hit counter script
شريط الأحداث

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - جورج عبيد

رحل جورج طربيه... وبعض مني رحل معه

الأربعاء ٢٩ كانون الثاني ٢٠٢٠ - 13:25

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

بعض من ذاكرتي وذكرياتي رحل مع رحيل الصديق الحبيب وأستاذي ومعلّمي الدكتور جورج طربيه. إنّه الكاتب الراقي، والشاعر المرهف، والمفكّر الرّائي، والمحاضر الملهَم والملهِم في آن. سرنا معًا منذ سنة 1991، بل سرت في معيّته منذ أن التقيته للمرة الأولى في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة الفرع الثاني-الفنار، فألفته معلّمًا وأستاذًا، يقودنا إلى أصول الحضارة العربيّة وجذورها، بتاريخها وشعرها وشعرائها وأدبها، فبات معنا ممدودًا من الحضارة الجاهليّة بأدبها وصولاً إلى الحضارة الأندلسيّة ببهائها، لنكتشف معه عبر البحث والتنقيب أن العرب عظماء في التاريخ حين قدروا على التوثّب المضيء، وقد بلغوا الذروة من دمشق حين عزوا مع الأمويين إسبانيا، ولم يتمزّقوا إلاّ حين تعصّبوا فتبعثروا، أضاعوا نفسهم فتاهوا ولا يزالون يقيمون في التيه والتغرّب.

في تلك الحقبة من حياتي الطالبيّة، كان هذا العملاق دليلي إلى التكوّن الفكريّ. لم يكن لوحده، بل كان لكلينا مرشد كبير وجليل من جيله إلى جيلي، وهو المطران جورج خضر، فاطلقنا المطران جورج الذي كان أستاذه في كليّة التربيّة في الجامعة اللبنانيّة، وأنا لقبًا عليه بتحبّب وتعمّد، جورج طربيه: مارونيّ-أرثوذكسيّ. وكان جورج يعتزّ ويفرح بهذا اللقب، إلى أن بلغ الذروة في الإضاءة عليه، ولا أقول بالغ، حين سأل مرّة في ندوة في كليّة الآداب في الفنار: "هل قرأتم إنجيل جورج طربيه الشعريّ"؟

جمعتني به أستاذيّته. وسرعان ما تخطيناها حين وجدنا بعضنا في وحدانية الرؤيا. لجورج فضل عليّ كبير، والفضل تتمتمه المعرفة العميقة، وتوشّحه المحبّة الصادقة، وتغمره الكلمة الشفيفة، وتطلقه حيًّا في القلوب والعقول. فضله أنّه حين قرأ لي بحثًا كان قد طلبه منّا، وجد فيه مساحة رؤية ربما لم يكتشفها عند سواي. حمل البحث بين يديه، وقال أمام زملائه وهم أساتذتي، "أنظروا هذا البحث، سيكون لصاحبه دور رياديّ كبير في المستقبل، يجب أن نتعاون على احتضانه وتشجيعه ليثبت وينطلق ويثب ولا يتوقّف، في كلماته ينابيع فكر لا تنضب، وفي رؤيته إطلالة على مستقبل يستشرفه وهو يافع بعقل ثاقب"، وجاء كلامه في لحظة حاول فيها بعضهم لأسباب خاصّة بهم سحقي، فلم يقدروا ولم يجسروا. صرخة جورج رفعتني من حضيض بعضهم، وأدنتني إلى قلبه وعقله، فضمّني إلى ملتقاه الثقافيّ بصفة صديق مقرّب، فلم يوفّر مناسبة في بيته إلاّ وأصرّ على حضوري مع أهلي فتوطّدت العلاقة لتتحوّل إلى صداقة شخصيّة وعائليّة فيها القلب مستند على القلب والعقل مستند على العقل.

لم تكن فرادة جورج في ثقافته وفكره وثورته، فرادته أنه كان بحدّ ذاته ثورة متنقّلة بوجه كلّ ظلم في التاريخ. لقد تجلى على هذا البهاء الكبير منذ يفاعته، أي منذ كان طالبًا في الجامعة اللبنانيّة، يكافح مع شلّة من أترابه في سبيل عودة للحق للفلسطينيين بأرضهم وهي مصدر الوجود والكرامة، ويجاهد من أجل لبنان جديد، يسير على مبدأ المواطنة الحقيقيّة بعيدًا عن الخربشات الطائفيّة، ويناضل من أجل مَشرق مُشرق، وعروبة بيضاء، استمدّها حضاريًّا بفعل قراءته للتاريخ الحضاريّ والأدبيّ والسياسيّ للعرب. فكان بحقّ، ثورة فكريّة، ثمّ إلى ثورة شعريّة تمايلت ما بين الحبّ والإنسان، وما بين القرية والوطن، فظهرت هامته عالية، تشبه جبال تنورين، بل جبال لبنان في لحظات الشروق فقال عن لبنان:

فافرد جناحك زاهي الألوان وارحل تكحّل جفنك الأحزان
فعلى رمادك تقرأ الأكوان نبضات قلبك أحرفًا لبنان

لم يكن عبثيًّا بل ثار بوجه العبثيّة ليبدو بدوره متمايلاً ما بين الواقعيّة والحلم. ما عاناه هذا الرجل من ألم ما كان هيّنًا، ولكنّه عرف كيف يحوّل الألم إلى أمل، حتى في مواجهته للمرض الخبيث. هو عارف بأنّ حضن الآب موطنه، وقد أدرك في إحدى قصائده بأن الدنيا غابة صلبان، وكأنّه فهم ما كتبه الشاعر الروسيّ بوريس باسترناك بأنّ الصمت صليب. بيد أن جورج لم يكن أليف الصمت المطبق ولا عشير العدم، بل كان في جوهره نبضًا قياميًّا في الكلام المقول والمكتوب على السواء.

لا يعني أن حبيبنا جورج طربيه لم يسقط في تجارب الدهر. ذلك أنّ الطريق محو الكمال مشوب بالسقوط، ومكتنف بالغصّات، ومكفّن بالعتمات، ومقمّط بالآهات أو التأوّهات. هذا يقيمه ثائرًا على الظلم حين يصرخ

"كلّ هذا الكون لغو وهراء شـــــرف، عـــــدل، إبـــــاء
كلّها بـــــــاتت ســــــــواء ترّهات، كلمـــات في الهواء

لو بقي جورج طربيه في هذه اللحظة المليئة بضفعات قرون، لكن وقف على تلّة من تلال تنورين ينظر من علوّها إلى العالم حوله، وقال الكلام عينه. لقد غدا العرب خالين من مروءة وشرف، والعالم مقيم في استكبار مقيت، وفلسطين تذبح أمامنا، وشعبها بل قياداتها غير موحّدة، والدم يسيل مدرارًا ونحن نستطيب الكلام تكرارًا. أخال جورج وهو في كامل الرؤية يصرخ ويقول عن الكون بأنه لغو في إباحة الظلم واستباحة الكرامات وسقوط القيم. لكنّه لم يتآلف مع السكون العبثيّ، فجاهد منذ ثمانينات القرن المنصرم، حين تقطّعت أوصال البلاد، وثقلت الحروب على الوطن، فحوّل منزله في مستيتا وتنورين، إلى بيت ثقافيّ فكريّ يجمع في رحابه وضيافته السخيّة إلى جانب زوجته الغالية مرتا وولديه الحبيبين وسام وفدى نخبة النخب، والقيادات الروحيّة والفكريّة والسياسيّة لاستشراف المنظورات وغير المنظورات، لم أشهد سو الدسامة والوساعة في كلّ قراءة كنا نبديها إلى جانب المطران جورج خضر والمطران (البطريرك الحاليّ) بشارة الراعي والأب إغناطيوس داعر والأب يواكيم مبارك والشيخ حسن اللقيس والعلاّمة السيد محمد حسن الأمين والعلاّمة السيد هاني فحص، وبيار حلو وبيار دكاش وميشال إدة ونايلة معوض وغسان تويني وفؤاد بطرس وجوزيف طربيه ومنح الصلح وفؤاد الترك ونسيب نمر ورفيق خوري وخليل نصرالدين، زهيدة درويش جبور، إلهام كلاّب البساط... وشعراء كبار من أمثال سعيد عقل جورج جرداق جورج شكور هنري زغيب جبيب يونس عبد العزيز البابطين وباسمة باطولي ونجاة سنجب... وفنانين كبار من أمثال وديع الصافي مروان محفوظ عايدة شلهوب الأب يوسف طنوس، نداء أبو مراد.... وكنان يكرم المبدعين من بينهم بجائزة سنويّة وضعها إلى جانب نسيبه رجل الأعمال الراحل جورج بدوي. كان بيته ما بين جبيل وتنورين جامعًا وحاويًا لكلّ النخب والرؤى، ومنه تأسّس تجمع البيوت الثقافيّة في لبنان ليشملها من الشمال إلى الجنوب مرورًا بالبقاع والجبل، فكانت له لقاءاته السنويّة.

جورج طربيه حركة لم تهدأ يومًا، كان يضيء بها في بيته وفي أبحاثه. في أول عهد الرئيس الراحل الياس سركيس قدّم له دراسة مقارنة بين الحالة السياسيّة في لبنان والأندلس، مبديًا اوجه الشبه بين البلدين، ومظهرًا في ختام مقاربته خشيته من تمزّق لبنان من أحشائه بسبب من الطائفيّة والتعصّب الطائفيّ كما تمزّق الأندلس وتبخّر. لعلّ المقاربة لا تزال تصلح في ما نعيشه من أوضاع تنذر بقلب النظام السياسيّ بلا بدائل واضحة، في حين أن العلمنة عند جورج كانت هي البديل لديمومة لبنان كشعاع في هذا العالم العربيّ. وقد اتفقت مرّة معه، بأن يتحوّل ملتقاه الثقافيّ في جبيل من الجمود المكاني إلى الحركة المكانيّة للغوض في الأبحاث، والبلوغ نحو استخراج عناصر مشتركة ممكنة مع السياسيين، فكنّا نذهب إليهم في بيوتهم وتنتناقش ونبحث، وكانت الإضاءات تتجلى بالخلاصات وكلّها أرخها جورج الحبيب في مجلدات تبقى وثائق دامغة.

من مآثره في مطلع السبعينات من القرن المنصرم، أنّ غسان تويني رحمه الله انتدبه ليكتب افتتاحيّة النهار مع مقدّمة لغسان نفسه اعتبره وفي عهد الرئيس سليمان فرنجيّة أنّه رمز للثورة الطلاّبية الناصعة المستوية في الحقّ.

في سهرة جمعتنا في منزله في السوديكو إلى المطران جورج خضر ضمتني مع الأهل وابن عمّي الأستاذ سمير عبيد وزوجته لور، احتفل المطران جورج بالصلاة على المياه المقدّسة وقام بتكريس البيت، وكان جورج يفرح بالبركة إلى جانب عائلته الحبيبة، ثم سجّل حديثًا معه مؤثّرًا تناقشنا فيه حول الإيمان واليقين والشك، وجاء النقاش في أسبوع التجديدات الفصحيّة، وفي معرض الإجابات أطلق المطران جورج ضرخة مدوية قال فيها، "إذا كان الله على طريقة أرسطو وتوما الأكويني باردًا فماذا ينفعني؟" "الله لا يستدلّ عليه بالعقل فقط بل بالقلب"، واستذكر أن نسيب نمر المفكّر الشيوعيّ الملحد قال له: "إن ضباط وجنود السوفيات وبعد استشهادهم اكتشفوا بأنهم كانوا يضعون صلبانًا على صورهم، الإيمان أقوى من الإلحاد وهو مصدر اليقين". على ضوء الحديث كتب المطران جورج افتتاحية النهار مستندًا إلى الحوار وكان جورج طربيه يزداد إيمانًا وفرحًا.

لن أنسى يا جورج، يا حبيبي وصديقي جلساتنا الطويلة ما بين السوديكو والحازمية وجبيل. ولن أنسى أن كتابي "قراءة في فكر المطران جورج خضر"، هو الرسالة الجامعيّة التي اشرفت عليها بحب وسخاء، وكانت لك اليد الطولى في التمحيص والتصحيح والتصويب حيث يجب، وأحيانًا كثيرة كانت نقاشاتنا تعلو مبديًا عن عمد الخلاف معك لأصل إلى اليقين، إلى أن ناقشتها ونلت شهادة بدرجة مميز. لن أنسى المحبّة التي جمعتنا من الكلمة إلى الحياة، ومن الجامعة إلى العائلة. لن أنسى وقفتك يوم فقدت أخي فادي وأمي جمال إلى جانب والدي والعائلة وقد تركت أثرًا طيبًا، لن أنسى حضورك فرحي وإكليل وكنت في الطليعة، لن أنسى جلساتنا المغلقة وكنت أخبرك فيه مكنونات قلبي وكنت بدورك تبادلني المكنونات عينها. آخر اتصال بيننا في أواخر الصيف وكنت قد علمت بما ألمّ بك، قلت لي حين أنتهي من العلاج يجب بالضرورة أن أجتمع بك، لي كلام كثير معك جورج، انا اشتقت إليك ولكنّي أريد أن أراك لنتكلم. وإذ بالكلام يصمت ونعود معًا إلى السكون، وقد رحل معك.

جورج طربيه سلام عليك وأنت مطيّب بأريج الكلمة، أنت منه كلمة وثورة من كلمات. إذهب واعلُ ولا تتوقّف عند هذا الوضع الفاجر. لقد أعد لك أبوك السماويّ مكانًا أفضل. إذهب إلى جمال وفادي واطبع على وجنتيهما قبلات شوق وحنين وحنان مني ومن والدي ومن عائلتي، إذهب واعل إليه وقف عند عرشه واحمل قصائدك واجمعها وضعها في قلبه صلاة من أجلنا جميعًا ومن أجل خلاصنا.

هناك يا جورج ستكتشف أن غابات الصلبان واحات ضياء وفراديس حياة وقيامة.

  • شارك الخبر