hit counter script

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - محمد ابي سمرا - اساس ميديا

وداع نواب التغيير وميشال عون

الجمعة ٧ تشرين الأول ٢٠٢٢ - 06:29

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

تبدو حال من سُمّوا "نواب التغيير" ومواقفهم، منذ انتخابهم نوابًا في البرلمان اللبناني، على شبه ما بحال شعراء الغزل والحب العذريين في بادية العصر الجاهلي، أولئك الذين أدى بهم خروجهم على الأعراف القبلية البدوية إلى التيه والتشرُّد خبط عشواء هائمين في الصحراء بعيدًا من حِمى قبائلهم وأهلها ومضاربها.

والباعثُ على هذا التشبيه هو أن العامل الغالب في نجاح "نواب التغيير" في الوصول إلى البرلمان، جاء نتيجة "انتفاضة 17 تشرين" عام 2019 على الولاءات الأهلية الطائفية وعصبياتها وزعمائها وأحزابها، ونتيجة تكوّن مجموعات اعتراضيّة كثيرة في ساحات الانتفاضة ونشاطاتها، تقول إنها تريد الخروج على نظام تلك الولاءات التي تشكل عِمادَ النظام السياسي اللبناني، والتأسيس لنظام جديد يقوم على المواطنة الحرة والتمثيل السياسي الحر خارج الاصطفافات العصبية وتقاسم النفوذ والمناصب. وعلى قدر ما أحدثت انتفاضة تشرين من رضوضٍ وكسور وشقوق في كتل الجماعات وعصبياتها، تمكّن نواب "تشرين التغييريون" في الانتخابات النيابية الأخيرة من التسلّل إلى البرلمان من الفسوخ والصدوع التي أحدثتها الانتفاضة في هوامش الجماعات.

لكنهم ما إن وصلوا إلى الندوة البرلمانية حتى غشي المنصب الجديد على أبصارهم وأفئدتهم: فبدل انصرافهم من موقعهم الجديد إلى العمل السياسي القاعدي لتفكيك الولاءات وتوسيع الرضوض والكسور والشقوق التي تسلّلوا منها إلى المجلس النيابي، انصرفوا - مثل شعراء العذرية، أيتام الديار والنسب القبلي والتيه في البيداء - إلى سلوكٍ وتصرفاتٍ ومواقف بيّنت كلها إقرارهم بأنهم أيتام الجماعات والعصبيات الطائفية وأحزابها التي تتصدّر المشهد السياسي اللبناني. وهم أمعنوا ساعات وساعات في عقد اجتماعاتٍ لمناكفاتهم داخل قاعات مغلقة تَخْلو إلا من أصداء يُتمهم، ومن تصوُّر كلٍّ منهم عن ذاته أو أناه المتورّمة والمتضخّمة ودوره المتوهّم بوصفه نبيًّا مولودًا من صحراء العدم. وفي كل مناسبة وما يسمّى استحقاقًا في العمل النيابي، راحوا يبحثون عن موطئ قدم لهم في حواشي نظام ولاءات نواب الجماعات والعصبيات وزعمائها، بوصفهم أيتامها المشرّدين.

وبدلَ أن يحوّلوا موقعهم التمثيلي في البرلمان منصّة جديدة، مختلفة وفاعلة في العمل السياسي، ويفتح كوّةً أو ثقوبًا في رثاثة العمل النيابي، استخفهم طربُ المنصب، ناسين أو متناسين أنهم انتُخبوا ووصلوا إلى النيابة كي يفضحوا تلك الرثاثة ويخرجوا عليها. حتى أنهم راحوا في كل مناسبةٍ واستحقاق يزورون نوابَ العصبيات وزعماءها للوقوف على خواطرهم، وكي يهديهم نواب الكتل إلى السبيل الصحيح والناجع في العمل البرلماني، ويسدّدون خطاهم في خياراتهم.

و"نواب التغيير" في هذا كله بدوا أنهم مقيمون على البقاء في "دورة تدريبية" على السياسة والعمل السياسي الذي قسروه على الكلام، وعلى ممارسة "تقنية" أو "حِرفية" صرف، تُسمّى جزافًا استحقاقات دستورية. وهي في معظمها بهلوانات لتعطيل دستورٍ منسيّ أصلًا وفصلًا. وهم انشغلوا مثلًا طوال أوقاتهم في الكلام على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، كفيل وحده بتخليص البلاد من خرابها المقيم، وبعثها منه ما إن يصلُ إلى كرسي الرئاسة، فيمسح بيمينه الخراب، ليعود كل شيء إلى نصابه وسابق عهده. كأن ما انحدرت إليه البلاد طوال نحو 15 سنة، يُخرجها منه انتخاب رئيس في لحظةٍ واحدة.

الأرجح أن تجربة "نواب التغيير"، كسواها من التجارب النيابية والسياسية السابقة المماثلة: بيّنت أن من الصعب اجتراح حياة سياسية في لبنان خارج "الشرعيات" العصبية لكتل الجماعات الأهلية الصلبة. وكل من يقول أو يتصوّر أو يتوهّم أنه يحاولُ الخروج على هذه "الشرعيات" مفردًا خارج أسرابها، سرعان ما يأخذه التيه والدوار والسراب، شأن شعراء العذرية في البادية.

ولنا مثالٌ ساطع على ذلك في تجربة الشبيبة العونيّة في اعتراضها النضالي المديد على "الوصاية السورية" على لبنان. فقد دام تنامي تلك الحركة طوال 15 سنة في البيئة المسيحية، حتى أخرج اغتيالُ رفيق الحريري في العام 2005 الجيشَ والمخابرات السورية من الديار اللبنانية، وأعادَ ملهم تلك الحركة ميشال عون من منفاه إلى بيروت. وبعد عودته قرّر عون الاستغناء عن قُدامى تياره المؤسسين والمناضلين، فصرف معظمهم وأقصاهم، لأنه على خلاف وعدِه إياهم وإرادتهم، عَمِل على تأسيس جماعة سياسية سلكية وبطريركية تدين له وحده بالولاء والطاعة، لتمكّنه من دخول الحياة السياسية اللبنانية من بابها العصبي الطائفي وحده دون سواه. وحَسْبَ أحد قدامى المناضلين العونيين المعترضين، والذي أسلمه اعتراضه على مشروع عون الجديد إلى التيه، أن العماد العائد قال لمناضليه في غيبته: انتهى زمن النضال وبدأت السياسة. أريد اليوم من لهم حيثياتٍ وموالين وأتباعًا في بيئاتهم الأهلية الصلبة، كي أُوصلَ عدداً كبيراَ من النواب المسيحيين إلى البرلمان، بناءً على العصب الأهلي الطائفي الصلب والولاء لقيادتي، لأصل إلى رئاسة الجمهورية.

وقال العوني المناضل في شهادته المنشورة في كتاب لكاتب هذه السطور، "أقنعة المخلص - شهادات في الشِّيعة العونية" ("دار النهار"، 2009، بيروت): "لا بد للمتأمّل في أحوال المجتمع المسيحي من التساؤل: لماذا انتظر المسيحيون طوال حقبة الوصاية السورية عودة قائدين، أحدهما في السجن والآخر في المنفى، كي يعيداهما إلى سدّة الزعامة، من دون أن يبادروا إلى إنتاج زعامات جديدة في إطار تجاربهم النضالية الحية؟ ألا تحمل هذه الواقعة الكبرى على القول إن هذا المجتمع قد أصيب بشيء من العُقم، كي يعيش في انتظار زعيمين مخلِّصين، بعدما دمّرت الحروب بينهما المجتمع المسيحي؟".

 

ويظن صاحب هذه الشهادة أن "اغتيال رفيق الحريري أزعج ميشال عون، لأنه كان يحلم برئاسة الجمهورية في حضور الحريري الأب، كي يقلّم أظافره ويقوّض زعامته وجهًا لوجه في رئاسة مجلس الوزراء، مستندًا إلى ولاءٍ وتأييدٍ مسيحيّين كاسحين". لكن هذا ما فعله عون في غياب الحريري الأب وحضور الحريري الإبن، مستندًا إلى قوة حزب الله وجبروت سلاحه.

ماذا يعني هذا الدرس العوني؟ ألا يعني أن لا سياسة في لبنان خارج "شرعيات" العصبيات الأهلية الطائفية، وأن عصب السياسة في لبنان هو الولاءات والثارات المتناسلة بين الجماعات وزعمائها؟

 

 

  • شارك الخبر