hit counter script

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - جورج عبيد

الزواج المدنيّ ضروريّة لتأكيد الشراكة الوطنيّة

الخميس ٢١ شباط ٢٠١٩ - 07:37

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

حبر غزير سال ورؤى كثيفة ظهرت في مسألة مشروع الزواج المدنيّ الاختياريّ، ضمن نقاش متعاظم، وإلى قيام الساعة في لبنان لم يحسم الموقف منه. لقد كان للمحاميين إبراهيم طرابلسي وشوقي فاخوري رحمه الله دورًا كبيرًا في طرحه خلال عهد الرئيس الياس الهراوي فما كان من المرجعيات الدينيّة سوى المعارضة العشوائيّة. لقد طبقّت بمعارضتها ما كان للمفكر الفرنسيّ كابرييال لوبرا يقول:"تتمثّل الأديان أمامنا كشرطيّ قابض على حياتنا في المأكل والمشرب والملبس والحياة"، والسؤال المطروح في هذا السياق هل الدين شريعة جامدة بحروفيّتها تحدّ من طموح العقل والفكر في الحياة وتقوّض مشروع الحريّة في التاريخ البشريّ، أو أن الدين كشّاف دائم بأنّ الله محبة ورحيم والله فيه يتعاطف مع خليقته ويعطيها العقل لتبدع خياراتها بحريّة مطلقة غير ماسّة بالقيم والأخلاق؟

منذ طرح هذا المشروع، والمراجع الروحيّة تجمّد صدوره. وحده المطران جورج خضر وقد كان راعيًا لأبرشيّة جبيل والبترون (جبل لبنان)، قام سنة 1976 بزيارة المغفور له الرئيس الياس سركيس مكلّفًا من المجمع الأنطاكيّ المقدّس للروم الأرثوذكس برئاسة البطريرك الياس الرابع معوّض، وقد أبلغه بأن الكنيسة الأرثوذكسيّة على استعداد تام للتخلّي عن المحكمة الروحيّة بسلطانها وأحكامها لصالح الدولة وقيام محكمة للدولة تختصّ بالأحوال الشخصيّة، فأجابه سركيس نحن كدولة وأنا كرئيس للجمهورية أرحب بهذا القرار الشجاع والتاريخيّ لكن أنصحكم بالتمهّل، لا تتسرعوا، فما عليك سوى الذهاب إلى مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد واستمزاج رأيه، وسترى، سيدنا، أن سبب المشكلة ليست عند الروم بل عند الطوائف الإسلاميّة والموارنة، وانتهى النقاش عند هذا الحد.

وحين تمّ طرح الموضوع دعت الهيئة الطلابيّة في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة الفرع الثاني-الفنار إلى ندوة لمناقشة مسألة مشروع الزواج المدنيّ الاختياريّ، ضمّت كلاًّ من المطران جورج خضر والأستاذين محمّد السمّاك وإبراهيم طرابلسي. كان النقاش على أعلى وأرقى ما يكون في العرض والتجاذب. لقد جسّد محمد السماك حينذاك الموقف الإسلاميّ من هذه القضيّة، وهو موقف رافض بجوهره لهذا المشروع. لقد قرأ بأنّ الدين الإسلاميّ، دين تشريعيّ، والأحكام فيه بحدود واسعة تشبه الأحكام المدنيّة بكثير من نواحيها. ليست القضيّة محصورة بمقارنات ومقاربات تتوازن فيما بينها، القضيّة تتشعّب بأطر إنسانيّة ودينيّة وقانونيّة-دولتيّة. فمن الناحية الإنسانيّة لا يمكن حصر العلاقات بين الرجل والمرأة ضمن الملّة الواحدة، فالحب بهذا المعنى عابر للطوائف والمذاهب، ولا يسوغ، تاليًا، تحجيمه وتجميده بأنظمة تحدّ من وساعة العقول وكبر القلوب، كما أنّه في المدى المسيحيّ ثمّة مقبلون على الزواج وهم على الهويّة ينتمون إلى مذهب واحد في المسيحيّة فيما هم في العمق ملحدون ولا ينتمون إلى دين، هؤلاء يضطرون للذهاب إلى الكنيسة لتحقيق زواجهم وتثبيته بسبب النظام الطائفيّ في لبنان وهم غير مؤمنين بالكنيسة. ويرى المطران جورج خضر بأنّ هذا الزواج بالمعنى الإلهيّ اللاهوتيّ باطل لكون الطرفين غير مؤمنين بالله ومسيحه وكنيسته، والزواج المسيحيّ يصبح عمليّة تزوير وحين أضطر لتزويج أشخاص ملحدين فقط لكون النظام يقيدنا ويضطرنا إلى ذلك، أعيش أزمة ضمير كبرى، أحسّ كأنني أخطئ إلى الرسالة المسيحيّة وإلى غير المؤمن في الوقت عينه، فالمؤمن، وكما بقول: "حرّ بإيمانه لأنه ارتضاه طوعًا، والإيمان له أنظومته وفعاليته وطقوسه والتزاماته، والملحد حرّ بإلحاده، والإلحاد له أنظومته وفعاليّته وحضوره. فلمَ نحرم الملحد من اللجوء إلى الدولة لإتمام عقد زواجه مدنيًّا، فتطبّق عليه قوانينها". وفي المنحى القانونيّ البحت، فإنّ معظم المقبلين على الزواج المدنيّ يذهبون إمّا إلى قبرص أو تركيًّا أو أي بلد أوروبيّ آخر لإتمام عقودهم، فيتمّ تسجيلها في لبنان وفقًا لقانون البلد الذي تمّ فيه عقد الزواج. المخاطرة هنا بأنّ التسجيل يتمّ وفقًا لقانون البلد الذي تمّ فيه عقد الزواج المدنيّ، مما يجعل السيادة القانونية مخترقة ومقتنصة في آن، بسبب عدم وجود قانون لبنانيّ خاصّ يتمّ فيه الفصل في الزواج والاتجاه نحو الطلاق بحال عدم توافق الرجل والمرأة في مراحل مقبلة.

يهمّ كاتب هذه السطور البوح بأنّه مسيحيّ ملتزم بإيمانه، وقد تزوّج كنسيًّا بسبب قناعته بقدسيّة سرّ الزواج في نشوء عائلة مسيحيّة مؤمنة. فالزواج عهد، عهد القلب للقلب والعقل للعقل، ويكون المسيح فيه الصخرة الداعمة والكلمة الناطق، وليس عقدًا أو مجرّد عقد يوقّع أمام قاض، وكأنّه بين شركتين تزمعان على عمل أو اسثتمار مشترك فيما بينهما، وحين يتمّ الخلاف يتمّ الفصل. مفهوم الزواج في المسيحيّة مختلف عن الزواج في القوانين المدنيّة، فالزوجية مقدّسة، والأولاد بالزوجيّة مقدّسون بسبب الإيمان، والزوجيّة في المنطق المسيحيّ تؤسّس لكنيسة صغيرة يكون المسيح رأسها وجوهر وصال أعضائها وودادهم، إذا سموا إلى الحبّ الكثيف والرضى المتبادل أو جعلوا من المسيح العهد كلّه. لا يعني أنّ الزواج المدنيّ ينتج أولاد زنى، إنّه زواج قائم على وضعية قانونيّة سلّمت بتلك العلاقة، ولكنّه في المفهوم المسيحانيّ لم يرق لحدود التقديس في اندماجه بعمق السر (Sacrement mystére). مألفة السرّ غير قائمة في الزواج المدنيّ.

إلى ذلك، أو بالإزاء مع ذلك، فالمسيحيّة، لاهوتًا وثقافة وفكرًا، تقدّس حريّة الإنسان بخياراته وقراراته، وتلك هي عظمتها. الإنسان معطى الله والكون، وهو من الله إلى الكون. فلا يسوغ أن تتحوّل المسيحية مع ذلك إلى شرطيّ يجزر بغضب ويفرض بالقوّة ما يجوز على الإنسان أو ما لا يجوز. فجزء يسير من تلك النظم بشريّ وليس إلهيًّا، وهو قابل للتعديل جيلاً بعد جيل. وعلى هذا فهي ترفض حصر الإنسان وحشره بحركيّتها ومنظومتها، إذا لم يرها مصدرًا لسلامه واطمئنانه، على الرغم من أنها وحدها في التاريخ ديانة المحبة، وهي الديانة الوحيدة القائلة بأنّ الله محبة، وهذا لم يوجد نظيره في ديانات أخرى أو يعثر عليه في حضارات أخرى. ولذلك فهي على المستوى اللبنانيّ، لا يفترض أن تقف عقبة بوجه الزواج المدنيّ، وهو اختياريّ. لقد عالج كبار منّا هذه القضيّة، لا سيّما علاقة الإنسان بالله والوطن وعلاقته بالطائفيات المتحرّكة فينا ومنّا، منهم الدكتور كوستي بندلي، وهاني فحص، وأنطوان مسرّة وجورج مسّوح... وتمّ الخلوص إلى أنّ الأديان إذا ما تحوّلت إلى نظام قابض على حياة الإنسان فهي تدفعه إمّا إلى التسليم العبثيّ بها، وهذا مشتل الحركات التكفيريّة، أو إلى الكفر بها والتحوّل إلى الإلحاد المطلق. لعلّ تجربة عصر قمع العلماء من قبل البابويّة في القرون الوسطى لا تزال ماثلة، والحركات التكفيريّة التي غزت بلادنا المشرقيّة لم نشفَ بعد من صدماتها وكدماتها. وحين يتحوّل الدين إلى نظام قابض بشدّة على حياة الإنسان يتحوّل إلى صنم أو يصير شيئًا من عبادة صنم، وهذا عينه ضدّ المسيح Anti-Christ)).

ليست المسيحية بهذا المعنى ضد الزواج المدنيّ الاختياريّ. وقد رأينا غير مرّة بأنّ الدولة لا تقفز نحو المواطنة، بتحفيز كامل إلاّ مع تنظيم قانون كهذا يحفظ سلامتها وسيادتها القانونية على أرضها ومواطنيها. فحين ترفض المرجعيات الدينية سواء كانت مسيحية أو إسلاميّة هذا الزواج نظامًا، فهذا ليس لمصلحة المؤمنين، بل هو لمصلحة ما أسميناه مرّة في مقال نشر سنة 1996 في جريدة النهار، الاقتصاد الدينيّ Economie religieuse)). وقد أثبتت الدراسات بإحصاءاتها الدقيقة بأنّ المؤسسة الدينيّة كحالة مؤسساتيّة (Etat istitutionelle) تغتذي ماليًّا من المحاكم الروحيّة، بمعنى أن الجزء الأكبر من ثرواتها يأتي من المحاكم الروحيّة، فكيف إذا ضمّ هذا الجزء إلى ما تجنيه وتكسبه من مؤسساتها التربويّة والاستشفائيّة، ثمّ تدّعي عوزها و"تقلقنا" فاقتها، فترفع الأقساط على الطلاّب في المدارس وكلفة الطبابة على المرضى وغالبيتهم من الفقراء. فأين هي مصلحة المؤمنين هنا؟

حتامًا الزواج المدنيّ الاخيتاري حاجة ضروريّة لتعزيز مبدأ قبول الواحد بالآخر، أي القبول بشراكته في بناء العائلة كما في بناء الوطن، وهو يعزّز منطق الدولة بالحفاظ على السيادة القانونيّة، فلا يضطر الناس للسفر إل قبرص أو تركيا أو أي بلد أوروبيّ آخر لعقد الزواج يسجّل هنا بقانون البلد الذي جرى فيه العقد مما يعني أن الخرق حاصل. ومنطلق حقيقيّ لإنتاج دولة مدنيّة حقيقيّة نشتهي فيها تحقيق المادة 95 من الدستور أي إلغاء الطائفيّة السياسيّة في لبنان.

من هنا الشكر للسيدة الوزيرة ريّا حفّار الحسن الجريئة برؤيتها والتي دعت إلى البحث في هذا الموضوع. وما نرجوه أن تتمّ المقاربة بروح إيجابية مجرّدة تحفظ حقّ لبنان كوطن بأن يكون له قانون كهذا وحقّ المواطن بأن يكون له قانون مدنيّ للزواج، ويؤدّي إلى الانطلاقة المتوثبة لدولة فاعلة لها أنظمتها كما لها حدودها وأمنها... نرجو من دولة الرئيس سعد الحريري أن يدعم هذا النقاش بقوّة، وينهي هذه المسألة بالتحريض القويّ والشديد على هذا القانون من أجل إقراره، حتى إذا ما أقر نعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ويولد لنا وطن حقيقيّ لكلّ شعبه.
 

بقلم جورج عبيد

  • شارك الخبر