hit counter script
شريط الأحداث

رحيل المؤرخ الاجتماعي اللبناني - الأميركي إيليا حريق في إنديانا

الثلاثاء ١٥ آذار ٢٠٠٧ - 18:41

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع
كتب محمّد ابي سمرا في صحيفة النهار اليوم ان الباحث والمؤرخ الاجتماعي اللبناني - الاميركي الجنسية إيليا حريق رحل عن عمر 73 سنة، نتيجة أزمة قلبية مفاجئة أصابته السبت 24 شباط الماضي في الولايات المتحدة الاميركية، حيث كان يقيم ويدرّس في جامعة إنديانا، بدايات الستينات من القرن الماضي، مغادرا "اللبنانية" طبعاً ونظرة الى النفس والعالم، ليمسي فرداً مغفلاً وبلا جذور. في واحدة من زياراته الاخيرة للبنان سجلنا مع المؤرخ الراحل مقتطفات من سيرته الحياتية والفكرية. في مناسبة رحيله نستعيد هنا مقتطفات من هذه السيرة. 
حين ولد إيليا حريق عام 1934 في ضهور الشوير، كان العالم يعيش خائفاً مضطرباً على وقع أخبار الحرب العالمية الثانية. عائلته الكاثوليكية من العائلات الصغرى في البلدة. والده كان موظفاً صغيراً في "الريجي" ببيروت، وانتمى عن بداهة وتقليد محلي وعائلي الى الحزب السوري القومي الاجتماعي القوي الحضور في بلدة الزعيم أنطون سعادة. ومن ذكريات إيليا حريق في فتوته الاولى ان سعادة، بعد عودته من المهجر الى بلدته المتنية التي جعلها معقل حزبه الاربعينات، كان يلعب التنس وحوله حراسه في ملاعب مدرسة المرسلين البروتستانت التي كان حريق تلميذاً فيها حتى نهاية مرحلة تعليمه الثانوي في مطلع الخمسينات. فالتعليم البروتستانتي كان الاقوى في ضهور الشوير التي أقبل أبناؤه على طلب العلم والهجرة منذ أواسط القرن التاسع عشر. وفي صغره كان إيليا حريق يسمع والده المتواضع الحال يقول له ولإخوته: "رح أعمل شو ما كان من شان علمكم".
 
حزبا بكفيا وضهور الشوير
في السنتين الاخيرتين من حياته المدرسية في ضهور الشوير، لم يعد ميل حريق الى الحزبية السورية القومية الاجتماعية، بلدياً وعفوياً على طريقة والده، بل صار ميلاً عقائدياً يلابسه التثقيف والنشاط الحزبيان. لكنه حين صار باحثاً اجتماعياً في كهولته، اعتبر أنه لو كان وُلد ونشأ في بكفيا المجاورة لضهور الشوير، لأنتسب في فتوته وشبابه الاول الى حزب الكتائب اللبنانية القوي في بكفيا، أو الى الحزب الشيوعي اللبناني الذي كان له حضوره فيها ايضاً. فأقدار البشر وخياراتهم، حتى الفردية والشخصية، بحسبه، ليست منقطعة عن منابتهم الاجتماعية المحلية. متعلموا بكفيا اقبلوا على متابعة تعلمهم العالي في جامعة القديس يوسف، واقبل الشوريون على متابعته في الجامعة الاميركية في بيروت، شأن غيليا حريق نفسه. ولا يخرج تلقي مؤسسي الحزبين النافذين والمتنافسين في البلدتين (بيار الجميّل وحزب الكتائب في بكفيا، وأنطون سعادة في ضهور الشوير) تعليمهما الجامعي، عن هذه القاعدة التي كان لها دورها في تعزيز حضور الطلاب السوريين القوميين في الجامعة الاميركية في رأس بيروت، وحضور الطلاب الكتائبيين في الجامعة اليسوعية على طريق الشام.صور مشاهد المواكب الليلية الحاشدة التي كان الحزب السوري القومي يطلقها بالسيارات في مطلع آذار من كل عام من ضهور الشوير الى المصيطبة في بيروت - حيث كان منزل أنطون سعادة الذي أعدم عام 1949 وراح "الرفاق" يتناوبون على حراسة منزله - ظلت حاضرة في ذاكرة إيليا حريق في كهولته، حضور ذهابه في فتوته مع أقرانه من "رفاق" حزبه في بلدته، للفرجة على احتفالات عيد الزهور ومواكبه الموسمية في بكفيا.ومن ملاحظات حريق اللاحقة والتي تعود مادتها الاولى الى تجربته الحزبية في شبابه، أن إعدام أنطون سعادة والحصار والمطاردة اللذين تعرض لهما القوميون السوريون في لبنان وسوريا، كان لها دور بارز في تمتين العصبية الحزبية التي لابسها شيء من خوف مقيم لم يسمح باسترخائها، فصار النسيج الحزبي كله مشدود الاعصاب ويختزن توتراً عنيفاً ظلا حاضرين في سلوك الحزب وممارساته.ومن صور حياته الحزبية القومية السورية التي تعود الى أيام الشباب، يذكر إيليا حريق طغيان قيم الذكورة والانضباط التي تجلت في نزعة شبه ميليشياوية وفي اللباس الخاص والحركات الطقوسية والشعائرية الموحدة والاستعراضات المنظمة على قاعدة ما يسمى "المناقبية" و"الناموس" الحزبيين. وطغيان الذكورية وقيمها تجلت ايضاً في ندرة الفتيات في صفوف الحزب، بل غيابهن التام عن أنشطته في مدرسة ضهور الشوير وفي الجامعة الاميركية في بيروت، لاحقاً. والقلة من الفتيات اللواتي يذكر حريق حضورهن في النشاط الحزبي الجامعي، كنّ بنات حزبيين وسياسيين في الحزب نفسه. ومن ذكريات حريق ايضاً ان حال حزب الكتائب اللبنانية مع الذكورية وطقوسها والزي الموحد وغياب الفتيات، كانت كحال الحزب السوري القومي.
قومي سوري في الاميركية
عام 1952 بدأ إيليا حريق حياته الطالبية في الجامعة الاميركية في بيروت، فازداد انخراطه في الحزب السوري القومي، وإيمانه بعقيدته. كانت العلوم السياسية والفلسفة الاسلامية مجال دراسته الجامعية. وكان على الطالب الجامعي الذي كانه حريق أن يختط طريقه الخاصة الى المواءمة بين العقيدة والنشاط الحزبيين والدراسة الاكاديمية الجامعية. إيمانه بالعقيدة أخذ يدفعه الى البحث عن سبل تحقيقها في الواقع الحي والمعيش، تحت إلحاح برنامج التعليم الجامعي والسجالات مع التيارات العقائدية الاخرى في الجامعة.أساليب التفكير في تلك الايام، وكذلك التعليم الجامعي وثقافته، لم تكن تجريبية أو اختبارية، بل نظرية وسجالية وعقائدية، ومنقطعة عن وقائع الحياة ومعطياتها المتدافعة والماثلة. وأحكام مثقفي تلك الحقبة، كانت بحسبه، رتيبة في معظمها، ومنقطعة عن سيولة حياة المجتمع وشديدة القسوة عليها. كان المثقفون والحزبيون منهم خصوصاً، يحكمون أحكاماً مبرمة على مجتمعاتهم، فيعتبرونها متخلفة، لأنها تشذ عن القواعد والمقولات النظرية المجردة التي قرأوها في الكتب، فيصمون مجتمعاتهم بالرجعية والفساد والتقهقر، من دون أن يبينوا كيف هي مختلفة ورجعية ولماذا؟ ويرجح حريق أن هذه الظاهرة لا تزال على حالها في كثير من وجوه الحياة الثقافية اللبنانية والعربية الراهنة اليوم، مع تغيرات قليلة وطفيفة.وتحت إلحاح من مقولات عقيدته الحزبية، بدأ حريق الاهتمام باللغات القديمة، كالآرامية والسريانية، ودراستها في فصول خاصة بالميثولوجيات القديمة التي كان يدرّسها في الجامعة أنيس فريحة. وشيئاً فشيئاً راحت اسئلة الطالب الجامعي تكبر وتتعمق حول عقيدته الحزبية. فكيف يمكن للوحدة السورية أن تتحقق في ظل غياب المبادلات التجارية بين لبنان وسوريا، وبين سوريا والعراق؟ وسرعان ما شملت الاسئلة مقدار التخالط الاجتماعي بين شعوب هذه البلدان، ليكتشف حريق بنفسه وبجهده البحثي الخاص، أن المناطق الغربية والساحلية من سوريا، أي الساحل اللبناني والجبل الذي يحاذيه، شديدة الاختلاف في تركيبها الاجتماعي عن الداخل الذي تسود فيه الاعراف والعلاقات القبلية والعشائرية، خصوصاً في سوريا والعراق. وحين أخذ يطرح هذه المسائل للمناقشة في الأطر الحزبية، تعرض لصدّ ورفض من معظم "الرفاق"، لأن وحدة الأمة في رأيهم متحققة أصلاً، ولا يحول دون إنجازها في دولة، سوى عقبات طفيفة هي من صنع أعداء الأمة.وخرج باسئلته هذه على الأطر الحزبية التنظيمية، وانتسب مع صلاب من أمثاله الى "جمعية العروى الوثقى" التي كانت قوية الحضور في الجامعة الاميركية. لكن انتسابه هذا لم يفقده إيمانه بالعقيدة القومية السورية، إلا بعد ما طرده "الرفاق" من الحزب قبل سفره الى لندو عام 1957 لمتابعة دراسته في احدى جامعاتها.
 
مؤرخ اجتماعي في أميركا
الخروج على العقيدة الحزبية أكسبه حساً نقدياً للعقائد القومية كلها. وبدل التعويل على ثنائية الأمة - الحزب، رأى إيليا حريق أن فكرة الدولة المواطن أقرب الى المنطق السليم والواقع الحي من العقائد الحزبية والقومية الخرافية والخيالية. هكذا راح يركز تفكيره على أشكال الحكم وكيفياته، وعلى أشكال العلاقة بين الدولة والمواطنين، وعلى أمور المعاملات والحقوق والواجبات، بدل التفكير في مقولات الطوبى القومية. وعشية سفره الى لندن بدأت تتبلور لديه فكرة النظام السياسي والاجتماعي المدني التي تتمحور حول كيفية تعامل الدولة مع مواطنيها، وواجبات المواطنين حيال الدولة والقوانين الوضعية والاجتماعية التي تنظم هذه المعاملات والواجبات.كانت هذه الافكار هي البذور الاولى التي وجهت إيليا حريق نحو البحث في التاريخ الاجتماعي والسياسي في جبل لبنان القرن الثامن عشر والتاسع عشر. وهو البحث الجديد في مقولته وبابه، والذي أنجزه في جامعة شيكاغو في الولايات المتحدة الاميركية، بعد سفره اليها عام 1959. فجامعة شيكاغو كانت مزدهرة وذائعة الصيت في مجال العلوم الاجتماعية منذ الثلاثينات، ودراسته فيها ابتداء من مطلع الستينات، هي التي زودته صيغ البحث الاجتماعي وأساليبه. فعن ماكس فيبر أخذ الاطار الفكري أو النظري العام واستوحاه في بحثه الذي عاد الى لبنان لجمع مادته الوثائقية والميدانية، فأمضى نحو نصف السنة منكباً على قراءة الارشيف والوثائق في الصرح البطريركي الماروني في بكركي وفي بعض الاديرة وفي المديرية العامة للآثار.
 
أصول الديمقراطية اللبنانية
من خلال هذه الوثائق ظهر لحريق أن نظام الحياة الاقتصادية وطبيعة ملكية الارض وما نشأ عنهما من تحولات اجتماعية في مجتمع جبل لبنان في العهود الاقطاعية، تختلف عنها في المقاطعات والولايات العثمانية الاخرى. فالنظام الاقطاعي في جبل لبنان قديم ويشبه في بعض وجوهه النموذج الاقطاعي في اوروبا. فهو ليس اقطاعياً مركزياً على مثال النموذج العثماني، بل متعدد القطب الاقطاعيين الذين تواليهم وترتبط بهم عامة الفلاحين. والاقطاعيون تنتظم علاقاتهم في مؤسسة حكم على رأسها أمير حاكم يتولى الموازنة والتحكيم بين الاسر والاقطاب الاقطاعية. والاسر الاقطاعية تتقاطع مصالحها مع مصالح الفلاحين الذين يوالونها ويحاربون الى جانبها في اوقات الحرب. وهذا الشكل من التنظيم الاجتماعي هو البذرة الاولى التي ارهصت بالديموقراطية اللبنانية الشعبية والطائفية اللاحقة. ففي أواخر القرن الثامن عشر بدأ يظهر تحول جديد وغير مسبوق في نظام الحياة الاقتصادية والاجتماعية في جبل لبنان، ألا وهو ظهور الكنيسة كقطب فاعل على مسرح تلك الحياة في لحظة تفكك النظام الاقطاعي وتفتتت ملكيات الارض الكبيرة. واثناء هذا التحول راحت الكنيسة، كمؤسسة فتية وفاعلة، تراكم قوة اجتماعية ركيزتها العمل والتنظيم والارض. وفي النصف الاول من القرن التاسع عشر راحت تظهر طبقة وسطى جديدة ركيزتها ملكيات صغيرة من الارض وفلاحون مستقلون وأحرار. وفي قلب هذا التحول ظهرت الملكية الخاصة والتداول النقدي، فصار لمنتوج الارض الزراعية (في مقدمه الحرير) قيمة نقدية وثمن نقدي. والارض بدورها امست رأسمالاً نقدياً ترتفع قيمته وتنخفض بحسب تقلبات السوق. في البلدان العربية، مصر وسوريا والعراق، راحت تظهر في الحقبة نفسها طبقة من الملاّك الكبار، على خلاف ما حدث في جبل لبنان. وهذه الطبقة من الملاّك الكبار كانت في معظمها منفصلة عن الارض وتقيم في المدن، وتترك الارض في عهدة فلاحين يعملون فيها وكأنهم اشبه بعبيد، وتربطهم بالملاّك علاقة اقرب الى الرق، ويغيب عنها اي اطار اجتماعي وسياسي ينظمها. وقد تجلت صور هذا النظام في ما نعرفه عن طبقة الملاّك الكبار من الباشورات والاغاوات والبكوات في مصر وسوريا والعراق وبعض مناطق لبنان الشمالي. وهذه الطبقة من الملاّك الكبار المنقطعة عن الارض وعن رعاياها من الفلاحين والفئات الشعبية، هي التي قادت البلدان العربية الى الاستقلال، وهي التي أنقلب عليها في الخمسينات والستينات من القرن العشرين ضباط الجيش. والانقلابات هذه ما كانت لتنجح بسهولة لولا ذلك الانقطاع الكبير بين طبقة الملاكين الكبار في المدن ورعاياهم من الفلاحين والفئات الشعبية المدينية المعدمة. إذ باسم هذه الفئات التي كانت تعيش حياة اقرب الى الاستعباد والضياع، تولى الضباط مقاليد السلطة والحكم وانشأوا انظمتهم العسكرية المتسلطة. اما لبنان فقد وفّرت عليه قوة الطبقة الوسطى الحديثة والمستقلة، الناشئة في الارياف والمدن، الانزلاق الى هذه التجربة السياسية والاجتماعية القاسية التي انزلقت اليها المجتمعات العربية في مصر وسوريا والعراق.لكن إيليا حريق يعتبر ان اللبنانيين قليلو الاستفادة من التجارب التي عاشوها ويعيشونها، وقليلو الحس التاريخي عموماً. فهم، لاسباب داخلية لها امتداداتها الخارجية القوية التأثير عليهم، لم يستطيعوا ان يطوّروا الصيغة اللبنانية، ويجددوا اطرها واشكالها على نحو خلاّق في اجتماعهم السياسي في القرن العشرين، خصوصاً في الربع الثالث منه. لقد استُغِلتْ الحرية والديموقراطية الاجتماعيتان اللبنانيتان اللتان نشأتا في القرن التاسع عشر، وازدهرتا وتطورتا في النصف الاول من القرن العشرين، استغلالاً فوضوياً لم يراعِ، الا على نحو جزئي وطفيف، المصالح العامة والمركبة للبلد الهش الذي ناء تحت اثقال القضية الفلسطينية التي ارهقت البلدان العربية كلها. وهذا ما ادى الى ايصال التجربة اللبنانية الى ما وصلت اليه في أواخر الستينات، والى ولوج اللبنانيين ساحات الحروب الاهلية في أواسط السبعينات من القرن المنصرم.
 
أفكار ومشاهد أخيرة
يعتبر حريق أنه محظوظ لأنه عاش شبابه في خمسينات القرن العشرين في الجامعة الاميركية وفي منطقة رأس بيروت اللتين قد تكونان موطن العلمانية والحداثة والتخالط الطائفي والثقافي والبشري في لبنان والشرق كله أيضاً. ففي رأس بيروت ما بين 1952 و1957، تفتحت شخصيته واتسعت آفاق وعيه وخبراته الحياتية عما كانت عليه في مجتمع ضهور الشوير الجبلي الذي كان ضيقاً بالمقارنة مع مجتمع رأس بيروت. لكنه فكر لاحقاً أن حياته في رأس بيروت قد تكون زودته فكرة خاطئة عن لبنان والمجتمع اللبناني، اذ كان يحسب البلد كله على صورة رأس بيروت ومثالها. وهذا ما لم يكن صحيحاً وحقيقياً، رغم تميّز الحياة اللبنانية، عموماً، بالتخالط الطائفي والاجتماعي. ففي الجامعة الاميركية ورأس بيروت عاش، هو الجبلي المسيحي واللبناني، الى جانب البيروتي المديني والشيعي الجنوبي، اضافة الى جماعات متنوعة من الطلاب العرب والاجانب. لكن الميول والاهواء العقائدية المتعارضة بين طلاب الجامعة لم تكن تؤدي الى اجواء مشحونة آنذاك، رغم ان الخمسينات من القرن العشرين، اختتمت بحرب اهلية طائفية صغيرة، قياساً الى الحرب التي نشبت بعد ربع قرن. في الجامعة الاميركية اكتشف إيليا حريق ان شيئاً من روح التحفظ والتقية يشوبان السلوك الاجتماعي العام لأبناء المدن، بالمقارنة مع سلوك أبناء الجبل. فالجبلي اللبناني، عموماً، أميل الى عدم مراعاة الحدود القائمة في الحياة المدينية، وهو غالباً ما يعبّر عن آرائه وافكاره على نحو عفوي ومباشر. وقد تكون هاتان العفوية والمباشرة سليلتي "الحرية الجبلية الطبيعية". والجبلية اللبنانية عنصر تكويني واساسي في الصيغة اللبنانية الحديثة وفي الاجتماع اللبناني اللذين قاما على التخالط والتركيب الطائفيين، وعلى اتصال الجبل بالساحل ومدنه، خصوصاً بيروت، في أواخر عهد الامارة وفي عهد المتصرفية، وبغيرهما من المناطق اللبنانية في أيام الانتداب وعهد الاستقلال.ورغم اقامته الطويلة في الولايات المتحدة الاميركية مدرّساً في جامعة انديانا وباحثاً في مجال التنمية الاجتماعية في بلدان الشرق الاوسط، لم ينقطع حريق عن زيارة لبنان والاقامة فيه لفترات دراسية محدودة. ففي العام 1968 أنجز بحثه عن الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، ونشرته "دار النهار" في عنوان "من يحكم لبنان؟". وفي أواسط السبعينات عاد الى لبنان بغية الاقامة الدائمة والعمل في بلده، لكن نشوب الحرب الاهلية أعاده الى الولايات المتحدة. ومن هناك راحت ابحاثه تتوزع حول مصر وتونس والمغرب التي أقام فيها فترات متفاوتة، من غير ان ينقطع عن زيارة لبنان.في واحدة من زياراته الاخيرة للبنان، رأى إيليا حريق، فيما كان يتمشى على رصيف كورنيش بيروت البحري المحاذي للجامعة الاميركية، مشهداً ذكره بصورة من صور حياته الجبلية في ضهور الشوير قبل حوالى نصف قرن. والمشهد نفسه ذكّره أيضاً بمشاهد قديمة رآها في بعلبك حين كان والده يصطحبه معه في جولاته في بعض المناطق اللبنانية التي كانت وظيفته في "الريجي" تحمله على زيارتها لاحصاء محاصيل التبغ فيها. رأى حريق على رصيف كورنيش بيروت البحري، جماعة من الشبان والفتيات يعقدون حلقة دبكة على ايقاع اغنية تنبعث من مذياع حملوه معهم، ووضعوه الى جانبهم على الكورنيش وسط جموع المتنزهين. كانت أيدي الشباب ممسكة بأيدي الفتيات اللواتي تغطي المناديل شعرهن، فيما الجميع يدبكون من غير خجل، ولا اكتراث بجموع المتنزهين العابرين، كأنهم يدبكون في ساحة الضيعة. لم يكن مشهدهم هذا بغريب، اذ انه المشهد نفسه الذي عرفه في قرى جبل لبنان قبل نصف القرن الاخير. انهم جبليون مثلي، فكر، ويقيمون في الضواحي المدينية التي جاؤوا منها الى الكورنيش، ومن غير تحفظ ولا خوف عقدوا حلقة الدبكة، يجمعهم شعور عفوي بالإلفة البلدية. قد يقول قائل ان هناك فجوة زمنية واجتماعية واسعة بين هذا المشهد الذي رآه حريق في مطلع القرن الحادي والعشرين، والمشاهد التي تشبهه وتعود الى اواسط القرن الماضي. فالذين يؤلفون المشهد الفولكلوري اليوم على رصيف الكورنيش البحري يسكنون في الضاحية الجنوبية لبيروت، وهم يباشرون في المدينة عادات أهلهم وشعائرهم القروية، كما انهم من اوساط اجتماعية وأهلية متواضعة وغير ميسورة مادياً. وهذا ما لا يتيح لهم ان يقوموا بنشاط ترفيهي آخر، على غرار أبناء الفئات الاجتماعية المتوسطة والميسورة في رأس بيروت والاشرفية، الذين يركبون السيارات الفخمة ويرتادون المطاعم والملاهي الليلية. قد تكون هذه الفجوة وما ينجم عنها من تفاوت وتباين بين أشكال الاجتماع في لبنان، من صنيع الاجتماع اللبناني نفسه الذي تشوبه الحرية الفوضوية التي يعيشها اللبنانيون. وقد تكون الشخصية اللبنانية، عموماً وعلى اختلاف انتماءاتها الأهلية والمحلية، على شيء من الاستهتار وانعدام احترام الحدود والقانون، وتسلك مسالك يشوبها الفجور والفساد. لكن هذه الشخصية لا تعيش، من وجه آخر، على الخوف والطاعة، بل هي شخصية مبادرة وطموحة، وينقصُ ما تتمتع به من الحرية مقدار من الحس العام والمسؤولية والتنظيم التي هي شرط المواطنية.
  • شارك الخبر