hit counter script

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - خريستو المرّ

مسيحيّة مغتربة ومغرّبة؟

الثلاثاء ٦ آب ٢٠١٩ - 06:23

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

"روحُ الرَّبّ علَيَّ، لأنَّهُ مَسَحَني لأُبَشّرَ المَساكينَ، أرسَلَني لأشفيَ المُنكَسِري القُلوبِ، لأُناديَ للمأسورينَ بالإطلاقِ وللعُميِ بالبَصَرِ، وأُرسِلَ المُنسَحِقينَ في الحُرّيَّةِ"(لو 4: 18) بهذه الكلمات التي تنضح بالحرّية أعلن يسوع تدشين مهمّته بين البشر. وقد ذكّر بولس المؤمنين لاحقًا: " دُعيتُمْ للحُرّيَّةِ" (غلاطية 5: 13)، فـ"حَيثُ روحُ الرَّبّ فهناكَ الحُرّيَّةٌ" (2كورنثوس 3: 17). الحرّية هنا هي حرّية من الأسر والانسحاق، وهي حرّية في الروح الذي يحرّر من الخطيئة وينمّي الإنسان في المحبّة. يمكن بالطبع التأمّل بمعان عدّة للحرّية، من الحرّية الداخليّة من الخطيئة، إلى الحرّية من أسر الحرف لأنّ الحرف يقتل أمّا الروح فيحيي، إلخ. ولكن مهما كان من أمر فإنّ يسوع المعلّق على الصليب يوضح لنا وجهَ الله الأصفى، يوضحه محبّة تحترم حرّية الإنسان حتّى الموت.

إنّ المرء يعجب أنّ الكنيسة الرسميّة ليسوع المسيح الذي نطق بكلمات التحرير تلك ومات على الصليب، وقفت مرارًا وتكرارًا عبر التاريخ موقف عداء من الحرّية الإنسانيّة (ولسنا نتكلّم هنا عن "حرّية" الإنسان بأن يعتدي، بل عن حرّية الضمير والتفكير والتعبير) وبأفضل الأحوال نظرت إليها نظرة ريبة لتقف عمليّا موقفا مناهضًا ومكبّلاً لها، تحت غطاء الخوف من "الكبرياء" وضرورة "الطاعة"، إلى آخر الأعذار التي يعرفها المهتمّون بالشأن الكنسيّ.
لكن كنيسة لا تحترم الحرّية الإنسانيّة (طالما هي لا تعتدي على حياة إنسان آخر) هي كنيسة غريبة عن سيّدها لأنّ سيّدها احترم هذه الحرّية؛ لهذا مهما كان موقف المسيحيّات والمسيحيّين وممثّلي الكنيسة الرسميّين من أمرٍ أو آخر فهم ملزمون باحترام حرّية الناس لتبقى الكنيسة كنيسة، فهويّة الكنيسة تنبع من التصاقها بسيّدها الوحيد، وسيّدها قَبِلَ حرّية الناس حتّى عندما انقلبت ضدّه وقتلته؛ فإنّ محبّته انتصرت في النهاية، وبمحبّته وقيامته تنتصر كنيسته قائمةً لأنّ أبواب الجحيم لن تقوى عليها. وقد سار الشهداء الأوائل في الكنيسة مسار يسوع فقبلوا موت الشهادة إن كان لا بدّ منها في الاضطهادات ضدّهم؛ ولنذكر أنّهم استشهدوا عندما اضطُهِدوا وليس عندما اضطَهدوا.
الكنيسة يمكنها أن تستوحي طريقة تصرّفها مع من يديرون لها الظهر من الطريقة التي تصرّف بها يسوع مع من يديرون له ظهرهم. لم يحاكم يسوع هؤلاء بل خاطبهم وخالطهم ولو أنّه واجههم دائما بحقيقتهم. لم يحاكم يسوع الناس، بل أنّ صليب يسوع هو "محاكمة المحاكمة" كما قال القدّيس مكسيموس المعترف. يسوع لا يحاكم بالمعنى الحرفيّ للكلمة، بل أنّ الإنسان هو الذي يحكم على نفسه بنفسه برفضه أو قبوله طريق المحبّة بحرّية، فمحبّة الله هي هي ولكنّها تُعاشُ جحيما عند الذين يرفضونها وفرحا عند من يقبلونها فـ"الحبّ [الإلهيّ] يعمل بطريقتين مختلفتين، فإنّه يصبح عذاباً في الهالكين وفرحاً في المطَوَّبين" كما يقول القدّيس إسحق السرياني.
يعبّر ديونيسيوس الأريبوباغي عن حنان يسوع تجاه من يدير له الظهر قائلاً "أوَ لا يتقرّب يسوع بحبٍّ من الذين يديرون له الظهر، ويحارب معهم، ويناشدهم ألاّ يحتقروا حبّه، وإن لم يقابلوه سوى بالاشمئزاز وبقوا صُمًّا أمام نداءاته، ألا يُصبح هو مُحاميًا لهم؟". يسوع يحامي عن الذين يرفضونه، يتابع مخاطبته لقلوبهم وعقولهم ويبقى مصلوبًا على حرّية الإنسان التي لا قد تسير طريق المحبّة، ولكنّ التي بدونها [الحرّية] لا يمكن للإنسان أن يحبّ فعلاً: إنّ قدرة حرّية الإنسان أن تقول "لا" هو الذي يجعل من قولها "نعم" معنى. هذه الحرّية التي يمكنها أن تقول لا، هي صليبٌ ليسوع، ولهذا يسوع "هو حمل الله المذبوح منذ انشاء العالم"، كما يقول كتاب الرؤيا. من واجب الكنيسة أن تكون بالفعل "جسد" يسوع وامتداده في هذا العالم، فتخاطب القلوب وتحاجج العقول، وقد تقول أنّ شرط تحقيق ملء الحرّية هو في المحبّة كما أنّ شرط تحقيق المحبّة هو في الحرّية، ولكنّها تبقى محامية لمن يرفض يسوع ويرفض ما تقول.
هويّة الكنيسة هي أن تحبّ بمحبّة يسوع لكي تجذب إليه الناس، لا يمكنها أن تكون قاهرة لحرّياتهم في ما له علاقة بما يؤمنون به، وما يعبّرون عنه، وطريقة حياتهم. لها أن تحبّهم دون قهر على حسب قلب الله، فإنّ اللهَ "في محبّته الكبيرة، لم يرد أن يُكرِهَ حرّيتنا، مع أنّ لديه القدرة على ذلك، بل تركنا نأتي إليه بواسطة محبّة قلوبنا فقط"، كما يقول القدّيس اسحق السرياني.
في هذا الإطار، ما علاقة الكنيسة بالدولة بالضبط؟ ينبغي للكنيسة، أن تحترم الحرّية لا أن تدير الدولة، وخاصّة ألاّ تديرها بهدف استعمال وسائل القهر، بهدف الإكراه، وكسر حرّية الضمائر. إن كان من مخالفة لقانون فالدولة هي التي تتدخّل لا الكنيسة. الدولة هي التي تشرّع. وإن كان من تدخّل للكنيسة فهو في حالة القوانين الجائرة (قوانين تكسر حرّية التفكير والتعبير...) عندها يجب للكنيسة أن تعلّي صوتها ضدّ تلك القوانين.
الإيمان يتطلّب الانتباه والسهر. قد يظنّ المسيحيّون أنّه منذ تنصّرت الإمبرطوريّة الرومانيّة مع الامبرطور قسطنطين، اقتحمت الكنيسة ميدان السلطة ومَسْحَنَتْها، عمّدتها، لتكون في خدمة مقاصد الحرّية والمشاركة؛ لكنّ الخوف هو أن تكون السلطة وشهوة السلطة، منذ قسطنطين، قد اقتحمت الكنيسة وروّضتها لخدمة مقاصد السلطة؛ والدليل على صحّة هذا الخوف أنّ الرهبنة، في جانب منها، كانت ردّة فعل تاريخيّة على دهرنة الكنيسة بعد قسطنطين.
مسيحيّة تحترم وتصون الحرّية فيها، وحولها، هي مسيحيّة مخلصة للإنجيل، أمّا المسيحيّة التي تدير ظهرها لدعوة المسيح للحرّية وتدير ظهرها للمحبّة المحاوِرة، فيخشى أن تكون مغتربة عن يسوع، وأيضًا مغتربة عن الناس ومغرِّبة لهم.
عندما تتسأل مطلق أيّ كنيسة لماذا هجرها الشباب، لربّما كان عليها أن تجد الجواب في مرآة الحرّية التي أحبّها يسوع للناس وكان هو عليها، عليها أن تقف أمام تلك المرآة وأن تحدّق فيها... مليًّا.

خريستو المرّ
 

  • شارك الخبر