hit counter script

ليبانون فايلز - مقالات مختارة مقالات مختارة - جان عزيز - اساس ميديا

الحزب والرئيس والشيعيّة السياسيّة: خطأ ثالث وخطر ثالث...

الجمعة ٣ شباط ٢٠٢٣ - 06:20

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

قبل ثمانية أعوام كاملة، ولمناسبة ذكرى تفاهم مار مخايل، وقف محمود قماطي على منبر دارة الجنرال في الرابية، مردّداً أمام كاميرات التلفزة كلمات تلك الأغنية: ما منترك عون ولا منرضى بدالو.

كان قد مضى أقلّ من تسعة أشهر على الفراغ الرئاسي يومها. وكان على ذلك الموّال أن ينتظر بعد، عشرين شهراً ونيّف، حتى يتحقّق في نهاية تشرين الأوّل 2016، بانتخاب الجنرال رئيساً. والأهمّ، أنّ مسؤول حزب الله، كان يدرك بلا شكّ، كلّ الاعتبارات التي يعنيها ترداده كلمات تلك الأغنية. فهي شبه نشيد لزمن مضى، كانت فيه "حرب التحرير" ضدّ الجيش السوري و"تكسير رأس حافظ الأسد" وإسقاط اتفاق الطائف بالقوّة.

لكنّ حزب الله كان واثقاً أن لا غضاضة في كلّ ذلك. لسبب بسيط. وهو أنّه كان يدعم مرشّحاً رئاسياً، يجسّد خير تجسيد، تلك القاعدة الميثاقية التي اختُرعت يومها ورُفعت وكُرّست، بأنّ الرئيس يجب أن يكون الأقوى في بيئته، والقادر بالتالي على تأمين التوازن، منطلقاً للتعاون مع نظرائه من أقوياء بيئاتهم في رئاسات المواقع الدستورية الأخرى.
بعد ثمانية أعوام كاملة على تلك المشهديّة، يبدو حزب الله، أو هناك من يريد له أن يظهر في الإعلام والعلاقات والسلوكيّات والحسابات والإرادات، وكأنّه يتصرّف رئاسياً انطلاقاً من قاعدة جديدة، مفادها: أنا الأقوى. بل أنا الأوحد... ونقطة على السطر.

فمن يجنّب المقاومة سقطة "نظام الشيعية السياسية"؟!

************************************

ليس المقصود بالتوصيف أيّ أحكام مسبقة، بل السعي إلى مقاربة موضوعية علمية دقيقة، تعتمد الاستدلال والمقارنة بين نظام "المارونية السياسية" في الجمهورية الأولى، ونظام "السنّية السياسية" في الجمهورية الثانية العابرة، وصولاً إلى التنبيه من خطر أن تكون الثالثة قاتلة، مع نظام "الشيعية السياسية" في جمهورية ثالثة هي أقرب إلى أنقاض وبقايا خراب.

واختصار الشرح، أنّه في مطلع الأربعينيات كانت هناك في بيروت طبقة مسيحية حاكمة. هي خليط من مصالح سياسية واقتصادية وسلطوية وحتى عائلية. وفي طليعتها زعماء الموارنة. وكانت تلك الطبقة مستفيدة من الانتداب الفرنسي، ممسكة بمفاصل الإدارة المحليّة للبلاد في ظلّ مفوّضها السامي. غير أنّ تطوّرات عدّة داخلية وخارجية، بنيوية وعرضيّة، دفعت مجموعة منهم إلى الانشقاق عن "المنطق المركزي" للجماعة المسيحية المستدفئة حضن "الأمّ الحنون" يومها، لتشبك مع جماعة مسلمة مقابلة، كما مع الإنكليز مقابل الفرنسيين. فأعلنت معركة الاستقلال وزال الانتداب.

بعد 1943 طرحت تلك الطبقة الحاكمة على نفسها السؤال: كيف نبقى في السلطة بعد ذهاب الفرنسي؟! فكان جوابها اختراع نظريّة قائمة على مبدأين اثنين:

- أوّلاً، لا يمكن للاستقلال الناشئ إلّا أن يُعهد به لمن اختبر فلسفته وآمن بميثاقه.

- ثانياً، لا بدّ من الاعتراف دوماً وأبداً بفضل تلك المجموعة الحاكمة على قيام الاستقلال وعدم التنكّر لتضحياتها ضدّ الانتداب.

كانت ترجمة هذه النظريّة أنّه للحفاظ على الاستقلال الطريّ العود، وعدم تعريضه لأيّ نكسة قد تطيح به، أو حتى تعيد الانتداب والاحتلال الأجنبي إلى لبنان، ولعدم ظهور الوطن وشعبه جاحدين أو ناكرين لجميل من حقّق هذا الاستقلال، لا بدّ للسلطة الفعليّة في تلك الدولة المستقلّة حديثاً أن تظلّ في أيدي "طائفة الاستقلال". وهي الطائفة المتمثّلة استلاباً بالمجموعة المسيحية - المارونية الحاكمة سعيدة في السياسة والاقتصاد والمصالح كافّة.
تركيبة "المارونية السياسية"

لكنّ تلك المجموعة الحاكمة يومها والقائمة خلف هذه النظرية، كانت مدركة لعجزها عن تأمين شرعية السلطة بمفردها. لذلك بدأت تتبلور تدريجياً تركيبة "المارونية السياسية" ونظامها الذي استمرّ بأشكال مختلفة طوال ثلاثة عقود، من منتصف الأربعينيات حتى منتصف السبعينيات. هذه التركيبة قوامها:

- أوّلاً، تحالف سياسي من كلّ المذاهب والطوائف. فيه سياسيون سُنّة وشيعة ودروز. لكن يختارهم ويسمّيهم الزعيم المسيحي لا سواه، ولو من ضمن اعتبارات مناطقية أو مقاطعجية توازنيّة معيّنة.

- ثانياً، يعترف هؤلاء جميعاً بأولوية الزعامة المارونية في المفهوم والنظام والممارسة والواقع، انطلاقاً تحديداً ممّا سبق، من خلفيّة دوام الشكر على نعمة الاستقلال والحفاظ عليه.

- ثالثاً يتبادل زعماء هذا التحالف من مختلف الطوائف-القبائل، المصالح والخدمات والمنافع كافّة، على قاعدة زبائنية مطلقة، وباسم طوائفهم ونيابة عنها، ضماناً لاحتفاظهم بشرعيّة ما للحكم، وبالتالي لبقائهم في السلطة.

وبفعل الطبيعة ومنطق الأمور، لم يكن الزعيم الماروني يختار شركاءه المسلمين من الذين يمثّلون أكثريّات جماعاتهم، بل غالباً ما كان العكس هو الصحيح، بحيث صارت المارونية السياسية تقوم على زعيم الأكثرية المسيحية كعمود فقري لنظامها، ومعه زعماء أقلّيّات مسلمة، يختارهم هو كملحقات لسلطته. وهو ما جعل القاعدة الشرعية لذلك النظام تنحسر بين الناس تدريجياً، خصوصاً مع الانحسار الديمغرافي للمسيحيين. وهو ما ساهم في تآكل ذاك النظام حتى سقط بفعل تراكم عوامل أخرى عديدة كثيرة ومتشعّبة، داخلية إقليمية ودولية.

"السنية السياسية"؟

بعد عام 2005، ولفترة وجيزة عابرة، بدا وكأنّ هناك من حاول نسج نظام "سنّيّة سياسية"، كنسخة مطابقة لِما سبق. شيء من سرديّة بأنّ السُّنّة في لبنان بشكل عام كانوا "مستفيدين" من نظام الوصاية السورية. تماماً كما كان زعماء الموارنة مع الانتداب الفرنسي. غير أنّ تطوّرات دولية حصلت مؤذنة بتغيير كبير في دمشق وبيروت. ثمّ جاءت تطوّرات دموية أصابت تلك الجماعة "المستفيدة" بالذات، مع اغتيال رفيق الحريري. وهو ما جعل قيادة تلك الطائفة ترتدّ عن نهج السكوت على وصاية الأسد وتلتحق بالتيار السيادي اللبناني الناشىء، وأدّى ذلك إلى زوال تلك الوصاية وتحقيق الاستقلال الثاني. وكانت هذه المجموعة تملك من المقوّمات المادّية والسياسية، ومن الدعم الداخلي والخارجي الكثير، حتى إنّها كانت تجسّد ما كان يملكه ويمثّله موارنة الأربعينيات في سياقهم. ولذلك ذهبت تلقائيّاً إلى محاولة ضمان بقائها في السلطة عبر ترسيخ أساس نظري، في ما يمكن أن يكون "نظام السنّيّة السياسية"، نظاماً يحاول البناء على أنّ دم رفيق الحريري هو من حرّر لبنان من الاحتلال السوري، وأنّ أيّ تنكّر لهذا الفضل، أو رفض لمفاعيله في السلطة، يمكن أن يسقط الاستقلال الثاني مجدّداً ويُعيد جيش بشار الأسد إلى بيروت.
وكما مع المارونية السياسية، سعت فكرة السنّية السياسية إلى ضمّ سياسيين من كلّ الطوائف، شرط أن يختارهم الزعيم السنّيّ الأوّل، ولو لم يكونوا يمثّلون أكثريّات جماعاتهم، وإن من ضمن اعتبارات التيسير وتسهيل قيام نظامها وبقاء سلطتها.

لكنّها فكرة وُلدت ميتة. إذ سرعان ما قضت عليها وقائع وأخطاء وسياقات داخلية وخارجية، وصولاً إلى وأدها كلّيّاً بعد حرب تموز وما تلاها من معادلات.

سراب الشيعية السياسية

اليوم ثمّة شيء من سراب "شيعية سياسية" يلوح في الواقع. شيء من لازمة باتت معروفة ومعزوفة تكراراً للمرّة الثالثة: نحن من حرّرنا البلد. حرّرناه مرّتين، من إسرائيل ومن الإرهاب. وبالتالي على الجميع الاعتراف بفضلنا والتسليم به وبمفاعيله، وأيّ إنكار أو جحود قد يعرِّض لبنان لمخاطر عودة العدوّين مجدّداً وفي كلّ لحظة. وتجسيد ذلك أنّنا نحن من نسمّي رؤساء السلطات، رؤساء الجمهورية والحكومة وطبعاً البرلمان، وفق معايير حماية خطّنا وأهدافنا ومشروعنا، لا وفق من يمثّل هذه الجماعة أو من هو الأقوى في تلك البيئة.

لا بل يذهب السراب هذه المرّة أبعد. فالمارونية السياسية حاولت أن تنسج حول مفهوم لبنانها شيئاً من مفهوم القداسة، حتى كتبت ولحّنت له تراتيل وصلوات وجمعته مع مريم العذراء في سيّدة لبنان. والسنّيّة السياسية لم تشذّ عن تلك القاعدة. فشيّدت ضريح رفيق الحريري على حائط مسجد وسط العاصمة وجعلته مزاراً وطنيّاً مكرّساً، مع ما لذلك من رمزية مقدّسة ودلالات دينية. واليوم يذهب بعض غلاة مشروع الشيعية السياسية أبعد ليصير عندهم كلّ ما له علاقة بالجماعة مقدّساً، سواء الأحياء من مسؤولين محليّين أو خارجيّين، أو الشهداء الراحلون في أيّ مكان أو زمان، وصولاً إلى اللهجة والضاحية وكلّ تفصيل دنيوي زماني. وحيال المقدّس لا نقاش ولا حوار ولا حتى كلام، بل مجرّد تسليم أو حتى استسلام.

الحريص على المسيحيين كان عليه أن ينبّه أركان الحلف الثلاثي منتصف السبعينيات بأنّ الزمن تغيّر. والحريص على مشروع رفيق الحريري كان عليه أن ينبّه قيادة تيّاره سنة 2005 إلى استحالة أن تركب التحالف الرباعي لتضرب بشار الأسد وميشال عون معاً، ثمّ تحاول بعد التفرّغ منهما التخلّص من حزب الله لاحقاً.

والحريص اليوم على المقاومة وتضحياتها وشهدائها، عليه أن ينبّه بصوتٍ عالٍ إلى أنّ لبنان لا يمكن أن يبقى يوماً بلا مقاومة. لكنّه لا يمكن أن يحيا لحظة في ظلّ خطأ ثالث اسمه نظام الشيعية السياسية.

المسيحيون دفعوا ثمن سقوط المارونية السياسية. والسُّنّة دفعوا ثمن سقوط السنّيّة السياسية. فهل مَن يتعلّم من أخطاء الآخرين وأثمانهم، قبل فوات الأوان؟!

  • شارك الخبر