hit counter script

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - جورج عبيد

ذبيحة الصليب في زمن الكورونا

الأحد ٢٢ آذار ٢٠٢٠ - 12:28

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

يا سيّد هذا أوان توبة والصليب يشدّنا في منتصف الصيام ليذكّرنا "أنّك العطاء وأنت المحبّة وأنت البيادر في كلّ حبّة"، وأنت الجمال والخير والحقّ، تشدّنا في بهائك وغزارة رحمتك لنذوب فيك كما أنت ذبت حبًّا بنا ونبقى معك كما أنت معنا، فالأزمنة شريرة ولا تقهر وتزهق إلاّ بحبّنا لك وإيماننا بك.

أعنّا أيها المصلوب على خطايانا لكي نحمل صلباننا بصليبك الكريم بل نجعلها ذبائح ناطقة متطلّعة نحو قيامتك المحيية ونصرك المبين. ما يوجع أنهم أغلقوا الكنائس لكي لا يفترسنا المرض ويرمينا وجع العدم في جحيمه، ونحن لسنا قوم العدم بل قوم القيامة. المصلوبية طريقنا إلى قيامتك فينا وقيامتنا فيك. إنّها القيامة الواحدة المحقّقة بالحبّ العظيم الذي شئته لنا.

كان لا بدّ من طاعة لدولة تحملنا نحو العافية الجسديّة، وتريدنا معها أن ننتصر على فيروس صنّع لموتنا وإبادتنا. هذا لا بدّ منه لسلامتنا وسلامنا. قد يكون ذلك من أقسى ما نعانيه في حياتنا الإنسانيّة والوطنيّة، بل في الكون كلّه. الكون كلّه ابتلعه الزمن الشرير بأقصى معالمه فتساوى البشر بين بعضهم وتوحّدوا في الخوف من وباء غير منظور أو يكاد يرى بالمكبر، وتساووا وتوحّدوا في المسعى الآيل للقضاء عليه والانتهاء منه. هلاّ أخذنا عبرًا، وفهمنا أنّ الوحدة في الخوف تحفزّنا نحو الوحدة في الحياة في المحبّة والسلام والحقّ؟ 

إنّه العالم المقفر والمجدب بوباء تحوّل إلى صليب عنيف وقاس. قد يسوغ لنا القول بأنّها الوحدة المجدبة والمقفرة والمغلقة على طاقات النور. في الأصل كلّ الأوبئة والأمراض حاجبة للنور فينا. دورها أن تمنعنا من التقاطه لأنها تعرف أنّ جانبًا منه حارق لها، والجانب الآخر يقصي الرؤية ويبيح لليل بمكنوناته المخيفة اجتياحنا واقتيادنا إلى مثاويه ومقابره. نحن في حرب مع هذا "الصليب العبثيّ والشرير" عينًا، إنها الحرب الكونيّة المطلقة والتي لا تضاهيها حرب أخرى عسكريّة واقتصاديّة، وليست الدعوة مطلقة للاستكانة والاستسلام له والتسليم بمشيئته أو مشيئة مطلقيه ومفبركيه أو الصامتين عنهم.  فالعالم بات في ضيق خانق وقاتل، والقياميون دومًا في حرب مع الضيق، أي مع الشرير الذي فرضه علينا.

في أحد السجود للصليب، كان يفترض يا سيد الحبّ أن نحمل صليبك ونطوف به في الكنيسة خلال القداس الإلهيّ، ونرفعك في قلوبنا وفورق رؤوسنا داعين أن تخلص شعبك وتبارك ميراثك وتمنح المؤمنين الغلبة على الشرير وتحفظ بقوّة صليبك جميع المختصين بك. هلاّ سمعتنا اليوم بهمسات قلوبنا ونجاوى أفواهنا نحن الملتجئين إليك إلى غنى وغزارة رحمتك ليكون لنا منك شفاء؟ لصليبك يا سيدنا نسجد ولقيامتك نسبّح ونمجّد. هلاّ سمحت أن نحمل صليب القيامة بوجه صليب الفيروس القاتل، وبوجه شرورنا كلّها لنقهرها بسلامك ونصرك؟

ذبيحة الصليب لم نرَها كما تعودنا مزدانة بالرياحين والورود، ومحاطة بشموع ثلاث مضيئة تعبّر عن نور الثالوث الأقدس الدائم المبذولية بلغة المحبة، وقد أمست على الخشبة وفوق الجلجلة دمًا مهراقًا لأجل خطايانا. نحن في غرابة واستغراب وغربة في الشكل الطقوسيّ الرائع والجميل، ولكن ليس في المضمون الممدود فينا إلى المنتهى والمتطلّع إلى الفردوس لنكون مواطنيه إلى جانبك أيها السيد المحبّ البشر.

لم نر تلك الذبيحة ملموسة في التطواف، ولكنّنا يا حبيب، نحملها ونطوف بها العالم المقفر والمقفل والمجدب بصحراء الموت بالدعاء، لكي نقهر صليبًا غير منظور فرضه علينا أعداؤك وأعداؤنا. كلّ مسيرتك كانت مواجهة لأمراض الناس وموتهم. هكذا رأيناك تطوف من فلسطين إلى بحيرة طبريا أي على حدود العربيّة وهي حوران، إلى الجليل الأعلى وهو على حدود الجولان، وصولاً إلى صور وصيدا. أخذت "المشرق القديم" كلّه بحركتك وشفيت جراحه وضممته إلى قلبك، وجعلته جسدك، وسلمته وديعتك، حتى علّقت على خشبة، وغسلته بدمك، لتجعل قيامتك قيامة له. لا يتصوّر امرؤ، أنك تشاء فناء العالم وموت الجبلة البشريّة. الفكر العدميّ-العبثيّ، خلوّنا الكامل من الفهم الدقيق بأنك وأبوك السماويّ واحد، وهو معطي الحياة. 

نحمل من بيوتنا ذبيحة الصليب في أفئدتنا وأفكارنا وعقولنا وفي ثقافتنا، لنتذكّر بأن الله لا يميت بل ينبوع الحياة. أنت الوحيد يا يسوع الذي متّ عنّا حتى لا نموت. وإن جاز علينا هذا الليل، فالجسد يعود مؤقّتًا إلى التراب لأنك ستعيد بعثه من جديد. المحبة مصدر الانبعاث في محطتّه الأولى، وهي رحمه في محطته الأخيرة. نحن لم نأت من التراب لنعود إليه، نحن من الله ولدنا وإليه نعود، وهو مصدر النهضات والوثبات الثقافيّة التي جعلت الأدب والفنون والشعر والرسوم على بهاء كثيف ورقيّ عظيم.

لو لم تكن الحياة المبثوثة من الصليب والقبر لكان العالم عندها مات ولسنا منتظرين مآلف من الغرب المتوحّش تبيح موته ونهاية التاريخ. ما قيمتنا نحن لم تكن أنت الكمال فينا، وما قيمتك أنت لو تعطنا القيامة وتذكرنا بأننا لم نخلق للأوبئة والموت. ما قيمة أبيك السماويّ إذا كان هذفه إنهاءنا بواسطة الأمراض والأوبئة، ألا ينتهي ويموت بموتنا؟ هذه شهوة الأشرار أن يموت بموتنا وتموت أنت بالذات بموتنا ليكون عندهم ولهم عالم آخر يستبدون به بكلّ دبيب في هذه الدنيا.

آن لنا أن نفهم تلك الفلسفة من وحي ذبيحة الصليب ومن وحي استبداد هذا الفيروس بالكون. وهي تنطلق من سؤال واحد: ما معنى وجودنا في هذه الحياة ولماذا خلقنا الله؟ هل خلقنا لنموت أو نحيا؟ المسلّمة الجوهريّة في سرّ الخلق اننا وجدنا من مشيئة لحم ودم، أي تخالط رجل وامرأة، ولكننا وجدنا بفعل عمل الله في طبيعة التخالط، وبالتحديد أيضًا أوجدنا الله من العدم أي اللاشيء، فإذا سلمنا بأن هذا اللاشيء أوجدنا منه الله، فهل يوجدنا لينهينا بهذا اللاشيء عينه الذي اسمه العدم؟ لو شاء إنهاءنا بهذا العدم فلم إذًا أوجدنا، هل ليستلذّ بحروبنا وأمراضنا واجتياح الأوبئة لحياتنا، هل هو ساديّ لهذه الدرجة؟ هل هو متصارع مع نفسه بصراع جهالاتنا تحت ستار حروب حضاراتنا، وإذا ما تصارع مع نفسه بها، ألا يتمزّق، وإذا ما تمزّق ألا يموت؟ وبالأحرى ألا يموت بموت كلّ واحد منّا لو تكن فينا القيامة؟ ما نفع وجوده هو إذا مات بموتنا، وما نفع وجوده لو لم يرسل ابنه ليموت عنّا؟

لم ينهِ موت الابن على الصليب الصراع بين الله والشرير بكلّ الأشرار الذين يحاولون فرض أنظمتهم على البشر واستمرار قتله بنا وفينا، ولكنّه أعطانا أن نميّز بين الخيّر المتوشّح به والشرير المؤثر قتل صورته بكل المؤمنين به. مسيرتنا في هذا الجهاد ضدّ الفيروس وفي زمن الصوم ونحن في انتصافه، أن نقهر الفيروس القاتل، ونقهر كل خطيئة فينا، ونقهر الأشرار المحيطين بنا. مسيرتنا بمعانيها ان نجعل من ذبيحة الصليب ذبيحة تسبيح وتقديس لحياتنا. فيا سيدي، لا تسمح لهذا الفيروس أن يطيل إقامته فيما بيننا، أفِض بهذه الذبيحة الحيّة والحقيقيّة سلامك فينا وشفاءك لنا وامنحنا بها خلاصنا. لا تحرمنا من تناول جسدك الكريم فهو مسرى حياة لنا وعتق من خطايانا وشرورنا. قدنا إلى العافية والخلاص، وكن مع الطاقم الطبيّ والتمريضي المبذولين في مواجهة الكورونا فيروس في لبنان والعالم كلّه، ومعظمهم تركوا عائلاتهم وأهاليهم ليعطوا من قلوبهم ويواجهوه، اسكن في عقولهم وقلوبهم لينحروه ويقتلوه إلى غير رجعة حتى نبرأ منه. لا تجعلنا أسرى منازلنا طويلاً، وفي لحظات الأسر والحجر كن حاضنًا لنا، وحّد أسرنا وعائلاتنا، أوقف بحقّك وحنانك الخلافات والصراعات الزوجيّة والعائليّة لتعود العائلات نابضة بوحدانية المحبّة ورباط السلام، أرجوك ربّي أوقف كل خلاف لنعود جميعنا إلى سلامك فينا، وتتأمن لنا العافية في هذا الزمن الرديء.

ليكن صليبك بآلامك حياة لنا، فعليك ألقي أدب سلامتنا... بآلامك ربّي ننجو من الآلام، فأعطنا أن ننجو منها، ونقبل إلى أسبوع آلامك وهو الأسبوع العظيم معافين بحضورك فينا لنسجد من جديد لصليبك المحيي ونتبعك من الجلجلة إلى القبر... إلى أن نراه، وبعد ثلاثة أيّام فارغًا. هذا وعد. هذا رجاء.

  • شارك الخبر