hit counter script

باقلامهم - جاد قسيس

لماذا لم انتخب؟!

الإثنين ١٥ أيار ٢٠١٨ - 06:22

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع


حان وقت الجودة... عبارة رددتها مع إعلانٍ ما من ذي قبل دون أن أفهمها. كنت قد تحوّلت الى ذلك الجندي المكسور، الذي خاض جميع المعارك، وقاتل على مختلف الجبهات، وتحضّر مع علمه ليلوّحه عالياً، ناظراً صوب السماء، منتظراً لحظة اعلان النصر، متجرّعاً كأس التفاؤل والوعود والأمل بالتغيير، ثم أخفض علمه ونظره وروحه صوب الأرض عائداً الى منزله خائباً، مصدوماً، وتعباً...
سيادة، حرية، استقلال
تتردد في عقلي دوماً فتاريخ لبنان يعبق بالسياديين، لكنني اكتشفت أن السيادة فعلياً حبرٌ على يافطات المناضلين في الشوارع، أما على صعيد البلد، فلا نتسيّد حتى جوّنا وسمانا، حدودنا وبحرنا. كلّ منّا سيد فعلي على منطقته دون غيرها، فالمنطقة المجاورة يسودها "الآخرون".
شعب لبنان "يتنفّس" حرية. لكنني فهمت لاحقاً أن الحرية منوطة بالحدود الجغرافية، فأنا حرّ في قريتي أزينها كما أريد أعبث بها الفوضى أتعلم في صفوف مدارسها كما اؤمن، ابيع فيها ما يجوز ضمن قانون قريتي الخاص. وكل تلك الحرية تختفي بمروري الى الضيعة المجاورة من بلدي. فاكتشفت أن الحرية اللبنانية هي الفوضى، غير الخلّاقة بتاتاً.
استقلال؟ تعبت وأنا أصرخ، قرأت ناضلت زرت مقابر الشهداء، سجدت باكياً أمام أمهات متشّحات بالسواد راكعات أمام قبور أولادهنّ، يرندحن التراتيل الممزوجة بدموع مشتاقة. وعدت لأقرأ عن صفقات تبادل مقاعد على صعيد الحكم، يتشابكون كالغربان فوق الجثث، يتصارعون فوق المزابل الملأى بالنفايات كالديوك الجرداء، يعبثون ببلد أنهره تلوتث وبحره تلوث وجوّه عبق بالتلوث. يغامرون بشعبٍ ميت، ماتت النخوة والأخلاق فيه، واصبح سقف نظره قسط مدرسة يتمعّن اصحابها بزيادته كل سنتين لتكديس اموال طائلة وتأمين عائلاتهم ورحلاتهم السنوية باسم الله ما شاء الله.
ويأتي "عرس" الانتخابات
وتبدأ حملات التشجيع للمواطنين بأنه حقهم الديمقراطي بالتغيير. ويبدأ شد العصب بين الاخوة وضد بعضهم. فهناك من يفتح البومات صور من ايام النكبة ليشد عصباً بات عجوزاً لا يفقهه شباب اليوم. وهناك من يحكي بأمور شبابية لا تعني حاجات المواطن اليوم. وتضيع الحملات بين الشعارات الكبيرة المعتادة: القوة والارادة والدولة والمدنية...
وأقبع أمام المطار أشاهد امرأة واطفالها يبكون مودّعين زوجاً والداً سحقه هذا البلد وهؤلاء بماكيناتهم، مغادراً كالعادة، "شاحداً" ما تستحقه كفاءته من بلاد تحترم شهادته. وأراقب عيون الطفل الكبير، تترقرق بالدموع دون كلام فيمسحها بسرعة رافضاً أن يراها أحد. أما الثاني فيعانق خصر والده طويلاً لا يريد امانه ان يتركه وحيداً من جديد، والطفلة الصغيرة تصرخ باكية بأعلى صوتها "تعالى يا ابي لا تذهب" كما تصرخ الحقيقة بوجه الظالمين. وأعود مشتتاً كتلك العائلة، اشاهد صور السياسيين والحزبيين والشعارات على الطرقات، واشعر بالتقيؤ.
أقود سيارتي كما حياتي بكل قرف. وأفكر كيف الخلاص؟ من كل هؤلاء "الفاشلين" و"الكاذبين"؟ كيف التغيير في بلد فقد كل شيء، حتى من غادرَه ، فقد وطناً وقطعة من قلبه. شعب مريض يتنقل في هذا العالم.
كسروان المفاجأة !
وأصلُ الى كسروان، وألمح صورة شاب غريب، ما كنت أعرفه، فأنا أسكن منطقة لست منها. اُبطئ لأقرأ. لا شعارات رنانة ولا تحديات فارغة معلوكة. انما "الانسان اولاً". من حقي ما اتبهدل، من حقي اشتغل بلبنان بشهادتي، من حقي ما اعتل هم الدوا، من حقي اقدر اتعلم، من حقي البابا ما يسافر، من حقي لبنان يشبهني... وجدتني اصرخ معه حقاً من حقي لقد تعبت! وصلت الى المنزل ورحت ابحث عن هذا الرجل، من يكون؟ شاهدته يعمل بصمت دون دعايات. عرفت انه يزرع املاً في مجتمعه منذ زمن، يساعد المحتاجين والجمعيات، يوزع فرحاً بقدر ما يستطيع، يعلّم الاطفال شبه مجاناً، يحاول انقاذ ما تبقى من الانسان، يلعب دور المخلص ببلد فقد الأمل. واتابع من يحاربه، بكل دناءة يتهمونه بأنه مقتدر مالياً. يتهمونه بنجاحاته، بما أنعم الله عليه من وزنات يستعملها من الاب للابن بالمكان الصحيح. يعيّرونه بسلاحه الابيض الذي يدعم به منطقته المحرومة التي تعبت من كاذبيها.
بصيص أمل يلوح في الافق. اخاف اتراجع قليلاً اسأل اشكك. ثم اشاهده في مقابلة تلفزيونية بكل نظافة قلبه وتلقائيته يحكي الامور دون تسييس لكن الاهم دون التطرق الى ما قد يجرح احداً. لم يتحدى جهة ولا وعد بالمستحيل ولا قلل من قيمة احد. بكل اخلاق عالية، صارح الناس بأنه يريد النهوض بمنطقته لأنه تعب مثلي من الشلل الحاصل.
حزنت وفرحت. حزنت لأنه حلم اجمل من ان ينخرط بوحول لبنان القاتلة، وفرحت لأن ثورته تشبه ثورتي. الانسان ومن ثم الانسان. الثورة على الذات. العمل قبل القول. الحلول قبل الشعارات السياسية.
رجل يريد ان يبدأ من داخل قلبي. ينظفه من بقايا السموم والخيبات. ويعطيه جرعات امل باحتمال تغيير نظيف ولو داخل مركب وسخ يوصله الى بر الامان.
وددت لو يفوز في الانتخابات. وفاز. بعمري لم اشكر اهل كسروان كما شكرتهم اليوم. شكراً لانهم لم يصوتوا للسياسة. شكراً لانهم حاسبوا. شكراً لانهم تركوا مجالاً لبصيص الامل ان يلمع اكثر في كسروان لينير لاحقاً في كل لبنان.
يسألونني لماذا لم انتخب؟ لانني لا انتخب في كسروان.
لقد وصل الاحتراف الى العمل. وصل الانسان الى الجماد. وصلت الحياة الى الموت القائم. اليوم فهمت ما معنى: حان وقت الجودة. 

  • شارك الخبر