hit counter script

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - مازن ح. عبّود

من أين أنت؟

الأربعاء ١٦ حزيران ٢٠٢١ - 00:00

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

هناك في افياء تلك الازقة المؤدية الى الكنائس ينشأ أناس ويرحل آخرون.  بعضهم يسرقهم النعاس وآخرون تلتهمهم البحار وتقذف بهم الى عوالم جديدة. فكأنّ قدر الناس الرحيل، وقدر الحجارة البقاء. قدر الأمكنة ان تبقى شواهد لأناس وعصور ولحضارة لا يجب ان تزول. تخبر العمارة اخبار البشر. تبقى وتبقى الشمس تبان على حناياها معلنة الساعات لمن يتأمل ويتقن ترجمة حركة الشمس على الحجارة مواقيتا. كانت نظيرة وكانت حركة الشمس على حجارة الازقة والمحال بمثابة ساعة شمسية. ولا لزوم للساعات إذا ما عرفت كيف تقرأ النور اشعة تدغدغ الازقة والعتبات. ويشرف على ذلك برج ساعة لكنيسة. برج ينطح السماء، تجاوره قبب تتلوّن بأصفر النور النازل من الجبال. الذي تظلله زرقة وتواجهها خضرة.  برج يغفو شتاء على ارائك الغيم.

هناك حيث تلتف الشوارع الضيقة، وتأخذك الى التاريخ ثمة سحر غريب وعطر غريب. هناك أحب ان اسير، فألتقط ليرة جدي المعدنية. اشتري بها قناعة تلزمني في هذه الايام. اشتري بها من دكان "خير" قنينة "نجم" للرد ولوح شوكولا "برنس" مكافأة على زوادة حملتها لمئات الأمتار من جدتي.  واني أرى جدي يتوقف عن عمله للحظات. فيتطلع بي ويبتسم ابتسامة رضا ويعطيني قطعة نقود.  فتصغر بيّ الدنيا ولا تعود تتسع لي. 

في دكان جدي عجقة أناس وكلام وسلام واخبار من دوما وكل الجوار. في دكان جدي صورة للشيخ بطرس، علّقت حتى قبل ان اولد، فاتحدت بذلك الحائط المهجور. كي تفهم جدي عليك ان تدرك ثوابته.  وثوابت جدي ايمان وليرة مغطاة بالذهب تمثل بلدا لا يهزم، وعائلة وجنينة تفاح، ورصيد في بنك بيبلوس يعكس جودة عمله، وزعيما لا يتزحزح عن حبه مهما تغيّرت الظروف. 

الليرة انهارت. وجنينة تفاح جدي شاخت ويبست. والبنوك في لبنان فقدوا صورتهم. ومازالت قبعة جدي ونظرته تسكناني، وما زلت اعرّج على تلك الدكانة التي تستلقي على تلك الزاوية. تستلقي وترصد الأيام التي افلتت منها. تغفو اليوم وقد هدأ ذلك الحراك. وانتقل زبائنها وشخصياتها. فتوقف راديو "هنا لندن صوت الإذاعة البريطاني".  وخفت معه كلام جدي خليل أخ جدي في السياسة المحلية والبلدية ومقالب أنطون التي شكلت مواد نقاش.  انتفت مهمتها مع حلول الأحذية الإيطالية وعصر السرعة والاستهلاك. انتهت دكانه وزالت الحرف. ورفاقه مازالوا يضحكون كما قبلا ويتمشون وبعضهم يسند الحيطان. مكتب البرق والبريد صار لوحة ومشلح بو وديع وقبعته هجرتا الازقة. الا ان قهقهات يعقوب واخباره في المكان. مازال يملأ كرسيه على رصيف الأيام وقبالته طربوش سليم ما زال معلقا. في تلك الازقة بعض من النوس. وابرة حنّا ما زالت تحيك للمارة اخبارا ونكات. وعمتي مازالت جالسة على كرسيها تلاحق الشمس. وما زلت أرى "الو" يدعوني، والمعلم شفيق في دكانه يتلو عليّ الاخبار. في الزاوية بوزة وعينا المعلم سمعان الزرقاوين كأنهما المتوسط تدعوانك الى التهام ما قد ينفع. وفوقه "لور" ترصد وتخبر.  عمو بسام العائد من اميركا قابع على كرسيه في تلك القهوة المشرفة على كل شيئ. والمختار صلاح وهره يجولان في المكان، ويوزع التحيات مقبلا المارة. وصوته يصدح: "تقبرني يا قلبي". 

وتطل عليك عدسة كاميرا عمر الصغير الذي يحاول ان يلتقط بعض الجمال.  في الزاوية ملحم الحلاق الذي كنت أخشى ان يقطع اذنيّ مع شعري، مازال عصافيره تصدح في بالي للشمس والجمال. 

تعالوا نسير هنا ونتأمل. فانا أحبّ ان اسير في السوق وازقته يا احبائي. اود ان المح فتا يسير برقفة الأستاذ حنّا ويستمع الى مغامراته وقصصه المكللة بالحب والشمس التي لا تنتهي. سحر الكثيرين ممن أحببت ورحلوا مازال عالقا على الحوائط وعلى الأبواب، ونكهتهم مازالت هنا. 

هنا يا اولادي تفرح وتحزن الأبواب. تفرح بالشمس وتبكي اذ تدرك باننا ما زلنا في حلقة تاريخ لا ينتهي يا صغاري. تودع الأبواب رجالات وتستقبل مغامرات أخرى. وهي في مكانها تقبع وتراقب وترصد، وتتلوّن بفعل الشمس. تعاند الريح وتتلوّن بالمطر.

ثمة امكنة تسمّرت في التاريخ. وهي ترفض ببساطة ان تخرج من ماضيها. وانا اعشقها. اعشق هذا الجمال. اعشق الاصالة. اعشق تاريخي ببساطة. واتمسك بهويتي. احملها في جيبي واطوف بها في الدنيا. واجيب ان سئلت من انت، ومن اين تأتي. فأقول انا ابن القصص والجبال. انا ابن قبلات الشمس التي لوّنت الأمكنة بحمرتها قبلا. ودمغتها بهوية اريد لها ان تكون فريدة. انا ابن بلد لا يسرق لأنه يعيش فيّ وليس انا فيه.  انا ابن الجمال واصالة القمح والزيتون التي جعلتا من المتوسط مهدا لحضارة لا ولن تزول انا ابن الحكايا والقصص والاساطير. انا ابن التفاح والزيتون والقرميد والكروم. انا ابن كل أولئك الناس الذين حملوا في جيناتهم سمات الأرض. فسطروا فيها بنيانا لحضارة لن ولن تزول. 

  • شارك الخبر