hit counter script
شريط الأحداث

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - مازن ح. عبّود

الصخور

الأربعاء ٥ أيار ٢٠٢١ - 00:18

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

الصخور، وما الصخور إلّا أناساً صاروا صخوراً. الصخور وما الصخور إلّا بهائم ووحوشاً رُصِدت للأمكنة، وقد أبت ان ترحل، فتصخّرت وبقت. وها هي ترصد الشمس والاوقات. هي حارسة الأمكنة وما وراء الأمكنة.

حملت عكازي ومضيت وعائلتي الى وادي الظلال حيث الصخور. قيل انّ فخر الدين حفرته المياه الجارية صخرة. قيل انّ ثمة بومة هناك. قيل ان فيلاً صغيراً افلت من قطيع اهله وتسمر حزنا. قالت لي جدتي بأنّ ثمة ارواحاً رفضت ان تنزح فصارت صخوراً تنطر المكان. قيل انّ شياطيناً تناحرت في ما بينها هناك. فأبادت بعضها البعض. والشياطين لا تتفق في ما بينها الا على إيقاع ثالث. كانت ظلال الرحيل ترخي بثقلها على ذلك المكان.

قيل انّ عوالم كانت ها هنا وبانّ سحراً وسحرة كانوا يسرحون ويمرحون. والريح التي تصفر تصير نسيماً في لقيا الشمس. مضيت وصرنا نتطلع الى الوجوه الشاخصة إلينا والناطرة لذلك المكان الذي كان يفضي الى افقٍ والى مراعٍ خضر زرعت شجيرات تفاح، ومغارة يتلطى فيها الرعيان، وحظيرة اكتسحها النسيان. وقفت هناك انظر متأملاً. وقفت وصمتّ.

لا اعلم لماذا آثرت الذهاب الى هناك صبيحة سبت الانوار. فهل آثرت زيارة وادي الظلال كي أُلاقي من حرّرَ الأرواح كما يقولون. هل في فمي ترنيمة اتلوها او بشارة انقلها الى من لا يبصرون ويسمعون؟

هناك التقيت طيفَ جدتي ولمحتُ ظلال جدي الذي ما برح يقيم في عودة التفاح التي نصبها في الخمسينيات حين كان التفاح من ليرات، والليرة من ذهب. كانت عودة جدي وارضه فخره. وجدي وجدتي عشقا هذه الأرض وصخورها وتفاحها واساطيرها واناسها وأهلها. تفاح جدي يبس والصخور ما زالت في اضرحتها تراقب البشر. تأملت عميقاً وسرت في ذلك الوادي ولم أخشَ شراً فعكاز جدي ما زال معي، وعيون جدتي كانت تلاحقني فلا يدركني شر.

سألني اولادي عن جديّ وعن الأجساد وعن كيفية اختفاء الأجساد، فقلت: "يلتهم الترابُ الترابَ وما من الله يعود الى الله. بكت ابنتي جدتي التي لم تعرفها. فأبلغتها بانّ الموت رحمة، والتصخّر لعنة".

نظرت فوجدت النرجس البري الذي كانت جدتي تجمعه في المسلك. وبان شعر جدتي الأبيض قبالتي تلاعبه النسائم عصر ذلك السبت، والسبت سبات وراحة وانتظار.

وتابعت ورائحة الورد الجوري تعبق في الزوايا:

"قديما كنّا نصلي كي يدرك الأجساد البلى. ملعون كان من لا يتحلل، فالشر يرصد ويحبس الأجساد. وتمسي معتقلاً للأرواح. وتمسي روحه معلقة ما بين الأرض والسماء. في يقيننا ملعون هو من يستخدم البشر ويحب الأشياء. فالمحبة للمحبة والاستخدام للأشياء. ومن يقلب المعادلة مصيره يكون مقلوباً. يتسمّر جسده وتزول روحه. من حلّت عليه اللعنة لا يتحلل.

جَدّيَّ تحللا كما امي يا صغاري. ففي التحلل راحة للنفوس. هكذا كانوا يقولون في قريتنا. هكذا قال لي جدي الذي كان يحمل مفاتيح التربة كما كان يسمونها التي تحوّل الأجساد تراب.

ملعون من لا يتحلل. ملعون من لا تتحوّل اقمصته الى تراب. كنت آتي الى ها هنا طفلا مع جدتي، وكان سحر المكان يسيطر عليّ رهبة وخوفاً. وكانت جدتي تتلو عليّ قصصها ووعيناها تحملاني بعيداً جداً. ابلغتني بانها ستمضي قريباً، فبكيت. سألتها لماذا، فقالت بأنها لا تريد ان تكون لعنة بل ارادات ان تكون بخور مريم او نرجساً برياً ينبت في الزوايا. لا تريد ان تكون عثرة بل ورداً جورياً وحكايا. لا تريد ان تكون مسحورة ومغدورة على مفارق الأيام، بل نعمة يتذكرها احفادها".

وتطلّعنا في الصخور المسحورة. فعاينوا كيف تجمّدت البومة وكيف انّ الأرصاد صخور والصخور قبور. فالموت ستر. وفي الرحيل عطر بقاء. وفي الإصرار على البقاء موت وجحيم.

كلّمت جوف الأرض في السبات يوم السبت، قائلاً: "ها إني اتيت. ها إني وافيت وادي الظلال. ولا اريد ان أكون ثقلاً على الأرض فتلعنني الأرض. قلت بأني اتيت كي اجدد العهد مع جدتي وكل العطور. أتيت أهمس وألمس وجه الأرض كي لا اخدشه فأصير لعنة. جئت اداعب الأرواح النائمة والهائمة على سطح الأرض. استمع اليها همساً وأراها أطيافاً، والعمر واد ونحن ظلال. جئت كي أتذكر بانّ الحب للحب والمادة للاستعمال، فلا يدركني شر. اتيت هنا مخافة ان يتسمّر جسدي ولا يعود يبلى فيمسي لعنة وثقلاً على الأرض ولا تعود تطلع منه الزهور البرية. جئت الأرض كي أتلو مع المرأة والأولاد الذين اعطاهم الله لحنا برياً، لحناً جديداً".

  • شارك الخبر