hit counter script

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - بروفسور نسيم الخوري

يموت اللبنانيون في صحراء قاحلة

الإثنين ١ شباط ٢٠٢١ - 00:01

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

ماذا يمكن أن يعلق بشباكك عندما تغرز قلمك اليوم في قلب "سجنك" سواء أكان وطنك ضيّقاً حافلاً بالجائعين يتحدّون الكورونا والموت بالموت أو فسيحاً حافلاً بخمسةٍ من الأصنام الجائعة للنهب والإذلال والقهر والتدمير في حكم لبنان؟ لا يعلق سوى قشّة وهميّة تتمسّك بها وحيداً متألّماً إذ ابتعد الأولاد والأحفاد والأشقاء والأصدقاء والأهل في تقديس التكميم وشرعة التباعد الرهيب.

السؤآل الذي يسكننا ما الفائدة من التسلية بالكلام أو الكتابة في أرض لبنان القاحلة؟

وأتخيّل هنا حواراً بين إثنين غارقين في المآدب والمشارب والنوم العميق طرداً للزمان السئيل وأمام الشاشات الفارغة والثورة المخنوقة في أزياء الإعلاميّات والإعلاميين:

- أنا جائع...

- لا يبدو الجوع حاجة ظاهرةً في وجهك إلى درجة تمنعك من الأكل.

قال: نعم، لكنّ من المحزن جدّاً أن أتناول العشاء وحدي!

وهنا سؤال:

هل هو جائع فعلاً يبحث عن عشاء أو يبحث عمّن يقاسمه عشاءه وهو يعرف أنّ النوم جاهز بعد العشاء؟ يبحث عن بقايا التواصل مع الآخر، يتقاسمان حبّة زيتونٍ أو خروفاً محشوّاً.

وصلنا معاً إلى مسرح "قدسيّة" التواصل والإيصال بين أهل المساحات الواحدة المتباعدة أطلقت عليها صفة "السجن" قصوراً كانت أو خيماً في الأرض والفضاء. الخيمة أفضل من القصر إذ تشتعل الغرائز للمهدّدين بالبرد والجوع والموت. أقول "قدسيّة" لأنّ الإتّصالات الإلكترونية أسرّة جراثيم وعادات قزّمتنا أكثر من الكورونا التي وحّدت الإنتباه العالمي لجنون الإنسان. رمتنا جرثومة بين التفسير الإلهي والمؤامرات الإلكترونيّة. صحيح، لكنّ الضياع والتيه في أمر اللقاحات ومصادرها ونتائجها وتداعياتها أمر يقطع الأنفاس في بلد ماتت الثقة فيه بالسياسيين والأطباء والعلماء والشركات إذ تبذر "وسائل الإنقطاع العالمي" الشكوك والإرتجالات والمتناقضات.

لا كوّة لإخراج المتأبّطين بأجسادهم في شقوق بيوتهم وزواياها من الأنفاق، سوى التذكير بالفروقات الشاسعة بين نعمة التواصل من قرب ونقمة أوهام الإتّصال من بعد. الرغبة بالتواصل الحي تفلش جسور الإلفة والمحبّة بما يتجاوز مخازن الدواء والمكمّلات الغذائية. لست ألعن "شياطين" الإتّصال الفضائي بل تخفيف التسمّر في متابعة الأخبار والأهوال وأعداد الأموات والمصابين في الأرض.

أعيد نشر ما كتبه الشاعر الفرنسي غوستاف فلوبير (1821-1880):

"نعيش في صحراء لا يرى الواحد فيها أحداً".

كتبه إنتقاماً من جرثومةٍ إسمهاStreptococcus pneumonia ، وهي توأم الكوفيد 19 لما تتركه من التهابات وآلامٍ رئويّة وضيقاً بالتنفّس حتّى الموت اختناقاً. عرفها اليونانيون القدامى منذ 2480 سنة، وكتب عنها أبو الطب والفيلسوف اليوناني أبقراط (460-377 ق.م) الذي يكرّر أطبّاء العالم قَسَمَه قبل ممارستهم لمهنة الطبّ. وبعد موت فلوبير في الـ 1880، إكتشف العالم الفرنسي والكيميائي المشهور لويس باستور (1822-1895) اللقاح المناسب. وأكتب قائلاً: نحن اللبنانيين نموت في صحراء قاحلة.

التواصل دواء إذ لا يمكن تصوّر لذّة ما يحصل عند الكلام والسماع والحوار من تبادل واعتراف. قد يضجر المتكلّمون من الكلمات المألوفة والمحادثات العابرة في الصحة، والطقس الجميل والكورونا حيث لا دلالات لها جديدة، ولا تضيف شيئاً إلى الواقع الأليم، لكنّها تترجم الحاجات المحجوبة والرغبات المكبوتة وتتجاوز مفاعيل الأقراص المهدّئة للأعصاب. الكلمات والإبتسامات توقظ الآخر، وتعتبر المصافحات اعترافاً مريحاً بالفروقات والتماثل وتقطيع المآزم الطارئة الثقيلة، حتّى التجاهل له قيمة كبرى في علوم الإتّصال، باعتباره شكلاً من الاعتراف بالآخر. أنت حرّ غيري، ونحن متشابهان ومهدّدان وخائفان معاً فلا بدّ لنا من أن نتبادل اعترافاتنا قهراً للخارج وتطويقاً للمخاطر التي تطوّقنا جميعاً، وإذ تصافحني أو تسألني جائعاً أو متظاهراً بالجوع، فإنك تعترف بوجودي الكامل كآخر، كما اعترف بك في أناي كما في خارجها.

هذا الزمن الذي نعيشه من دون دولة، تتجدّد فيه الأرض والكائنات، ويتصفّى الهواء وتنظّف المحيطات والبحار والينابيع من مياهها، أميل لأن أنقل ما كتبه الشاعر والروائي الفرنسي ألفرد دو فيني (1797-1863):

"إبحث عن الآخر الباحث عن ذاته فيك".

من المحزن أن تتناول العشاء وحدك!

  • شارك الخبر