hit counter script
شريط الأحداث

ليبانون فايلز - مقالات مختارة مقالات مختارة - حسن الخلف - الاخبار

كيف تبني إمبراطورية؟ صرامة آشور

الجمعة ١٠ نيسان ٢٠٢٠ - 07:15

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

زُعم أن الملك بطليموس الأول (مؤسس سلالة البطالمة والجد الأكبر لكليوباترا) سأل العالم اليوناني إقليدس، إن كانت هناك طريقة أسهل لتعلّم الهندسة، فأجابه إقليدس: «لا ليس هناك طريق ملكي لتعلّم الهندسة». الطريق الملكي الذي قصده إقليدس، كان الطريق الملكي الإخميني الذي أسسه الملك داريوس العظيم (522 ق.م – 486 ق.م) الذي يُعتبر منظم الإمبراطورية (550 ق.م – 330 ق.م) بعدما عصفت بها الثورات وكادت تتفكّك. الطريق الملكي هذا كان درة عصره، وهو العصب والشبكة التي قامت عليها أولى الإمبراطوريات، فبدونه لا طرق بريد ولا ضرائب تُجبى، ولا فرمانات ملكية تصل. يمكنك أن تقرأ على واجهة محطة جيمز فارلي وهي محطة البريد الرئيسية بنيويورك، وصفاً للطريق الملكي هذا، حتى ظن البعض أنه شعار مؤسسة البريد الأميركية. هذه الكلمات المعبرة في الحقيقة لهيرودوتس وهو يصف الطريق الملكي الإخميني إذ يقول:

«ليس هناك شيء في العالم يسافر أسرع من سعاة البريد الفرس، فهم يقيمون بمحطات ولكلّ رجل منهم فرس، لا يوقفهم ثلج ولا مطر ولا حرارة، ولا ظلام الليل يمنعهم من إنجاز المهمة الملقاة على عاتقهم بهذه السرعة».
(مجتزأ بتصرف، راجع الكتاب الثامن من «التاريخ» لهيرودوتس)
بالرغم من أن هيرودوتس ينسب اختراع البريد والطرق الملكية للفرس، إلا أننا نعلم اليوم وبفضل الاكتشافات الأركيولوجية أن الفرس ورثوا هذه المؤسسة الحيوية عن الإمبراطورية الآشورية (934 ق.م – 612 ق.م)، فالطرق الملكية هذه هي واحدة من أهم عناصر تركة هذه الإمبراطورية البائدة التي تسلّط على بقايا أوابدها مؤخراً «داعش» تدميراً وتجريفاً (Frahm: 2017, p26).

لكن السؤال هنا هو ما أهمية الإمبراطورية الآشورية، وطرقها وبقية مؤسساتها التاريخية لنا؟ والآشوريون لم يكونوا أكثر تقدّماً علمياً من البابليين والمصريين، ولم تكن إمبراطوريتهم هائلة الحجم كتلك الإخمينية (فهذه أربعة أو خمسة أضعافها)، أو الرومانية أو العربية الإسلامية لاحقاً. كما أن تجربتهم الإمبراطورية لم تكن الأولى كما يحاجج بعض المتخصصين، فلقد سبقهم الأكديون في الألفية الثالثة، ولربما المصريون في الألفية الثانية. كما لم يعرف عن الملوك الآشوريين بأنهم كانوا رجالاً لطفاء بل كانوا ذورة في العنف والقسوة والاستكبار. بالنسبة إلي، فإن الدولة الآشورية هي أول نموذج لإمبراطورية يمكننا تتبعه ودراسة تفاصيله بشكل علمي وموثّق إلى حدّ كبير لكثرة ما وصلَنا من سجلاتها مقارنة بغيرها. الأمر الآخر كما يقول عالم الآشوريات الألماني إيكارت فرام، أن نهجها الذي اختطّته لنفسها بتخطيط إدارة الدولة والمؤسسات والخدمات التي طورتها أو ابتكرتها، غدا النموذج الذي سيُستنسخ في تشييد الإمبراطوريات الفارسية والخلافة الإسلامية حتى السلطنة العثمانية (محاضرات جامعة ميونيخ)، (Frahm (ed) 2017).
لكن للتجربة الآشورية أهمية أخرى، خاصة بالنسبة إلى منظري الوحدة وخلق الأمم وبناء القوميات، وهو أنها لربما كانت أول تجربة «لبناء شبه قومي» وتوحيد قسري في المنطقة.
نجح الملوك الآشوريون في توحيد الهلال الخصيب، وتغيير تركيبته الثقافية لتكون أكثر تجانساً وإنتاجية، مؤسّسين بذلك لمجتمع منتج ودافع للضرائب بامتياز كما تصفه عالمة الآشوريات النشطة كارين رادنر. في حين يضيف فرام في وصفهم، أنهم لم يكونوا فقط قساة، إنما كانوا أيضاً يؤمنون بالصرامة والنظام ولربما كان هذا الإيمان أحد أسباب قسوتهم.
تفسّر لنا رادنر ختم الدولة الآشورية المسمى (أونكو) وهو عبارة عن مشهد لملك آشوري يصرع أسداً بخنجرين. الأسد يرمز للفوضى الكونية التي تهدّد الحضارة والدولة، والخنجران يرمزان إلى شجاعة الملك وضراوة المواجهة (راجع محاضرة رادنر، جامعة شيكاغو ربيع 2019).
فمثلاً، ما كان للسلطة الآشورية أن تتسامح مع القبائل الرعوية الهائمة حول حقول الزرّاع وفي مسالك التجار، لذا كانت الدولة توطن هذه القبائل كزرّاع، أو تلحقهم بجيشها أو تطاردهم وتفنيهم. هذا الموقف عبّر عنه الملك سرغون الثاني (722 ق.م – 705 ق.م) حين عبر عن استفظاعه وجود عشائر رعوية بلا ملك (قصد العرب هنا)، لأن هؤلاء سيخلقون قوانينهم الخاصة، لا يحاسبهم أحد ولا يسهمون في مشروع المملكة، كان هذا بالنسبة إلى الآشوريين بمثابة «كفر وجحود» لإرادة الإله آشور.
من الواضح أن نظرة الملوك الآشوريين للرعية تشبه نظرية الدولة القومية الحديثة على الأقل في هذا الجانب بغضّ النظر عن إيماننا بها. فأغلب الدول الحديثة كانت تسعى للسيطرة ما أمكن على كل مواطنيها ودمجهم بعجلتها الاقتصادية وترسانتها الأمنية، لتفعيل الطاقة القصوى الكامنة في كل المجتمع وضمان عدم تحولهم إلى عنصر اختراق أجنبي وتخريب داخلي.
لكن السؤال هنا هو ما هي أهمية الإمبراطورية الآشورية، وطرقها وبقية مؤسساتها التاريخية في تنظيم الدولة والمجتمع بالنسبة إلينا؟ الآن بتحليلنا للبريد الآشوري وكيفية عمله، فنحن هنا نعرض عليكم فلسفة الانضباط والحرفية الإدارية التي خلقها الآشوريون بصرامتهم وقسوتهم، وفرضهم لأول مرة بنية اتصالات وأمن شملت المشرق كله، وستقدم لخلفائهم الكلدان والفرس والسلوقيين بناءً حضارياً جاهزاً. نحن هنا أمام مؤسسة تاريخية تساعدنا دراستها في فهم ظروف تطوّر ونشوء نسق الدولة الإمبراطورية في منطقة الهلال الخصيب.
حران شاري، بريد الملك شلمنص
«حقاً! الرسالة التي دبجتها، يجب أن تحرر بهذه الطريقة حصراً، فهذه قاعدة راسخة!»
رد الملك سرغون الثاني الغاضب أثناء مراسلته حاكم ولاية أور.
(Radner: 2014, p84)
الطرق الملكية الآشورية التي تحدثنا عنها في المقدمة، كانت تُعرف باسم «حران شاري» أي الطرق الملكية أو «حول شاري» أي طريق الملك، وكانت تخدمها محطات للاستراحة عُرفت بـ«بيت مارديتي» (Frahm: 2017, p26). من هنا جاء اسم حران أي الطريق حيث كانت على الطريق الممتدة مباشرة من نينوى إلى أضنة. هذا أيضاً يفسر معنى اسم الموصل (وريثة نينوى) فاسمها المعرّب المشتق من شبكة الطرق هذه يعني الطريق الرابط. هنا ترى العالمة الألمانية كارين رادنر أن طرق الـ«حران شاري» أو الطرق الإمبراطورية، هي الشرط الأول للحديث عن إمبراطورية، لكن هذه الطرق لم تكن للتجارة، فهذه لها طرق أخرى موازية، إنما هي لنقل البريد الملكي والبيرقراطي، والذي سيضيف الرومان له الطرق المعبدة. هي قد تشبه ما يسمّى في بعض بلادنا بالخط العسكري المستعجل، أي الطريق السريع المستخدم حصراً من قِبل الأمن والجيش لا المدنيين.
قد يسأل سائل أليس هذا النظام قديماً قدم الممالك والولايات؟ تجيب رادنر ولها فصل كامل في هذا الموضوع، بلا، ليس تماماً، حيث إنه بعكس نظم المراسلة المصرية، والحثية والبابلية الرسمية السابقة، حوّل الآشوريون المراسلة الملكية إلى عملية منظمة، ومنضبطة، ومكلفة، تدعمها مؤسسة كاملة وذلك على الأغلب في عصر الملك شلمنصر الثالث (858 ق.م ـــ 824 ق.م) (Radner: 2014).
أولاً، منع الآشوريون استخدام الموظفين لهذه الخدمة لأغراضهم الشخصية، وهو شكل إحدى أبرز أزمات نظم البريد السابقة (Radner: 2014, p5). ثانياً، اعتمدوا الرسائل المحفوظة بظروف طينية مجففة، (بحجم هاتف محمول)، تحوي اسم المرسل والمرسل له، مختومة بختم الدولة، لا يطّلع عليها أحد إلا المرسل إليه، وهي طريقة متّبعة منذ القدم في بلاد الرافدين (يمكنكم رؤية هذه الظروف اليوم في المتاحف وعلى عشرات المواقع الأركيولوجية على الإنترنت).
ثالثاً، اعتماد اللغة الأكدية المسمارية حصراً في المراسلة حتى مع الشعوب التي لا تتقنها، حتى أواخر القرن الثامن ق.م، لتدخل بعدها الآرامية كلغة ثانية رسمية في الإمبراطورية. سترث الدولتان الكلدانية والإخمينية اللغة الآرامية وستُعتمد في المراسلات.
رابعاً، من يكتب الرسائل الرسمية موظف يسمى «بيل طيمي» وتعني سيد المراسلات، وكان لهؤلاء أسلوب خاص وموحّد في تحرير الرسائل، ويمكن لمن يجيد الأكدية أو الآرامية أن يميّزه، عن غيره من أساليب الكتابة التي اعتمدها الموظفون والمستجدون منهم. اعتمد الـ«بيل طيمي» على لغة رسمية، دقيقة لا تقبل التأويل، فصيحة التعبير، بالغة التهذيب في التخاطب بين موظفي الدولة. ما يعني أنه كان هناك مؤسسة ما متخصصة تدرب هؤلاء الكتبة وتدير أمرهم. منع الملوك تعيين أي موظف دون كاتب من هذه الفئة. كما اشترطت الدولة أن يأتي هؤلاء الكتبة المحترفون من آشور القديمة حصراً وهي المثلث المكوّن من مدن (آشور، أربيلا، نينوى)، بحيث إنه كان يمنع توظيف أيّ كان من أي ولاية بل كان يتعيّن عليه أن يأتي من مدارس هذا المثلث.
سترث الإمبراطوريتان الكلدانية والإخمينية، عن الإمبراطورية الآشورية هذه الشريحة الإدارية وستوظّفها تحت شروط مشابهة وتحت نفس الاسم «بيل طيمي». المثير هنا أنه يبدو أن كل بنات وأبناء الأسرة الملكية الآشورية دربوا على الكتابة وكان بعضهم من مستوى هؤلاء الكتبة المحترفين، حيث كان الملك سنحاريب يحرر رسائل أبيه سرغون.
خامساً، كانت الرسائل تكتب بطريقة لو أتلفت يمكن التعرف بسرعة إلى مصداقيتها، حتى لو بقيت منها كلمة، وذلك لتميّز أسلوب كتابتها (Radner: 2014, p5 -P7, P66 – P70).

شبكة بيوت مارديتي
«عسى أن يُمحى اسمك، وتُمحى ذريتك،
وذرية أولادك وبناتك من الأرض كبغل عقيم»
لعنة شعبية آشورية
كانت هناك طريقتان لإيصال الرسائل، الأولى هي عبر ساعٍ واحد يأخذ وقته سالكاً طرقاً معبدة وهو ما فضله الإمبراطور الروماني أوغسطين (27 ق.م – 14م)، على نظام التناوب الأسرع الذي يتولّاه عدة سعاة. يركب كلّ ساع دابته لمسافة محدّدة حتى يصل إلى محطة معينة فيسلّم الرسالة لساعٍ آخر، أو يستبدل بغاله في محطات بيوت مارديتي.
لكن يبدو أن شبكة «حران شاري» ساعدت في إحياء مناطق مهملة عبر رفد كل محطة بيت مارديتي بمستوطنة زراعية جديدة في المناطق الخالية. لدينا رسالة من والي صُبوتو (سوبا الآرامية) في سهل البقاع بلبنان إلى الملك، يشكو له قلة الأيدي العاملة في ولايته وأن ليس فيها مهندس واحد، ويقترح على الملك أن يسمح له بتوطين 30 عائلة في بقعة أرغيت، ومنحهم بيوتاً وحقولاً ليساهموا في خدمة بيوت مارديتي على الطريق الملكي (Eph’al: 1982, p96) (Radner: 2014, p76).
عمل الآشوريون أيضاً على توسيع الطرق داخل المدن الكبيرة وإنارتها، وفرضوا عقوبات صارمة جداً (تصل إلى حدّ الموت) على من يتجاوز على الطريق العام بالبناء أو غيره. لدينا نصبان وُجدا في نينوى في عصر الملك سنحاريب (705 ق.م ـــ 681 ق.م)، يشرح فيهما أسباب توسيع الشارع وإنارته، وبعدها يضع تحذيراً شديداً، إذ يقول
«..إذا توسعت أسس بيت أحدهم لتتجاوز حول شاري، فسيشنق على عمود فوق بيته» (Radner: 2014, p72). لكن أغلى حلقة ثمناً ضمن هذه البنية البريدية كانت الـ«كُدونو» أي البغل، فهو أغلى من الحصان والعبيد بحيث تصل غرامة فقدان أحد هذه البغال إلى قرابة 30 مناً من الفضة أي ضعف سعر العبد ثلاثين مرة. لماذا؟

البغال كانت نادرة، فهي حيوانات عقيمة، ناتجة من تزاوج حمار بفرس. تمتد حياة البغل العملية قرابة 20 عاماً بعكس أبويه. يرث البغل قوة تحمل الحمار والكثير من سرعة الحصان، وقد ينمو ليفوق والديه قوة وارتفاعاً، كما أنه سباح ماهر، ومثالي للطرق الجبلية، وتلك الوعرة. لكن فترة نمو البغل أطول، فهو يحتاج لخمس سنوات ليبلغ، وهذا يتطلّب عملية عناية وتدريب مكثّفة وحساسة ومن هنا يأتي ارتفاع أثمانها (Radner: 2014, p73).
المسافات والوقت اللذان كان يجب أن يقطعهما السعاة حُدّدا سلفاً، بعدما درس الآشوريون أسرع الطرق وأقصرها من مدينة إلى أخرى. المثال الأبرز لذلك هو الطريق الرابط مثلث آشور بولاية قيي (أضنة اليوم)، وهو يقارب 700 كلم وفق طيران غراب. فرض الآشوريون على سعاتهم أن يقطعوا بالضبط هذه المسافة والتي يفترض أن تأخذ منهم قرابة خمسة أيام، مهما صادف الساعي من أنهار أو مرتفعات أو منحدرات.
وفق رادنر هذه أول مرة يتم فيها توظيف البغال في مشروع حساس وضخم هكذا، ما نفحها تلك الأهمية هو أنها أول مرة يُفصل فيها بين الرسالة والساعي الأمر الذي جعل المهمة جماعية أو مؤسسية. هنا حدد الآشوريون المسافات بين مدن عصرهم، وظلت طرقهم والمدد الزمنية المحددة تلك معتمدة لدى كل الممالك التي توالت على مشرقنا، حتى وصول التلغراف إلى السلطنة العثمانية عام 1865م، أي لثلاثة آلاف عام (Radner: 2014, p73).

عيون وآذان، لملك ذي عزم
يروي المؤرخ اليوناني بلوتارخ (ت 120م) أن الملك سلوقس الأول (305 ق.م ـــ 281 ق.م) مؤسس الدول السلوقية وكان أحد خلفاء الاسكندر في الأصل، ضاق ذرعاً بكثرة التقارير والرسائل الرسمية التي كان عليه أن يتعامل معها (Radner: 2014, p7). سلوقس كما هو واضح لم يكن مدرّباً لأداء هذه المهمة، فهو ضابط عسكري بالأصل.
الإدارة السلوقية كانت خليطاً من الفرس والمشارقة واليونانيين، لا بدّ أن اليونانيين كان لديهم الكثير ليتعلّموه من زملائهم الشرقيين في أصول إدارة الإمبراطوريات. لكنني أتوقع الشيء نفسه بالنسبة إلى خلفاء الآشوريين أي الكلدان والإخمينيين، فكلٌ تعلم الكثير من فنون الإدارة الإمبراطورية من الآشوريين.
فكل من نابوبلاصر (658 ق.م ــــ 605 ق.م) مؤسس الدولة الكلدانية في بابل وقورش العظيم (559 ق.م ــــ 530 ق.م) مؤسس الإخمينية في فارس، واجها نفس موقف سلوقس من إدارة الإمبراطوريات. نبوبلاصر كان ثائراً متمرّداً بالأساس، بينما كان قورش فاتحاً عظيماً أكثر منه إدارياً، على عكس الملك داريوس الأكبر.
الطرق الملكية التي أحياها داريوس وطوّرها، لم تكن طبعاً فقط لنقل الأوامر الإدارية، بل كانت لها مهمة أخطر، وهي نقل أخبار التهديدات الأمنية التي تستهدف العرش. هذه هي شبكة عيون وآذان الملك التي أذهلت اليونانيين فكتبوا، عنها كهيردوتس وبلوتارخ، بمعنى أن اليونانيين لم يشهدوا «جهاز مخابرات» بهذا الحجم والفعالية والنظام.
في الإمبراطورية الآشورية المندثرة كان يصل قصر الملك آلاف التقارير سنوياً كما هو شأن الإمبراطورية الرومانية بعدها بقرون، كما أثبت سيمون كوركوران، وهو أمر مبهر إذا أخذنا الفرق الهائل بين حجم الإمبراطوريتين في الاعتبار (Radner: 2014, p7). اعتمد الملوك الآشوريون هنا على ما يسمى بالمنابع المتعددة للمعلومات. لذا، لم يكن الملك كما توضح هذه المراسلات يكتفي بتقرير وحيد، بل عدة تقارير بعضها تكمّل بعضها، وأحياناً كثيرة تناقض بعضها البعض.
التقارير كانت تجمع وتحلّل ويناقشها الملك وولي العهد وثقات الملك. هذا يعني أن نظام الملكية الآشورية كان يعتمد دائماً على الحضور القوي لملك نشيط ذي عزم، ذكي، ومدرّب بشكل جيد، وإن لم يكن كذلك فسرعان ما سيضعف ويطاح به.
الملكية الآشورية مرت بمراحل، منها وجود وزارة قوية وملك ضعيف، ومنها أوليغارشيا تشارك الملك الإدارة. لكن مع صعود الأسرة السرغونية من الملك تغلات بلاصر الثالث وبنيه (743 ق.م – 732 ق.م) صار حضور الملك أقوى، وصار يعمل كمدير مشروع صارم لربما أقرب لستالين منه لصورة هارون الرشيد المترف في المخيال الشعبي.
لنا في قضية حرب عدوتهم مملكة أورارتو الجبلية مع جيرانها وخسارتها للحرب مثال على ذلك. فقد كانت تصل إلى مقر الملك سرغون الثاني، عشرات التقارير (أغلبها لم يصلنا)، من مار إيسار وهو أحد ثقات الملك والذي كلف إدارة مدينة زاخو بشمال العراق ليكون قريباً من جبهة الحرب ويتابع الأحداث. هذا إضافة إلى تقارير أمراء الممالك التابعة لآشور والتي كان لها سفراء في مملكة أورارتو، ينقلون الأخبار كطرف ثالث من دون أن يثيروا شبهة أورارتو. كما كان هناك بلاط صهر الملك سرغون في مملكة طابال في الأناضول، الذي كلّف هو الآخر التجسس على مجريات الحرب (Radner: 2014, p86 -p92). كل هؤلاء المرسلين يعلمون أن الملك يتابع المسألة من عدة مصادر، وليس لديه وقت للإشاعات والقصص الزائفة. لذا كان على كل هذه المراكز أن تنتقي مصادرها وطبيعة معلوماتها بجدية قبل إرسالها.
لكن ككل أجهزة الأمن لم يوظف الآشوريون النخب الإدارية والأمراء فقط للقيام بهذه المهمات، بل كان لهم آلاف المخبرين، والجواسيس وعملاء الأمن المحترفين وكثير من تقارير هؤلاء نجت من التلف ووصلتنا فتُرجمت ونشرت للقراء اليوم.
الطريف أن أحد هؤلاء الجواسيس كتب للملك أسرحدون (681 ق.م ــــ 669 ق.م) شاكياً أنه يعيش حياة خطرة، إذ يقول «بسبب ما أسمع وأرى، وأنقله لسيدي الملك، يكرهني كثير من الناس، ويتآمرون للفتك بي» (Frahm: 2017, p188).

الخاتمة
ترى رادنر أنه من العبث الحديث عن إمبراطورية إن لم تكن أجزاؤها مترابطة بشبكة اتصالات، وهنا كان البريد الملكي الآشوري التجربة الجدية الأولى. لأن التوسع العسكري لوحده لا يصنع إمبراطورية، إن لم تكن مدارة ومحكومة بفعالية.
بفضل هذه الشبكة ضمِن الآشوريون أمن الطرق التجارية، ونهضوا بالمشاريع الإروائية العملاقة التي اكتشفت في شمال العراق والخابور في سوريا مثلاً، وتلك الزراعية في بلاد الشام وغرب إيران. تبنى الآشوريون سياسة التهجير ونقل الشعوب وتوطين العشائر بين أرجاء الإمبراطورية لإحياء مناطق ومعاقبة شعوب وتحضير أخرى، فدفنت هويات وخلقت أخرى.
خرج الهلال الخصيب (العراق وبلاد الشام) من هذه التجربة القاسية منطقة منظمة إدارياً، منتجة اقتصادياً، بفضل دافعي الضرائب وخطوط التجارة، يكاد يكون ذا هوية لغوية واحدة هي الآرامية، وجاهزاً ليكون مقراً لسبع إمبراطوريات لاحقة، وقلب العالم القديم. الآن من ناحية هذا كله قد يفسر لمَ خرج اليونانيون «الأحرار» (اقرأ البرابرة) بتفسيرات فوقية حول الشرقيين، كونهم فيهم أخلاق العبيد والخنوع، في تصوري، في ضوء ما تقدم، أنهم واجهوا لأول مرة حضارة منتجة دافعة للضرائب مطيعة لحكومتها. لكن من ناحية أخرى فهم اليونانيون سريعاً، أنّ لا مجال لبناء دول قوية تنهض بمشاريع حضارية كبرى بدون شعب اكتسب ثقافة عمل، ويلتزم بالقوانين ويدفع الضرائب، فلم يقيموا نظُماً ديموقراطية في بلادنا بل استنسخوا إمبراطورياتنا، ولعلّ هذه واحدة من مآثر الآشوريين.

  • شارك الخبر