hit counter script

باقلامهم - الأب د. جورج مسوّح

أحياء أموات

الأربعاء ١٥ تشرين الأول ٢٠١٦ - 06:13

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

 لا ريب في أنّ الحرب شنيعة، وبخاصّة الحروب الأهليّة. وإن صحّ أنّ التدخّلات الخارجيّة في سورية هي التي تذكي الصراعات المتنقلّة من بقعة إلى بقعة، فلا يمكن تبرئة الأطراف الداخليّة من المشاركة في هذا الأتون الجهنميّ. هي، إذًا، حرب أهليّة أيضًا.

 الحرب شنيعة، وعلى الرغم من شناعتها فقد ينتج عنها أمور إيجابيّة، كأن تكون سببًا في تقريب المواطنين بعضهم من بعض في صدّ خطر خارجيّ، والذود عن وطنهم ضدّ محتلّ لأرضهم، واتّفاقهم على أسس متينة لاجتماعهم وحياتهم معًا... غير أنّ الحرب الأهليّة لا يمكن استخراج أيّ إيجابيّة منها. وهل يمكن استخلاص أيّ إيجابيّة من الجحيم المستعر؟
الحرب الأهليّة فداحتها تكمن في أنّها لا تقتل الجسد وحسب، بل هي تقتل الروح أيضًا. فالسيّد المسيح يقول: "لا تخافوا ممّن يقتلون الجسد ولا يستطيعون قتل النفس، بل خافوا ممّن يقدر أن يُهلك الجسد والنفس معًا في جهنّم" (متّى 10، 28). وفي الفكر المسيحيّ لا فرق في الإنسان ما بين الروح والنفس. والمقصود، طبعًا، بهذه الآية أن يهاب المرء الخطيئة أكثر من الموت.
خشيتنا أن تكون الحرب الأهليّة، التي سبّبت مقتل مئات الآلاف من السوريّين، قد أهلكت أرواح العديد من الباقين أحياء، أحياء بالجسد ولكنّهم فقدوا روحهم، أي حياتهم الحقيقيّة ومبادئهم الدينيّة أو الإنسانيّة. هم أحياء بالجسد، لكنّ قيمهم وفضائلهم ومبادئهم قد ماتت. ونحن، والعياذ بالله، لا ندين أحدًا، لكنّنا ننبّه إلى بعض الممارسات والانفعالات التي تجعلنا نخشى الازلاق أكثر فأكثر نحو فقدان إنسانيّتنا التي تميّزنا عن باقي المخلوقات.
ألم يفقد روحه ذاك الذي يسرّ ويفرح بمقتل مواطن له، لأنّه قُتل بغارة جويّة أو ذبحًا بساطور، لمجرّد أنّ القاتل ينتمي إلى حلفائه؟ ألم يفقد روحه ذاك الذي يبرّر مقتل الأطفال بالقول إنّهم كانوا "دروعًا بشريّة" استخدمهم الطرف المعادي؟ ألم يفقد روحه مَن يميّز ما بين ضحيّة وأخرى، بناءً على مذهبها أو دينها؟ ألم يفقد روحه ذاك الذي يخون مبادئه الدينيّة بتبريره ما لا يسوّغه الدين ولا العقل؟
بيد أنّ الأشدّ إيلامًا هو ألاّ تتضامن الضحايا جميعها في وجه القتلة. فما نراه هو أنّ المواطنين السوريّين كلّهم، أحياء وأمواتًا، هم ضحايا للحرب الدائرة في وطنهم. لكنّهم عوض أن يتضامنوا ضدّ القتلة الآتين من كلّ حدب وصوب، ترى معظمهم يبكون ضحاياهم ويفرحون لضحايا سواهم. ضحايا تتضامن مع قتلة من جهة، وضحايا أخرى تتضامن مع قتلة من جهة أخرى. قتَلتُهم أبطال وقتلة سواهم مجرمون ! هذه الازدواجيّة ليست سوى تعبير عن موت الروح فيهم.
أن يتضامن المرء مع ضحايا جماعته من دون سواها، إنّما هو دليل على التعصّب. أن يتضامن المرء مع كلّ بريء يُقتل إنّما هو الدليل على إنسانيّته. للأسف، مع استمرار الحرب، نبتعد عن كلّ ما يميّز الإنسان عن سواه من المخلوقات. أن يدين المرء ما يجري في حلب ويفرح لما جرى في اليمن، أو أن يدين المرء ما يجري في اليمن ويفرح لما يجري في حلب، إنّما هما وجهان لعملة واحدة. هذه قمّة النفاق.
الأب جورج مسّوح
 

  • شارك الخبر