hit counter script

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - الدكتور نسيم الخوري

عندما نَغطّ الريشة في رماد المذود المقدّس

الإثنين ١١ كانون الثاني ٢٠٢١ - 00:01

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

لم يولد الناصري بالأمس طفلاً في مغارة مضيئة وشجرة باسقة مزينة في زوايا القصور والبيوت والهدايا. ولِدَ في مذود تكفّلت عيون الحيوانات الأليفة بالإنارة، وأنفاسها بإشاعة الدفء. كان ذلك في بيت لحمٍ منذ 2020 سنة. تلقّف المؤمنون من بعد رسالته تشييد الكنائس بقببها المذهّبة وأعمدتها الرخاميّة الشامخة نحو السماء، دامغين الأمكنة بتعظيم السلطات لا البساطة وتشريط الناس بمظاهر القوّة والخوف تكريساً للإنحناء أمام المؤآلفة بين الديني والإنساني.

صار مشهد الكاثوليك حجّاجاً أبديين نحو مغارة "سانت لورد"، وخرج البروتستانت من الأمكنة  كلّها للتكوّم في المكان السياسي أعني"مقبرة غيتسبرغ"، طامحين لتخيّلها بمساحة الأرض. ورحنا نصفّق للمحاربين القدامى بثيابهم الزاهية ونياشينهم وشعاراتهم، وهم يتهادون متثاقلين تحت أقواس النصر وأمام شعلات الجنود المجهولين الملتهبة منذ الحربين العالميتين، اللتين أورثتانا 23 مليون قتيل في عبثية لم ولن نبرّر أسبابها ونتائجها وجدواها، خصوصاً في تجدّدها المتواصل لا في الجراثيم المتناسلة، بل في الأدمغة المجبولة بجراثيم الإفناء المتبادل.

وصرنا نتلهّف لبقايا السوفيات في حنينهم لأن يقوم لينين من مكانه. ونسينا أن الأمكنة المقدّسة في العالم تنتظر السواح في الباصات وفي الطوابير الطويلة الشاقّة، تدمج السياسة بالدين والحداثة بعظمة القياصرة المنقوشة في الساحات لا في الذاكرات. وصرنا نشارك المؤمنين في الكعبة أو الحجر الأسود المكعّب الملفوف بقماشٍ أسود مطرّز وقد نزل من السماء بارتفاع 15 متراً على مكّة، بكونِهِ المكان الموسوم بمنحة الطوفان السماوي. يطوف الحجّاج المسلمون ساعين في المكان والأرض مسلّمين أمورهم لله حيث يزهو المكان أينما كان عندما يفلش المؤمن سجادته متوجّهاً نحو القبلة، فيركع للصلاة التي تمحو أمكنة الأرض لتنحصر في المكان المتخيّل.

وهنا سؤآلان:

أيتذكّر التكفيريّون مثلاً في ابتعادهم عن روح الدين الإسلامي أنّ الشجرة الوراثية أثبتت أنّنا ننزلق جميعاً من رحمٍ وحداني واحد؟

أيصدّق هؤلاء أن القبطيات في مصر كنّ يمتشقن الإبر تظريزاً للثوب الأسود الجميل يُلَفّ به الحجر الأسود؟ هي عظمة الإرتقاء التاريخي بين تشابه الأمكنة وتوحدها من حولنا.

أسحَب هذا النص الطريّ من خضرة عشبةٍ بورقتين طلعت في رماد المذود البارد لميلاد المخلّص. العيون والأيدي إلى فوق بحثاً عن مكانٍ بين أمكنة سلاطين السياسات والأديان ونجوم السماء. المؤمنون البسطاء كتل تتحاشر في الأمكنة التي كانت مهجورة بالأمس، بحثاً عن تفاهم وتقارب وعدالة بالمعنى الديني، ولو بقي ملطّخاً بالسياسي. معظمهم يلمسون صخرةّ أو ضريحاً ويمارسون طقوساً وأناشيد، ويقبّلون صوراً، ويقهرون صقيع العصور في التلاحم الإجتماعي ليطردوا الظلم والقهر بين كلمةٍ وأخرى وكائنٍ وآخر.

عندما تتلاحم رئات المؤمنين وأنفاسهم ونظراتهم وحركات أجسادهم للصلاة، يخرجون من فردانيتهم وسجونهم الذاتية ويرتمون فوق الأمكنة النقيّة الواسعة. وإذ يسود الصمت الأبلغ وتدليس الوجوه بالأكف، ترتفع الإنسانية المتوحّشة فتبدو مطرّزةً بالفقراء والبؤساء والمعذّبين والمكسورين والمشرّدين في الأرض.

تتعاظم الأمكنة المشتتة أحياناً في مطّ مساحاتها لضروات الحضارات المعاصرة المضنية، فتصبح ناطحات وسلالم نحو السحاب، وقبباً عالية مذهّبة بعيدة من تحت إلى فوق، تتكلم وتخاطب وتوعظ. ولا بدّ للناظر البائس من أن يخفّف من عظمتها بإسناد الظهر مجدّداً إلى القصور المزروعة في مدى العيون، تمجّد السلطات الآتية من داخل سواء أكانت حكّاماً أو رموزاً ثابتةً فوق أحجارٍ مصقولة شاهقة.

يحضر الفرعون شاباً مجدّداً وقلبه على مجد الإهرامات التي تتجاوز رحمها التاريخي، ويلمع الإمبراطور الصيني  العتيق قارة زاحفة لتبلع الأرض بفنونها وكوفيدها ال19 وال20 وال21 ؟، ويخرج الأمراء والحكّام نحو القبب، فنجد المشهد أمامنا. الأسطورة المتجدّدة تخبرنا من أنّ الشجرة الأولى كانت تظلّل تنيناً عند جذعها الكبير الهائل، بينما كان عصفور السعادة يضع بيضة الحياة فوق غصنها الأعلى.

هذه البيضة القديمة المقدّسة المطلّة على الدنيا، تشابه اليوم اليمامة الغبراء التي لا تترك ذكرها، بل تدور وتنوح، ثمّ ترقد في عشّها فوق القبة تستظلّ أعلام الدول في ناطحات السحاب في أوروبا وأميركا، التي لا يمكن وصول الناس إلى تحت قببها إلاّ بالمصاعد الإكسبرس الهائلة السرعة. لا تشابه بتقديري، إلاّ تلك النجمة الصباحيّة التي يضعها المسيحيون فوق الغصن الأعلى لشجرة الميلاد في زوايا بيوتهم ووسط ساحات مدنهم، تذكيراً بالنجمة التي أمسكت بأيدي التلاميذ الساعين نحو المذود.

تلك "الحضارة" الخارجة من المذود وصلت عبر التعالي الى السقوط، حيث بات البشر يتبادلون الشتائم، ويكتبون فوق المذود والأماكن المقدّسة ورموزها ما شاءت غرائزهم. يصرخون ويحرقون الأعلام والصور في الساحات بغسم الحريّة التي تحطّم حتّى الآن الفضائل العالية على دروب التوحّد والتوحيد.

  • شارك الخبر