النظام شرعية فيحوّله إلى دولة تنغرز في وعي المواطنين، الذين يتحولون من رعية إلى أفراد مشاركين، فتصير الدولة المجردة التي لا شرط عليها، جزءاً من الفرد، وبالتالي يصير الفرد أوسع منها. وذلك لا يحدث إلا في مجتمع مفتوح ليس منغلقاً على الطوائف أو الإثنيات أو القبائل.
يحوي عنوان هذه الندوة تعبيري «الوطن والعلمانية». أولاً: كل دولة علمانية سواء كانت حديثة أو قبل حديثة، الدين مفصول عن الدولة. المؤسسة الدينية مفصولة عن النظام. ذلك في كل مجتمعات العالم، المؤسسات الدينية تخضع للدولة ولسياساتها.
الدولة هي العلمانية، سواء كانت الدولة دينية أو غير ذلك. لا يضير علمانية بريطانيا أن الملكة رئيسة الكنيسة. والسعودية دولة علمانية بخضوع المؤسسة الدينية للسلطة السياسية. أما الازدواجية في إيران ففيها السلطة الدينية تتعاطى السياسة وتُخضع المؤسسة الدينية. العلمانية هي اعتقاد أن ما يحصل على الأرض يقرره أهل الأرض لا أهل السماء؛ هي موقف يعطي الأولوية في الذهن للأرض أو للسماء.
أما الوطن فهو مفهوم ملتبس يعني أشياء مختلفة لكل من يستخدمه. هو يكاد يشبه الأمة سواء كانت عربية أو إسلامية. لا يوضع فوق الدولة. إذ الدولة شرط لما عداها ولا شرط عليها.
تغيب كلمة الدولة عن هذا العنوان بسبب استمرار تجاهل معناها وأولويتها. الدولة هي الحدود والدستور، لا غير. هي مجرد مطلق ينغرز في الفرد. يصير الفرد أوسع منها. حدودها لا تتغير إلا نادراً، دستورها لا يتغير إلا برضى الشعب. لم تنغرز في الفرد بسبب الجهل والتجاهل. لم تصبح في ضمير الناس. لم نعرف بعد لماذا.
غابت الدولة عن العنوان. سوف يسألني سليمان تقي الدين عندما نلتقي عن سبب ذلك. قبل أن أجيبه سوف أعتذر.
 

  • شارك الخبر