hit counter script

ليبانون فايلز - مقالات مختارة مقالات مختارة - جان عزيز - أساس ميديا

كيف أهدت إيران أميركا فوزاً لا تستحقّه

الجمعة ٢ كانون الأول ٢٠٢٢ - 06:06

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

لم تنتهِ مباراة أميركا ضدّ إيران في مونديال قطر بعد. فالوقت المحتسَب بدل الضائع لا يزال جارياً. وصفّارة النهاية في مباريات كهذه، لا يطلقها حَكَم المباراة. بل حكّام بلاد. أو شعوب محكومة. أو حُكم تاريخ... ثمّة الكثير للتعليق على المباراة الدائمة، قبل الوصول إلى نتيجتها النهائية...

***************************************

على الرغم من دخول عنصر المال بشكل طاغٍ ومهيمن على الرياضة بشكل عامّ، ما زال هذا النشاط الإنساني محتفظاً ببعد بشريّ كبير مؤثّر وملهم. وما زالت الملاعب الرياضية مسرحاً من مسارح انعكاس مسألتين أساسيّتين، تشكّلان جوهر العالم المعاصر ولبّ صراعاته وتطوّراته، ألا وهما صراع هويّات الجماعات في مواجهة سلطة الدولة، وصراعات الجغرافيا السياسية للدول والتجمّعات المناطقية الدولية.

الهويّات والرياضة

كيف تتفاعل الرياضة مع هويّات الجماعات بدايةً؟

قد تكون سلسلة الأمثلة التي لا تنتهي أفضل جواب على هذا السؤال.

بدءاً من لبنان، إذ من ينسى "ودّيّة" كلاسيكو الحكمة – الرياضي في زمن ذلك الاستعار القبائلي اللبناني تحت سلّة، حيث كانت تُستحضر منظومتان رمزيّتان كاملتان، لجماعتين بشريّتين مستلَبتين معاً في مواجهة "وجوديّة"، تُختصر كلّ منهما بممثّلين بعدد اليد الواحدة. وحين انتقل الاستعار نفسه بعد أعوام إلى المقلب السنّيّ الشيعي، بفعل خروج قبيلة المسيحيين من المنافسة، صارت كلّ مباراة كروية موقعة الجمل أو كربلاء!!

صناعة الصوَر الرياضيّة والسياسيّة

ولأنّ للرياضة ذلك البعد الهويّاتي للجماعات، تحرص كلّ سلطة على دجل تماهيها مع مؤسّسات الرياضة وبناها وتكويناتها كافّة. هكذا يُفهم هذا الاندفاع المُمسرَح للحكام للحضور والظهور في الملاعب الرياضية، وخصوصاً في كواليسها، من نسج صورة "الرياضيّ الأوّل" لكلّ رئيس، إلى تعليب انتخابات الاتّحادات والأندية بنفس ألاعيب النيابة ومحسوبيّات التعيينات الحكومية وزبائنيّة المنافع الناتجة عنها، حتى تصبح الرياضة في الديمقراطيّات الخاصة، أو المُخَصْخَصة، جهازاً حزبياً سلطويّاً آخر وحسب، تماماً مثل أجهزة الإعلام والبلطجة والتعبئة وتوريث السلطة، في لادولة العفن العميق.

ليس لبنان استثناءً ههنا، لا بل ربّما بلغ الموجة متأخّراً. هو العالم كلّه على تلك القاعدة يسير.

كرة القدم متنفَّس الفقراء و"ديانتهم"

كرة القدم هي ذروة التجسيد لهذه الظاهرة الرياضية العامّة لأنّها اللعبة الأكثر شعبيّة عالمياً. فهي متنفّس فقراء الضواحي، من شواطئ الريو إلى عشوائيّات سويتو، وصولاً إلى حيث هناك مدن صفيح في الكرة الأرضية. هنا تصير كرة القدم حلم البؤساء الأوّل للخلاص من تلك الأحزمة.

الأهمّ أنّه في هذا المسار تصير اللعبة ديانة الفقراء المهمّشين المقصيّين والمنبوذين. ففيها كلّ مقدّسات الديانة البديلة: المباراة طقوسهم. ولوجستيّاتها شعائر دينهم المتخيَّل. النادي معبدهم المحلّي. والاتحادات "أبرشيّاتهم". والفيفا "كنيستهم" العالميّة. والمعلِّقون وروابط المشجّعين كُهّانهم. فيما هم رعايا أتقياء ورِعون، مؤمنون بالخلاص الأكيد من شِباك الخطأ والتسلّل والسقوط، قبل الوقوف مجدّداً والانطلاق نحو الهدف...

منذ قرن كامل صارت كرة القدم توأم هذا الصراع المستدام بين السلطة والمجتمع:

موسوليني قدّم انتصارات "سكوادرا أزورا" في مونديال الثلاثينيات على أنّها البراهين العلمية على تفوّق الفاشيّة.

قضى موسوليني شنقاً بالمقلوب، ولم تنقلب القاعدة في إيطاليا.

الرياضة في البرلمان الإيطاليّ وعند الفاتيكان

في 29 نيسان 1998 توقّفت أعمال البرلمان الإيطالي في روما نتيجة اشتباك وتضارب بين نائبين. لم يكن الموضوع السياسات الاقتصادية ولا الماليّة ولا الاصطفاف موالاة أو معارضة حيال حكومة، في بلد احترف استهلاك الحكومات أكثر من السباغيتي. وقع اشتباك النائبين بسبب ضربة جزاء لم تُحتسَب لفريق إنتر ميلان في مباراة يوم الأحد الذي سبق. كان الإنتر يلعب ضدّ جوفنتوس. فاز الأخير بضربة جزاء لاحقة. فاندلع الجدل وتحوّل قضية وطنية. حتى راديو الفاتيكان أدلى بدلوه. أكّد الكاردينال أنجيليني أنّه حتى الأعمى أمكنه رؤية ضربة الجزاء الواجبة الحصول. أُجريت استطلاعات رأي وطنية في هذه القضية قبل أن يطالب نائب من "رابطة الشمال" بإعادة المباراة بإدارة طاقم حكّام غير إيطاليين لاتّهامه حكّام الاتحاد الوطني بأنّهم مشترَون من شركة فيات، مالكة نادي "جوفي" يومذاك. ثار نائب آخر قريب من المجمّع الصناعي ضدّ الطلب التشريعي العاجل والمكرّر، فعَلَت الأصوات، وتدحرج النقاش من الكلمات النيابية إلى اللكمات النابية، بسبب خطأ في الركلات الدوريّة.

برشلونة أبقى الأمّة الكاتالونيّة.. والديكتاتور سقط بالملعب

إسبانيا فرانكو لم تكن بعيدة عن تلك "الروح الرياضية" الخاصّة بأنظمة أنصاف الآلهة. على مدى نصف قرن من ديكتاتورية الجنرال، تمكّنت "الأمّة الكاتالونية" المنفيّة في طرف البلاد من البقاء على قيد الحياة بفضل نادي برشلونة. كان النادي وجمهوره جيشاً بديلاً بلا حاجة إلى سلاح. مهمّته الدفاع عن "أمّة محظورة" تحتاج إلى دولة، خصوصاً بعد خسارة كاتالونيا الحرب الأهليّة 1936 – 1939 وانتصار نظام فرانكو. يومذاك لم تكن صدفة أن تجمّع عدد من وجهاء المجتمع الكاتالوني، ونهضوا بالنادي ليصير "دولتهم".

في المقابل جسّد ريال مدريد جيش الدولة العدوّة بكلّ رمزيّته. الاسم والراية والدالّ والمدلول. حتى قيل في تاريخ إسبانيا، إنّ أوّل إشارة إلى سقوط الطاغية، كانت ذات يوم من شباط 1974، حين سحق البرشا غريمه الفريق الملكي 5 صفر، وعلى أرض الديكتاتور في مدريد.

الاتّحاد اليوغسلافي احترق في الملاعب

في يوغسلافيا السابقة كانت مباريات دينامو زغرب الكرواتيّ مع النجم الأحمر الصربيّ أولى نُذُر حرب البلقان الجديدة، حتى يمكن تأريخ بدايتها بمباراة الناديَيْن في 13 آذار 1990 حين راح مشجّعو الكروات يصرخون "سلوبودان لن تنجو منّا"... وقيل إنّ اتّحاد يوغسلافيا سقط فعليّاً عصر 26 أيلول 1990 يوم سقط اتّحادها الكرويّ في مباراة هايدوك سبليت ضدّ بارتيزان بلغراد: اجتاح مشجّعو سبليت أرض الملعب وأحرقوا العلم اليوغسلافي الاتّحاديّ، قبل أن تحترق يوغسلافيا في حرب جماعاتها، وتولد من نارها دول جديدة، صارت كلّها أعضاء في الفيفا، قبل أن تصير أعضاء في الأمم المتحدة.

تجسّد النموذج نفسه في احتكاكات جمهور براتيسلافا السلوفاكيّ مع جمهور سبارتا براغ التشيكيّ. كانت أوّل فعل سياسي لانقسام البلدين واختفاء تشيكوسلوفاكيا.

الرياضة من مكوّنات الجغرافيا السياسيّة الدوليّة

لكنّ للرياضة عموماً، ولسحر تلك الكرة خصوصاً، تأثيراً أكبر وأبعد من صراع الهويّات والجماعات. فهو عنصر مكوّن من مكوّنات الجغرافيا السياسية الدولية، أو هو تعبير من تعبيرات السياسات العالميّة، من تحدّي ذهبيّات جي سي أوينز لعنصريّة هتلر في أولمبياد برلين 1936، إلى صراع الجبّارين فوق رقعة شطرنج بوبي فيشر وبوريس سباسكي سنة 1972، مسرحاً بديلاً عن ذروة الحرب الباردة، وصولاً إلى التبشير بسقوط جدار برلين، يوم فاز المنتخب الأميركي لهوكي الجليد على غريمه السوفييتي في أولمبياد لايك بلاسيد، سنة 1980، فبادر ريغان إلى إعلان الانتصار على موسكو، قبل أشهر من فوزه هو برئاسة واشنطن.

أعضاء الفيفا أكثر من أعضاء الأمم المتّحدة

هكذا تبدو جيوبوليتيك كرة القدم أدقّ تعبيرٍ عن ذلك البعد السياسي الدولي، إذ ليس تفصيلاً مثلاً أن يبلغ أعضاء الفيفا 209 دول اليوم، فيما أعضاء الأمم المتّحدة 193 فقط. وليس صدفة أنّ بعض الدول الموحّدة في "شيء مانهاتن"، كما كان يحلو لديغول أن يسمّي المنظّمة الدولية، يبدو متشظّياً في الفيفا. بريطانيا مثلاً متّحدة هناك. لكنّها مقسّمة هنا بين إنكلترا واسكتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية. حتى إنّ علامات استفهام تُطرَح حول ما إذا كانت تركيبة الفيفا البريطانية هي المستقبل الفعليّ للمملكة غير المتّحدة.

أوطان صارت دولاً كرويّة

الأمر نفسه بالنسبة إلى مشاريع أوطان كثيرة، صارت "دولاً كرويّة"، قبل أن تصير دولاً "وستفاليّة". الجزائر الحرّة السيّدة المستقلّة بدأت منتخباً دوليّاً باسم "جبهة التحرير الوطنية" قبل التحرير والاستقلال والدولة. أرمينيا أعلنت سيادتها الكرويّة قبل دولتها. فلسطين على الطريق.

صار تعريف الدولة اليوم رباعيّ التكوين من أرض وشعب وحكومة ومنتخب كرويّ.

حيث تكون الجغرافيا السياسية تكون المؤامرات الدولية. وهي لم تغِب عن ملاعب كرة القدم وفق خطوط جيوبوليتيك الشمال والجنوب، أو جيوبوليتيك القارّات السياسية.

من ينسى، مثلاً، مؤامرة ألمانيا والنمسا على الجزائر في مونديال 1982. فوز ألمانيّ مفبرَك على جاره السياميّ 1 – صفر. كانت النتيجة الوحيدة التي تسمح بإخراج خضر إفريقيا من المونديال، بعد انتصارهم المفاجئ على ماكينة الرايخ الرابع. وهكذا حصل. بعد أشهر قليلة، وقف أحد رؤساء الدول على منبر الأمم المتحدة يشرح كيف كانت تلك المؤامرة الغربية خير تجسيد لتآمر العالم الاستعماري ضدّ إفريقيا.

الكرة حرب بوسائل أخرى

سنة 1998 تآمرت البرازيل بطريقة مماثلة على المغرب. نهائي كأس الأمم الأوروبية سنة 1996 بين ألمانيا وإنكلترا لم يكن إعادة لنهائي مونديال 1966، بقدر ما كان إعادة لنهائي الحرب العالمية الثانية. وفوز ألمانيا، الغربية بالاسم والهويّة والانتماء، في مونديال 1954، خصوصاً على المجر السوفييتية يومذاك، بدا وكأنّه أوّل التأسيس لانتصار الحلف الأطلسي على حلف وارسو، قبل أعوام على تأسيسهما. الحرب الفعليّة بين سلفادور وهوندوراس انطلقت بين البلدين والجيشين عقب مباراة منتخبَيْهما سنة 1969، ضمن تصفيات الكونكاكاف لمونديال 1970. يومذاك، كان احتقان شعب الهندوراس من جيرانه كبيراً ومكتوماً بفعل اجتياح اليد العاملة السلفادوريّة لبلدهم، ففجّروا غضبهم على المدرّجات، وبدأ التوتّر وانطلقت المدافع بين البلدين، في تطبيق مقتبَس من نظريّة كلاوشفيتز بأنّ الكرة هي الحرب بوسائل أخرى.

لا شكّ أنّ حرب أميركا الوسطى تلك تذكّر الكثيرين في بيروت بمباراة المنتخبين اللبناني والسوري في كرة السلة سنة 1996، يوم كان لبنان كلّه تحت وصاية نظام المنتخب الثاني. ففي تلك اللحظة ظَلَم الجمهور البلديّ ضيوفه الرياضيين، إذ حوّلهم صندوق بريد لإيصال رسالة اللبنانيين الممنوعة إلى دمشق بأن "لا، لسنا شعباً واحداً في دولتين، والأكيد الأكيد، أنّنا لن نقبل تحويلنا شعبين اثنين في دولة واحدة".

بين نظام الوليّ باسم الله، ونظام ولايات دولارٍ

كان كلّ هذا على أرض الملعب بين أميركا وإيران في قطر، حتى بدت المباراة أشبه برباعيّة: دور أوّل في كأس عالم، ودور متقدّم في صراع الداخل الإيرانيّ المستعاد، ودور وسطيّ في صراع ولايات داخلية، ما بعد نصفيّة الكونغرس وما قبل تمهيديّة رئاسية 2024، وطبعاً دور نصف قرنيّ، من صراع طهران وواشنطن، بين نظام الوليّ باسم الله، ونظام ولايات دولارٍ، عنوانه الثقة بالله نفسه أو آخر.

من صمت اللاعبين الإيرانيين لحظة نشيد بلادهم، إلى احتفالات أهلهم بالخسارة. ومن الصمت الإيراني الرسمي بعد الخروج من المنافسة (على عكس بيان المرشد الانتصاريّ بعد مباراة 1998) إلى صراخ بايدن الثمانينيّ محتفلاً بالفوز، تمهيداً لاستثماره في منافساته المحلّية المقبلة، ومن استفاقة جمهور إيران على أيقونة مهسا أميني، تطهيراً للخسارة، إلى نسيان جمهور القارّة الجديدة لأيقونة جورج فلويد ورفاقه الكثر، بفعل تظهير النصر.

وسط كلّ هذا، بدا واضحاً أنّ أزمة الحرّية التي تستحقّها إيران، أهدت أميركا فوزاً... لا تستحقّه.

  • شارك الخبر