hit counter script
شريط الأحداث

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - جورج عبيد

سندحرج الحجر عن باب القبر

الأحد ١٧ كانون الثاني ٢٠٢١ - 16:06

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

نحمل أكفاننا من زاوية إلى أخرى، وكأنّنا ننتظر دورنا في السقوط. سادني هذا الشعور وأنا أودّع أحباء لي من دون وداع. كانت كلماتي الرفيقة لهم والصلاة الطالعة من القبر، ودموعي محطّ رجاء، ذلك أنّ من ذاق الرجاء وعاشه لا يتعثّر ويحاول أن يسمّر أنظاره على أيقونة الضابط الكلّ وهو عينه المعلّق على الخشبة والقائم من بين الأموات ويرجو لأن من وطئ الموت بالموت قادر بموته وقيامته المدويّة فينا أن يطئ موتنا وينقذنا من هذا الجحيم، ويرفعنا إلى الضياء.
سنشفى وسندحرج الحجر. هذا عهد مقطوع لنا من وجه يتوهّج كلّه نورًا. تعلّمنا منه أنّ الوهج وجه، والترابية تتكسّر امامه. أنظروا إليه، سيمر في العاصفة سيلامسكم ويحولها إلى نسيم عليل ولطيف، إن وضعتم قلوبكم في قلبه ولم تقسّوها بعد الآن، وفهمتم أن خرابكم نابع من صلفكم وبطركم وسكركم بالمجد بالباطل وانهماككم بعداوات لا طائل منها.
هلاّ تعمقتم قليلاً وتفرستم من أعماق قلوبكم بمن رحل عنّا بسبب فيروس غير منظور، كرسح العالم وأبطل الحياة فيه وغيّر المعطيات والمحتويات فيه ويقودنا رغمًا عنّا إلى حقبة جديدة نابعة من تكوين جديد لنظام جديد مختلف؟ لست بواعظ لكم بل أنا واحد ممن اكتووا بغياب الأحبّة ويعيش مثلكم الحجر في البيوت مخافة من أن يطاله الكوفيد كما طال آخرين.
ماذا ينفعنا إن ربحنا الأموال الطائلة وخسرنا أنفسنا بأحقادنا. رجال أعمال وأثرياء كبار أعرفهم جيّدًا أصيبوا بالفيروس اكتشفوا كم أن الثراء الفاحش تافه أمامه. أحدهم قال لي رأيت الموت أمامي، لكنّني اكتشفت كم أنني غبيّ. المال الذي امتلكته ساعدني بحدود في العلاج في إيجاد غرفة وسرير، لكن حين بدأت الأوجاع تعصف بكل ناحية من نواحي جسمي، فهمت أنّ دور المال في التغطية انتهى هنا، انتهى عند حدود الأوجاع والآلام الموت ولا يملك القدرة على إعادتي إلى الحياة لو ادّى بي الوضع إلى الموت وأنا رأيته أمامي. تعلمت من مرضي بأنّ الارتباط بهذا العالم باطل، وهذا العالم لن تأخذه معك، بل ستأخذ معك فقط قلبك. وعندما سألته ما الذي ستفعله؟ أجابني سأعيد النظر وقد بدأت بكل ثوابتي في الحياة. لقد كتب لي الله عمرًا جديدًا لكي أقرأ نفسي من جديد وأنفض عنها غبار المجد الباطل. سأعود إلى نفسي ومنها إلى ربي، بل سأضع ربي في قلبي وأستلهمه في كل عمل صالح من الآن فصاعدًا، وخين نستعيد أموالنا من المصارف سأوقف الكثير منها لمؤسسة تعنى بالاهتمام بكبار السنّ والأيتام.
كلام كهذا من صديق عزيز، وفي زمن صعب للغاية، مليء بالتوبة الحقيقيّة. علمًا أنه لم يكن على الإطلاق سيّئًا بل خيّرًا ومعطاء بكرم كثيف، وحين كان يتبرّع للكنائس كان يرفض الشكر من المعنيين بل يعيده إلى الرب ومع ذلك رأى نفسه بعد إصابته مقيمًا في التوبة أكثر، وقرّر أن يعيش إيمانه وحياته كأنه ولد من جديد.
كلّ منّا مدعوّ للولادة من جديد من رحم الأحزان والأوجاع والتأوهات. هذا الوباء لم يميّز بين غنيّ وفقير، بين مؤمن وملحد، بين حزب وآخر، بين حاكم ومحكوم، بين مسيحيّ ومسلم، بين المتحاربين، بين المحبين والكارهين، بين إعرابيّ وأعجميّ. لقد حفر للجميع لحدًا واحدًا، وفتح لمن لم يلاق حتفه أبواب المستشفيات وجلّها لم تعد قادرة على احتواء جميع المصابين. الفيروس فتك بالجميع من دون هوادة ورحمة.
دول كبرى اقتحمها، وهاجمها بضراوة فكسر وهجها، وحطّم واجهاتها، وكرسح اقتصادياتها، وجمّد الحياة في رحابها. دول وصّفت عظمى غدت خالية من صوت، دول أخرى لم تعد بموجودة. هذا فيروس الموت، أو إله الموت، يهاجمنا ويقضّ مضاجعنا، يرعبنا ويصيبنا فيقتلنا، إنه وجد لضرب البشريّة وتقليص منسوبها، وتذويب الإنسانية في ثناياها. الهزّة كيانيّة والارتجاج وجوديّ، والمعطى الحقيقيّ أننا قد نكون أمام تكوين إنسانيّ جديد، كما اقتصادي وسياسيّ جديد.
ما يعنينا نحن أن يكون تكويننا الروحيّ مؤسّسًا لتكويننا الإنسانيّ. ترى هل بدأ الإنسان في لحظات الاحتدام الوجوديّ يشعر بأنّ فقدنا الله في حياتنا؟ قبل الكوفيد مجّد الإنسان ذاته ونسي الله، نسي أنه بكلمته يحيا ويرتزق. هل فهمنا بأنّ كبرياءنا عزّز البون الكبير بين الفقراء والأغنياء؟ هل لاحظنا بأن أعراسنا وحفلاتنا قبل الكوفيد تحولت إلى مظاهر فاحشة، هلاّ انتبهنا بأن المآدب الفاخرة خلال الأعياد المصوّرة على وسائل التواصل الاجتماعيّ حتى في لحظات الكوفيد جرحت كثيرًا كلّ من لم يستطع تناول لقمة خبز خلال العيد؟ هذا البذخ والانتفاخ لا يعبّر عن محبّة وكرم، بل عن سخافة وتفاهة وكبرياء، ماذا فعلنا بأنفسنا؟ نعم استكبرنا فسقطنا، مجّدنا أنفسنا فأتى وباء وسحقنا ونسينا كلام السيد المبارك لنا: "من اتضع ارتفع ومن ارتفع اتضع". ماذا فعلنا بأنفسنا؟ هل فهمنا ما معنى الإحسان والتعاطف والتعاضد؟هل اتّبعنا الوصيّة العظمى التي سلمنا إياها الرب ليلة آلامه وموته في خطبة العهد، حين أوصانا قائلاً "أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم"؟ هل كنّا أمناء بالفعل على المحبة المجانيّة الكاملة فيما بيننا؟
هذا الوباء ليس مدى للوجع والخوف، بل للتأمّل العميق بفتكه وبالمعاني المكنونة في أبعاد الفتك وحركته. فقلّما أضيمت الإنسانية بتاريخها الحديث بفيروس مبيد لها ومحطّم لموجوديّتها، وكنّا قبل حلوله معتديًا وقاهرًا، قد تصحّرت أخلاقنا وتصخّرت قلوبنا وفترت محبتنا، وانقطع الواحد عن آلآخر وأغلق دونه الأبواب. آن الوقت لنسمح للوباء بأن يعيدنا إلى التراحم والتسالم، بأن يذكّرنا ونحن في حجرنا في بيوتنا "بأنّ الأنا مقيت"، ونحن غير خارقين، بل نحن خطأة نستوجب عقابًا يكسر رؤوسنا، لأننا فقدنا قيمنا وأخلاقنا، ونسينا أننا تراب نحن وأيامنا كالعشب من بعد أن أفنيناها بالباطل.
شخص كريم كان قد شغل مركزًا مرموقًا اتصل بصديق حميم له وهو مثقف كبير، يعيش في وضع ماليّ سيّء قال له آن الوقت لنكون معًا، أنا أعرف وضعك، وأعرف أنك في فاقة وألم، لكنّ اللقمة التي آكلها اسمح لي بأن اتقاسمها معك، المسألة ليست في الكبرياء بل في المحبة. هذا الرجل قال المحبّة لصديقه، منحها بالحبّ والكرم. هذا عينًا تمّ أيضًا بين رجل ثريّ وصديق له، رفض صديقه التقدمة قائلاً له أنا غير محتاج الآن، علا صوت الثريّ قائلاً له يا رجل أنّا أعلم معاناتك فاصمت قليلاً، لو أنا كنت مكانك وأنت مكاني فهل تتركني في وجعي؟ المحبّة تعلو على الأوجاع وتغلبها.
ليس مجتمعنا سيّء بل فيه أناس خيّرون وطيبون، متعاطفون ومتلاقون مع الجميع، يجسّدون وصيّة السيد كنت جائعًا فأطعمتموني، وعطشانًا فسقيتموني، ومريضًا فعدتموني، ومحبوسًا فزرتموني. فأجابه هؤلاء متى رأيناك جائعًا فأطعمناك، وعطشان فسقيناك، ومريضًا معدناك ومحبوسًا فزرناك؟ فأجابهم لأنكم فعلتم هذا بإخوتي الصغار". المسيح يتماهى بأذلاّء الكون، بأذلاّء لبنان، المسيح رافض لبطر الكثيرين منّا، ومحطّم لكبريائنا.... وفي هذا الوباء المسيح متواجد فينا جميعًا ليرفع المؤمنين به من الخوف والاضطراب والألم... نعم سيدحرج الحجر عن باب القبر وسندحرجه بدورنا معه بقوّة المحبة والقيامة التي سكبها ويسكبها فينا.
لن نتحرّر من أوبئتنا مهما أتوا باللقاح إلاّ باستعادتنا للمحبة لإيماننا. لا يعني هذا بأن الله مضرّ بشعبه، هذا الوباء من صنع القتلة والأشرار، أي من صنع بشر يريدون إفناء سواهم ابتغاء السيطرة. الغلبة النفسية تبدأ بأن نضع الله في قلوبنا أو أن نبيت في قلبه ونحن في هذا الواقع، وبعد ذلك لن نخسر شيئًا فعصاه وعكازه تعزياننا حتى ندحرج الحجر معه وينفجر النور وننتصر على إله الموت بإله الظفر والمحبة والحياة.
ألا منحنا نعمة النصر بالحب والسلام والتعاضد لنستحقّ الشفاء، والشفاء نعمة من نعم قيامته فينا ومحبته لنا.

  • شارك الخبر