hit counter script

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - العميد المتقاعد دانيال الحداد

الطبيعة تُصلِحُ نفسها

الخميس ١٣ أيار ٢٠٢١ - 00:00

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

بمعزل عن الظروف السياسية والأيديولوجية والديموغرافية التي كان لها ولا يزال، تأثيرها البالغ في تغيير موقع لبنان ودوره، وفق التشبيه القديم لهذا الوطن بأنه سويسرا الشرق، لا يمكننا أن ندفن رؤوسنا كالنعامة تحت الرمال ونتغاضى عن أخطاء بل خطايا ارتكبناها بأنفسنا، أو على الأقل أشحنا النظر عنها، بفعل المكتسبات السخيّة التي حصلنا عليها طوال العقود الثلاثة الماضية، من مال يعود بمعظمه، بشكل مباشر أو غير مباشر إلى مغتربين، وضعوا جنى أعمارهم في المصارف اللبنانية بحافز الفوائد المغرية التي لم يحظوا بها في أيّ بلدٍ آخر.
طوال ثلاثة عقود، اعتاد الشعب اللبناني على الاقتصاد الريعي - الاستهلاكي، القائم على تثبيت سعر صرف الليرة اصطناعياً مقابل الإستدانة بالعملات الصعبة وبفوائد فاحشة، إلى جانب إغراق الدولة بجيوش الموظفين وتوزيع المنافع والخدمات الشعبوية على الجماعات المختلفة، عبر الصناديق والمجالس والهيئات والجمعيات... هذا بالإضافة إلى إستشراء الهدر والفساد في معظم مرافق الدولة بسبب التغطية السياسية للمسؤولين والموظفين القائمين عليها، ما حرم الخزينة أموالاً طائلة، وزاد من تفاقم عجز الموازنة عاماً بعد عام.
لم تخلُ سنة واحدة من عجزٍ في الموازنة، كانت تتم تغطيته بواسطة دَيْنٍ جديد، وفق لعبة "نقل الطرابيش"، حتى بلغ هذا الدَيْن اليوم ما يقارب الـ١٠٠ مليار دولار، معظمه إستُدِينَ من المصارف، أي فعلياً من أموال المودعين.
وما زاد من تفاقم هذا الواقع الاقتصادي السيئ، الأزمة السورية، وخصوصاً النزوح السوري إلى لبنان بدءاً من العام ٢٠١١، ما انعكس سلباً وبقوّة على ميزان المدفوعات نتيجة زيادة نسبة 40٪ على حجم البضائع المستوردة، وإستفحال تهريب السلع المدعومة، الأمر الذي أدّى إلى تجفيف لبنان من العملات الصعبة تدريجياً، لتشكّل مجمل العوامل المذكورة وقود الإنفجار الاقتصادي الكبير في تشرين العام ٢٠١٩، والذي لا نزال نعيش فصوله المتتالية وتداعياته المتشعّبة على مختلف الصعد.
الاقتصاد الريعي - الاستهلاكي، جعل اللبنانيين معدومي المبادرة والخلق والإبداع، فالدخول إلى الوظيفة العامة طوال تلك الحقبة، كان مقصد الشباب اللبناني، نظراً إلى الضمانات الاجتماعية التي توفرها هذه الوظيفة، إلى جانب ثبات سعر صرف الليرة والزيادات المتلاحقة على الأجور، كما كان هدف اللبنانيين، مقيمين ومغتربين، توظيف أموالهم في المصارف بدلاً من استثمارها في القطاعات الإنتاجية، نظراً إلى العائدات المرتفعة التي تقدّمها هذه المصارف من دون جهد وتعب ومسؤولية، كذلك أصبحت التجارة في العقارات هي الطريق الأقصر الى دخول عالم الثراء، في ظلّ الطلب الهائل على قروض الإسكان التي كانت تؤمنها المصارف بيسرٍ وسخاء من أموال المودعين.
لقد أدّى اعتماد هذا الاقتصاد العبثيّ المدمّر لمستقبل الأجيال، إلى جنوح اللبنانيين نحو سلوك نمطٍ من الحياة يتعدّى إمكاناتهم المادية الحقيقية بأشواط، حتى كادوا يُصدِّقون أنّ حالة الرخاء التي يعيشون فيها هي حالة طبيعية، كونها استمرّت ثلاثة عقود من دون تغيير، إلى أن أتت صدمة الانفجار الكبير، هذه الصدمة التي لا يزالون حتى الآن غير قادرين على النهوض منها.
بكلّ صراحة، حان الوقت لنستوعب تلك الصدمة القاسية، وندرك أنّ نمط الحياة الذي كنّا نعيشه، قائم على الوهم والمغامرة والمقامرة، ولا يمكن الاستمرار فيه، تماماً كما لا يمكن انتظار المعجزات من دولة مشتتة، محكومة بأمراء الطوائف وسطوة القبائل، دولة خزينتها مفلسة حتى العظم. كذلك لا يمكن أيضاً الإعتماد على مشاريع غالبية المنظّرين الجدد، الذين يحاولون تسلّق السلطة بأيّ ثمن تحت ذريعة أفكارهم الثورية، فيما ثَبُتِ على أرض الواقع، عُقْمُ هذه الأفكار، كونها ذات نزعات شخصية وغير قابلة للتحقق، بالإضافة إلى عدم ملامستها جوانب الأزمة العميقة التي نعانيها.
إذاً، الانتظار على رصيف الدولة أو رصيف الأمم هو مضيعة للوقت، والإصلاح المنشود الذي يجب العمل على تحقيقه بكلّ تفانٍ وإخلاص، لا يمكن أن يُغني عن تغيير النهج الاجتماعي السيئ الذي درجنا عليه، لأنّ هذا الإصلاح وفي أفضل الأحوال، قد يكفل الحفاظ على القدرات الطبيعية للوطن، لكنه لن يؤدي الى خلق قدرات جديدة تكفي لمواكبة الحاجات والتطلّعات.
من هنا، لا مفرّ من كسر نمط الحياة الذي اعتدنا عليه، وذلك من خلال الاعتماد على الذات، أي على الانتاج الوطني بمختلف وجوهه وميادينه، ولا شكّ في أننا بدأنا فعلاً ولو قسراً وقليلاً سلوك هذا الطريق الصعب في بدايته والمريح في خاتمته، وذلك من خلال مبادرات فردية نأمل أن تتّسع ككرة الثلج، على قاعدة الطبيعة تُصلِحُ نفسها، إن لم يوجد من يُصلِحها.

  • شارك الخبر