hit counter script

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - الدكتور نسيم الخوري

كيف نحمي لسان العرب؟ في الطوفان الثاني

الإثنين ٢٢ آذار ٢٠٢١ - 00:00

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

يائسٌ، ما عادت تغريني الكتابة، في حاضر لسان العرب أو مستقبله وقد شغل ربع قرنٍ من عمري. لكنّ تغريدة للشيخ الشاعر محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي (26/12/2020) بأنّ "العمل مستمر لحماية لغتنا..."، أيقظت إهتمامي، لأنّ الإنسان، لسان واللسان كتابة وثقافة وحضارة، قد تكبو لكنّها لا تموت.

كيف للعربيّة أن تصمد في وقت "ترتجف" فيه أقوى اللغات العالميّة وأعتاها؟

هناك تحوّلات لغوية ضخمة أورثها الإعلام، وخصوصاً بعد دخولنا العصر السمعي - البصري، وتركتها ألسنة رموز السلطات الدينية والسياسية (التشريعية، الإجرائية، والقضائيّة)، والقانونيّة (رجال القانون أو المحامون)، والتربويّة التعليميّة (في المدارس والجامعات)، والأدبيّة والشعريّة، بعدما كانوا أهل فصاحة يحمون سلطاتهم ويظهرونها لغوياً فتتماهى بها الأجيال الطريّة بما يحمي اللغة.

لنعترف أوّلاً بإنهيار السلطات اللغوية في وسائل الاعلام. نحن أمام قضايا وتوقعات أخرى أشدّ خطورة، تحتاج إلى مبادرات صعبة في مستقبل اللغات والحضارات البشرية، لا لغة العرب وحسب، حيث تتحوّل اللغات أدوات تعبير لا تفكير. وصلت إلى مرحلة تهديدي من قبل بعض الزملاء، أستاذاً ومديراً لكليّة الإعلام والتوثيق فقط، لأنّني حاولت فرض المحاضرات والنقاشات الأكاديمية بالفصحى. سقط الربط الوثيق بين الحضارة والكتابة، إذ لا يمكن اعتبار الشفويّة نقيصةً شرّاً والكتابة خيراً وقداسةً، ولو كانت العربيّة مقدّسة.

إنّ النظر بعين الرضى إلى حال الفصحى ومحكيّاتها الباقية في وسائل الاعلام غير صحيحة حيال انهيارات اللغة. بات السؤال حول مدى قيمة البحث وصلاحيّته ونتائجه في عالم يسرِّع الخطى في سلسلة متراصّة من المتغيّرات والانهيارات التي يخلّفها عصر العولمة في "حضاراته" وتقنيّاته المتواترة.

ألا يبدو الإنسان المعاصر اليوم جسداً رقمياً وكأنّه بلا أعضاء؟ الأجساد مختصرة بعيونٍ عالميّة مريضة ومقيمة في الشاشات وتعمل بشكلٍ أقوى بكثيرٍ من الآذان، وتتقدّم عليها في تلاقي الثقافات المكتوبة والشفهيّة، فتترسّخ الأصوات كتابة كما تلفظ، ولهذا تتحرّك اللغات وفيها العربيّة في مساحات حرّة بل لزجة ورخوة تنحلّ بماء الحريّة في الكلام فتتحوّل:

1- من المعتقدات إلى المعلومات، مروراً بالمعرفة، فتتشابه الكتابة المقدسة بالمعلومات والأخبار في سلطاتها الفوريّة ووقعها على الناس وزوالها السريع. إنّها معلومات لا تقبل الدحض، أو لا تسمح به، سواء أكانت نصوصاً مقدسة أم "إلكترونية" لأنها متدفّقة من بنوك المعلومات. وصارت تُسقِطْ الشكوك عندما يدعم أحدُهم رأياً له قاطعاً بما رآه على الشاشة، بعدما كانت حججه الإقناعية، في مراحل سابقة، مبنيّةً على قراءاته المكتوبة حتى الصحافيّة منها، وكان قبل ذلك، ربّما، يدعمها بالنصوص الإعجازية.

2- من سلطات الأسطورة Mithos الميثوس، إلى سلطات الصورة Imagos، مروراً بالكلمة والعقلLogos  إبتَكَرْتُ مصطلح "الإيماغوس" بالعربيّة، إذ لم أقع عليه بالأجنبيّة، تعبيراً عن تلك السلطة التي ترسخ البصر في أعقاب القراءة، أو ترفع الثقافة البصرية عنواناً صالحاً للقرون المقبلة، مع ما يعنيه ذلك من مجانبة اللغة وإهمالها أمام تعزيز الإتصالات الإلكترونية بواسطة الشاشات المتشظية والمتعدّدة والمتنوّعة في وظائفها الاتصالية.

لا تموت الكتابة. صحيح، لكنّها ستستمرّ، ربّما، خاضعةً للسيطرة الشفوية، أو أنّها تبقى ثقافة الشاشات تتقدّم على الكتاب. إنّني أرى، خلافاً لقراءات كثيرة، في موت الكتابة، أنّها في نموّ مضاعَف بفضل الرقميّة و"الانترنت"، لكنّه نموّ يترك نصوصاً فائقة بحروف متحركة سواء في البريد الالكتروني والكومبيوتر الشخصي، والهاتف النقّال، وكلُّها قد تعيد القيمة إلى الكلمة المكتوبة، لكنّ العصر هو عصر استدعاء نصوص مدروسة، محسوبة كلماتها بدقة، وليس عصر بلاغةٍ وتراث نقي يحفظ الذاكرة البشرية.

ما رأيكم بـ "الإيماغوس" تماشياً باللفظ مع "الميثوس" و"اللوغوس"، أليس هو التجسيد اللغوي لهذا التحوّل النرجسي للإنسان المعاصر نحو الصورة، أو إحياءً لما باشرته البشرية في تاريخها القديم منذ بدايات الكتابة مع الهيروغليفيّة في مصر، والمسماريّة في ما بين النهرين التي شقّت الطرقات نحو الرموز والتدوين؟

ينتقل الإنسان اليوم، في التركيز على الصورة، من المواطنيّة إلى العالميّة، فلا يعود مواطناً بل مستهلكاً مثل كل المستهلكين في الدنيا، "خاضعاً" لسلطات (الصورة) السريعة في بحور الصور الجذابة والديمقراطية، تتساوى فيه الأجناس والثقافات والبلدان، لأنّها ليست فوقيّة، ولا تفترض تعلّماً ضخماً أو براعةً تقنيّة. يخرج الإنسان بلغته عفويّاً إذن، من القوانين والمنظومات المحدودة إلى المنظومة العالمية حيث "المشاعية" في المعرفة وثقافة الصدفة وتجلّيات القفز المشتّت من فكرة لأخرى بهدف الرأي الحر سمة العصر. يتقدم الجسد بذلك موضوع فلسفة محوريّة على أنقاض الفكر والروح (البيئة، التلوث، التغذية، الطمأنينية...)، كما تتقدّم النجوميّة السريعة الجاهزة على المفكّرين والأبطال والقدّيسين.

لا تنفصل هذه التحرّكات أو تحوّلات الإنسان، إلا منهجياً، لتعلن سقوط السلطة الرابعة والسلطات الأخرى في مصلحة الشاشة، فتجعلها كلَّها، "السلطة الأولى" المشوّهة، فتستعير قوّتها من تضافر تقنيات وسائل الاعلام المتعددة بهدف تحقيق الصورة القوية لمن "يزرع الكلام"، فيتحوّل الإنتباه العالمي إلى الطوفان الثاني الذي يغمر البشريّة بالمعلومات والصور واللغات المشلّعة.

*كاتب وأستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه

  • شارك الخبر