hit counter script

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - مازن عبّود

موسم الهجرة من الجنوب

الأربعاء ١٤ نيسان ٢٠٢١ - 00:00

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

مسَحَتْهُم بالزيت المقدس ونَضَحتْهُم بمياه الغطاس وبدمعها. وسَألَتْ الريح ان تعيدهم اليها تماما كم اخذتهم. تمنت ان تراهم قبل ان يستدعيها ربّ الجنود. ما شاءت ان تلعن البلد، فالجمال لم يرتكب شيئا. بل لعنت من أعاد ادخال البلد في حلقة الحروب والمجاعات التي خالت أنها انتهت. تذكرت طفولتها وكل البؤس والأيام العجاف التي لا تنفكّ تعود. بَكَتْ كثيراً إلّا أنها كانت تمطر، فما احسّ بدمعتها إلّا المطر الذي مسح ملوحتها عن وجه الأرض.

تأخّر الشتاء كثيراً هذا العام. تأخّر الشتاء. وضاقت الازقة بالسيارة الحاملة لفلذات اكبادها. اصطف الأولاد في الازقة الضيقة، وراحوا يسابقون السيارة ويركلونها. هذا يصرخ: "هل اخذت معك الفراعة الصغيرة؟" وذاك يركض وراء السيارة سائلا رفيقه ان لا ينسى الحي. وتلك تحمل تراباً. كان الزمن عن حق زمن الهجرة من الجنوب.

قالت كهلة سَنَدَت حيطاً. هذه العمارات مرصودة للبحار. فقد بناها مغتربون. وهي تحكي قصصهم. وها هم ينادون اقرباءهم إليهم. انهم يسكنون القراميد. كل هرم يغطي عمارة، يخفي قصص وحلم رجل او سيدة غادرا، وقررا ان يتحولا مِعْلَماً من معالم هذه الارض. عمارات تحكي قصص إخفاقات ونجاحات وجهادات وعطش العودة. فهذا مات عندما لامست رجلاه المطار. وذلك أسلم الروح بعيداً على سرير سلّطه على الشير الذي واجه شباك بيته هنا. وتلك عادت رمادا نُثِرَ في العودة او الكروم او الجبال التي احبتها. كانت البحار مكتوبة على اجبنة كثيرين من اهل تلك المحلة.

في الحيّ المقابل سيارة تنتظر لإيصال عائلة أخرى الى المطار. امست هذه الارض مشتلا لنباتات تستقدم الى جهة أخرى من القلب. يرحلون وفي قلب الأب والأم حسرة. حسرة عائلة صارت تخاف على يومها من غدها. وتخاف ان يلتهم سواد ما تخفيه الأيام الاحلام والومضات.

سمع جرس الكنيسة يقرع منفرداً ومتحدّياً مع قلة اسراب الطيور المهاجرة.

في الأزقة أطفال آخرون ينتظرون ان يصيروا برسم الحقائب والغياب. لكن للهجرة شروط والحقائب لا تتسع للجميع.

غَفَتْ البيوت وبَرَدَتْ وتوقّفت مداخنها عن تلاوة الصلوات وكتابة المزامير. وصارت شبابيك البيوت تنظر باحثة في المجهول. فأمست تستقبل وتودّعُ الشمس. اما على الشاشة فما زال ساسة يُصرِّحون ويستصرحون ويتصورون كأنّ شيئاً لم يحصل.

أُقفلت الأبواب. وصدأت الكثير من المفاتيح. وما عادت تفتح الأبواب. أمست المحلة تصغر والمدافن تكبر. وتوقفت الحنايا عن صنع القصص. فداهم النوم الأمكنة في عزّ النهار.

وقف اولادي وتطلعوا وسألوا عن الناس. سألوا الى اين تمضي الناس، وكيف؟ سألوا عن المدائن والبلدات والقرى. وتفاجؤوا بانّ الأمكنة تحزن وتبكي. سألوا عن بداية الحضارة والقرى ونهاياتها.

اعتقدوا بأنّ الأزمنة وحدها قادرة على إبعاد الناس عن الأمكنة. اعتقدوا بأنّ الامكنة تدمغ البشر. فهم منها ولها. لكن سرعان ما أدركوا بانّ أناس الجنوب يرحلون. فالجنوب لم يرتَحْ ولا هم ارتاحوا. ما زال قومنا صيادين يتنقلون بحثا عن القوت والامن والاستقرار. فقرروا ان يكتشفوا الكون مع كلبهم. قرروا ان يطيروا على متن مركبتهم.

لم أعرف كيف أبلغهم بانّ الكون فيهم. كيف تبلغ طفلا انّ كلّ ما هو منظور وغير منظور فيه، كيف تبلغهم بانّ داخل الانسان اكوان؟

أبلغتهم انّ من هجروا استوطنتهم الأمكنة هم ايضا. هجروها ولم تهجرهم. شبحا كانت يلاحقهم الى اقاصي المعمورة. يهربون منها وتلاحقهم. وقد أمسى قدرهم ان يكونوا غرباء اين ما حلوا. الأمكنة رصد. الأمكنة شبح.

الحكاية كل الحكاية تبدأ من داخلكم أي اولاد. قلوبك آتون وسماء. اكتشاف الكون لا ينفع شيئا إذا ما كان القلب آتون. لا تنفع الأسفار لمن لا يدرك بأنه في سفر. ثمة مارد في الاقمصة ألا فأدعوه الى الانتفاضة والخروج، فتكتمل حياتك. من يعش لنفسه وفي حب نفسه هو في قمقم، ومن أدرك لذة الخدمة وحلاوة الآخر يكون قد خرج من القمقم الى الإنسانية. لم تنشأ حضارة الا عندما أدرك الفرد أهمية العمل المشترك، فخرج من المغارة والقمم الى المدنية. وها انّ الأوطان تنتهي بعكس ذلك. فتصير الأرض لا تطاق.

القرى وما القرى والمدائن والبلدات يا أولاد إلّا مشروعات. هي بالأساس أحلام وتطلعات جمعت أناسا سوية. أناس ارتبطت برابطة دم ورؤية لموضوعات ومصالح مشتركة. فكانت البيوت والحجارة والأزقّة والقصور ترجمة لكل تلك. امكنة استوطنت الاحلام والآمال في حجارتها. وقصّبها ونسج مسالك حجارتها الألم. فصار لتلك الجماعة تاريخ ومخاوف ونظرة وحتى سقطات وانحرافات مشتركة. وأمسوا يواجهون التحديات ويخشون ان يحدث ما قد حدث ويترجمون ذلك على طريقتهم. عدسة الناس تصنع حاضرهم ومستقبلهم واقتصاداتهم. يتناقلون الآمال والمخاوف، ويطعمون أولادهم مزيجا من كل ذلك.

طبعت البيئة الناس. مسحت الخضرة بعض البشر، وزيّلت الصحاري بعضهم الاخر. طبعت الجبال طبائعهم. تنتهي القرى والجماعات عندما تسقط المشروعات والجماعات. لا ليست المدينة شوارع وحجارة واضواء، ولا القرية بيوتاً. بل هي مسالك حياة وعوائد وتفاعل وجماعات. تعود الناس الى المغاور حين تسقط الجماعات، وينتفي التفاعل وتنتهي المشروعات. لا ليست القرى بيوتاً بل إنها أناس تصون وتصنع البيوت والرؤى والمشروعات. محبة البشر للبشر هي الخروج من المغاور. القمقم يبتلع كل شيء حتى الأشياء. يبتلع المواد والناس والموضوعات. يهجر الناس عندما يدركون بأنهم ما عادوا فاعلين بل مفعولاً بهم. يصبح الاعراب ثقلا كبيرا. الأمكنة تطبع البشر والبشر يزيّلون الأرض عمارات.

  • شارك الخبر