hit counter script
شريط الأحداث

ليبانون فايلز - مقالات مختارة مقالات مختارة - حنا صالح - الشرق الاوسط

لبنان: كيف يُحمى ويُستكمل قرار الناس بالتغيير؟

الخميس ٢٦ أيار ٢٠٢٢ - 06:40

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

لبنان آخر تليق الحياة بشعبه ما زال ممكناً. هذه هي الرسالة الأشد وقعاً للانتخابات التي أوصلت كتلة من النواب التغييرين لم يعرفها تاريخ البرلمانات اللبنانية. نواب طلعوا من وجع الناس، يعكسون الأطياف التي صنعت الثورة، رائدهم انتشال لبنان من الجحيم، باستعادة الدولة المخطوفة بالسلاح والفساد، حملتهم إلى الندوة البرلمانية أكبر كتلة شعبية عابرة للمناطق والطوائف، شكّلت الفئات الشابة قوتها الضاربة.
أمام الزلزال الانتخابي الذي ما زال يتفاعل. وقف طائفيون متهمون بالارتكابات يكابرون، ظنوا أن ثورة «17 تشرين» حالة فولكلورية سيُنهي قمعهم صلاحيتها، فلم يجدوا مفراً من رشِّ السكر على الموت لتغطية الجروح الثخينة التي أنزلها الناخبون بهم. وحده حسن نصر الله الذي أعلن قبل الانتخابات أن هاجس «حزب الله» ليس الحصول على أكثرية الثلثين... قال بعدها: «لا أكثرية في المجلس الجديد، بل تكتلات ومجموعات». وفي مقابل تهديده السابق بقطع يد من يستهدف سلاح «المقاومة»، وتأكيده على الدوام أن المطلوب من الانتخابات حماية «المقاومة»، ويقصد السلاح، اقترح إثر النتائج وضع السلاح جانباً لمدة سنتين، والانصراف لمواجهة الأعباء الملقاة على الناس، وهو يعلم بدقة أن السلاح بات على الطاولة وإن كان متعذراً إيجاد حلٍّ لهذه المشكلة خلال أشهر قليلة.
بالتوازي، كثيرون تحسروا لأن الفرصة لم تُستغل بما فيه الكفاية، لكن ما يشفي الغليل أن نظرة هادئة إلى الحدث، متمعنة بالوقائع، تخرج بانطباع يؤكد أن اللبنانيين اخترقوا الجدران الموصودة، ومنحوا البلد فرصة حقيقية للحياة، عندما أسقطوا الأكثرية السابقة التي كان يتحكم بقرارها ويديرها «حزب الله». ومع هذا الحدث، ورغم استمرار هيمنة الدويلة، المدججة حتى الأسنان سلاحاً ومالاً، لم يعد يستقيم القول إن بيروت واحدة من العواصم الأربعة التي يهيمن عليها ملالي طهران!
كان هناك قبل يوم 15 مايو (أيار)، قناعة راسخة لدى كل القوى بأن التغيير الممكن جزئي محدود وعلى الأغلب يقتصر على بعض الرتوش. وربما ظنّ كثيرون أن الضخ الإعلامي والإحصاءات المعلبة التي كانت تُرمى بكل الاتجاهات، وصولاً إلى تسمية الفائزين قبل أيام على بدء الاقتراع، نجحت في تعميم التيئيس وحققت المراد بإضعاف المشاركة. واستندت هذه الموجة إلى واقع أن «حزب الله» يتصرف باستقلالية تامة عن السلطة، يحدد أولوياتٍ وسياساتٍ يُلزم بها لبنان، ويتهجم ويناصب العداء للبلدان الشقيقة ويستبيح الحدود، ويحمي التهريب ويتغول على السلطات الرسمية، ولا يلقى إلاّ التعامي والتجاهل وإشاحة النظر.
بالخلاصة كانت السلطة تتغاضى عن الحقيقة والمسؤولية، وتمتنع عن التصرف باستقلالية عن «حزب الله»، والدليل فاجعة التعاطي الرسمي مع تفجير مرفأ بيروت، الذي نجمت عنه إبادة جماعية وتدمير مناطق من وسط العاصمة. فقد ساء الكثير من الأوساط مشهد التقاء المتسلطين على حماية المطلوبين، ومنع قاضي التحقيق من الاستماع إليهم، كما تمت حماية المدعى عليهم بالجناية والفارين من وجه العدالة. كل ذلك حدا بالبعض إلى التخوف من أن «حزب الله» سيحصد «بين 12 و15 نائباً سُنياً»، وبعد الانتخابات «لا يحدّثنا أحد عن الخط الفاصل بين الدولة والدويلة»! لأن «المزاجات الشعبية واضحة»، فالناس «لا تفقه ثقافة التغيير أو التصويت الانتقامي، جُلُّ ما يعرفونه اللا اكتراث»! لكن ما جرى كان مذهلاً عندما تبين أن الانكفاء عن الساحات، نتيجة الـ«كوفيد» والقمع والعوز، لم يكن تخلياً. لقد أعلن المقترعون الانحياز إلى مصالحهم التي تضمنها دولة حديثة، وأثبتوا خروجهم من عباءة الزعيم، والطائفة، وتظهرت ملامح تعافٍ سياسي وطني. يرسم صورته المذهلة الوزير السابق رشيد درباس فيقول: «الناخبون تجاوزوا عجز الناشطين عن التنسيق فنسقوهم رغماً عنهم وأوصلوهم بالإرادة الشعبية بحيث أصبح للانتفاضة عنوان ثابت داخل مجلس النواب».
في 15 مايو (أيار) تحقق انتصار للبنانيين، عندما باحت صناديق الاقتراع بأن الثورة هي الناخب الأكبر، فانفجر الفرح وابتسم لبنان مع الإعلان عن أسماء نواب التغيير الذين لا ينتمون إلى العائلات السياسية، كتلة برلمانية وازنة حرة واضحة غير ممسوكة. تحمل رؤى مستقبلية وعزم لبدء المواجهات من داخل البرلمان، لكبح الانهيار وحماية الحقوق، وفتح باب المحاسبة ومنع بيع مقدرات الدولة، والحفاظ على الهوية، وكسر ارتهان البلد. تستند إلى شارع استعاد المناخ التشريني، وبقدر ما تُقدم أداءً شفافاً سيشتد دعم الشارع ليتحول إلى الكتلة التاريخية المطلوبة لقلب كل المشهد. ما حدث فتح الباب نحو أفقٍ آخر، فلبنان من بين أكثر البلدان التي لا تحدث فيها الأمور مرة واحدة وبشكلٍ حاسم، رغم أن القديم يُحتضر فإن دفنه سيتأخر حتى استكمال بلورة البديل، مع التنبه إلى أن قوى المحاصصة الطائفية واللا دولة تمتلك الكثير من مفاتيح القوة.
هنا يثور السؤال طارحاً نفسه: كيف يُحمى الانتصار؟ وكيف يُستكمل قرار اللبنانيين بإنجاز التغيير؟
من أول الطريق، بدأ استهداف النواب التشرينيين؛ حملات افتراء وتجنٍّ وتشكيك بدأت ومستمرة ضد النائب إبراهيم منيمنة، الحائز أعلى نسبة تصويت بين النواب السنة، ولم تنتهِ بالنائب إلياس جرادة، الذي أسقط فوزه أسعد حردان أبرز وجوه مرحلة الاحتلال السوري وأعتى «حلفاء» الدويلة. كل ذلك يحتم تقديم الخيارات السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية لحماية المتبقي من الثروة، والتمسك بالدستور ورفض حكم البلد بالبدع، إلى المزاوجة بين رفض الثلاثية الخشبية والسلاح خارج الشرعية، ومن الجهة الأخرى طرح عناوين تلبّي الحقوق الأولية: العمل والاستشفاء والكهرباء والتعليم... وتحرير القضاء وضمان استقلاليته، لإطلاق معركة مكافحة الفساد ومحاسبة المرتكبين، أياً كانت المواجهات مع التحالف المافياوي!
بهذا الإطار يبدو الأمر الأكثر إلحاحاً هو العمل لاستنباط تكتل سياسي - شعبي يمكن أن يكون الأقرب إلى مفهوم «الكتلة التاريخية» التي اقترحها غرامشي للحفاظ على وحدة الأمة الإيطالية والقيام بنهضة شاملة. مثل هذه الكتلة ضرورة في مواجهة التحديات ومخاطر التعطيل، تجمع إلى نواب التغيير القوى التشرينية التي بلورت وتبلور آليات تنظيمية وحيثيات مدينية ومناطقية، لا يُستثنى منها بصورة مسبقة أي طرفٍ أو جهة. والأكيد أن الأرضية المتجانسة لمثل هذه الكتلة متوفرة في جموع اللبنانيين، الذين خرجوا دونما أي دعوة في «17 تشرين»، وتمكنوا من تعرية الطبقة السياسية وإن لم ينجحوا في إسقاطها، لكنّ خروجهم ثانيةً في الانتخابات أحدث المفاجأة عندما فتحوا الباب أمام إمكانية قلب المشهد.
بوضوح أكبر، ليست «الكتلة التاريخية»، لقاء أحزاب أو جبهة مؤدلجة، بل المطلوب في قيامها أن تعكس النسيج الذي صنع «17 تشرين» بتعدده وتنوعه من اليسار إلى اليمين والوسط، ليكون متاحاً بلورة بديل سياسي يفرض إعادة تكوين السلطة فيستكمل التغيير، بإسقاط نظام المحاصصة الناهب الذي ارتهن البلد، وإبعاد ومحاسبة الرموز الذين ما تحكموا بالرقاب لولا التبعية للدويلة و«قانون العفو عن جرائم الحرب»!

  • شارك الخبر