وقف على شرفة بيتنا المطلة على شرفات المنازل المعلقة على الجبال والوديان. تَطلّعَ في المدى وقد بانت المدافن من تحته، ولمح الطيور تُحلّقُ في الفضاء الواسع، فسأل: "الى اين تذهب الطيور؟".

أجبته ترحل بحثاً عن عالمٍ افضل. ترحل بحثاً عن خبزها وعن بقائها. فالطيور ابناء القمم والموائل والغابات. يزولون حين تزول. يأتون الينا زيارة. مبعوثون هم من إله القمم والموائل، مُحمّلونَ بأخبار وبشائر يا صغيري. لا تمكث الطيور في الزحف المدني كثيراً. فهي ليست منه ولا هي ابنة الثورة الصناعية والرقمية، ولو انها تقبّلت الثورة الزراعية على مضض. لا تمكث الطيور طويلاً في محيط من دون شجر، لا تمكث الطيور طويلاً بين من استوحشوا من بني البشر. الطيور مرسال تعلمنا كيف ننظر الى العالم من فوق. تبلغنا بأن لا نتعلق بالتراب. تذكرنا بأننا رحّالة مثلها تماما. انها الجمال والنغم في عالمنا.

اغمض عينيك يا صغيري وتصوّر عالماً من دون طيور.

تصوّر عالماً من دون جمالات. خلقنا مثلها كي نسبح ونستمتع ونتناغم ونشترك في الجمال. فإذا بنا نعتبر ما نلنا واجب إله الكون تجاهنا وما لم نَلِنهُ حقٌّ حُرمنا منه.

خُلقنا يا صغيري كي نكون طيوراً، فنسبح في بحر الكون. خُلقنا كي نطير. خُلقنا كي نصون ونضبط حلقة الحياة. فإذا بنا صرنا دعاة إلغاء وقباحة.

الطيور ترشدنا الى الخضرة والمياه. وعلى ريشها تستلقي كبار الرؤوس. تحدّينا اليوم ان لا تزول الطيور. لأنها إذا ما غابت تصير الحياة صناعة والحقيقة وهماً والجمال رقمياً.

زوال الطيور وإنحسار الموائل هي خطيئتنا. فكل من يولد يعتبر نفسه المبتدأ والخبر، الأصل والمرجع والكون. الخطيئة الاصلية هي ان تقيم نفسك المرجع وتتناسى أنك حلقة جمالية في المشهد الكبير، وفي هذا سقوط مدوٍ. تُعَلِمُنا الطيور كيف نتحرر من الجاذبية، فنرى العالم من فوق. واذا بنا شياطين تسقط من فوق كالنيازك فتهتز بنا الارض، فيتلقفنا اهل ما تحت الارض.

لا تسألني الى اين تمضي الطيور يا صغيري. فهي تنحسر وتموت بفعل مبيداتنا وكيماوياتنا وطلقاتنا وتكنولوجياتنا. اصبحنا في عالم بلا مياه نظيفة وهواء نظيف، وقريبا سنمسي بلا غابات وطيور وشجر.

ترحل لأنّ مراسيل الخير والاعتدال لا تمكث في جهنم. لا تمكث في عالم صار على شاكلة صورة البشر. تنقرض اليوم لأنها تتوالد في الربيع، ولا يَطِيبُ لنا القتل إلّا في الربيع.

بدأ الربيع يزول والفراخ مازالت تولد في مواقيتها، فلا تجد ما تتغذى عليه من حشرات.

استبدلنا الطيور بالمبيدات، فصارت تلتهم المبيدات وتُبَاد. السم ينهي العناصر ولا يُقوّي ابن البشر. لماذا كل هذا النهم والرغبات والقتل؟

البشاعة تلاحق الجمال خوفاً. تُلاحق البشاعة الجمال كُرهاً. وها نحن نضرب الارض ومراسيل السماء وخدمات الارض من دون مقابل وتبلغ قيمتها اكثر من نصف ناتجنا العالمي، والنصف الاخر بحكم الوهم والوهن.

رأيت شجرة لزاب تبكي انحسار عصفور يحمل بذورها وينشرها خضرة. رأيت اشجاراً تشكو تراجع الثمر.

من يُسهم في تلقيح الشجر وجودة واستدامة الثمر من بعد، من يُسهم في تلقيح الزهر وضبط الحشرات التي تغزو الخضرة ومأكول البشر، من يحمل رسائلنا ويحمل افكارنا الطائرة، من يُنقّي الغابة من جثث ونفايات البشر؟

اضحى الجمال مهدداً. صارت الحياة تشترى بعلب. علّب كل شيء حتى الماء والهواء والافكار والتطلعات والمبادئ.

يُسعّر العصفور بلقمة والانسان بمدخوله.

وتمضي الطيور لكن الى اين؟

عِشْرُها أُبيد وما تبقى ينتظر رحمة من رب البشر.

في جبالنا رأيت حجلاً يبحث عن عش محاه مقلع، طارده صيّاد.

مناخات البشر لعنة البشر. من سيعلمنا اذا ما ابدنا عناصر الوجود، ماذا سيتبقى من قيمتنا اذا ما تحكم السوق بالوجود؟

كان عندنا طيور وكان العالم جميلاً. كان عندنا طيور والثمر كان لذيذاً وكثيراً. استبدلناها بمبيدات. استهلكناها.

ثمن العصفور لقمة وكلفته خرطوشة، ومصير شعبنا نزوة.

مُخْجِلٌ فكرك يا انسان ومُعيبٌ مسار حياتك. عصفور يزن ثلاثين غراما يلتهم وزنه حشرات يومياً.

وبعد كل هذا تسألني الى اين تمضي الطيور؟

وتَطَلّعنا نبحث عن الطيور. فرأينا عينا فوتين تتطايران قبالتنا. أكَلت كثيراً وشربت وماجت على شرفتها، علّها تهضم ما التهمته. التهمت ورصدت ما يجري من نافذتها. أطلّت وقد ارتفع معها الادرينالين. صاحت: "صباحو من دون اذن ودستور. أوقف نظرياتك يا استاذ. الناس لا تأكل افكاراً بل عصافيراً. البلد في وعكة والناس في هجرة وانت منشغل في الطيور. ارتطم بأرض الواقع يا جار. فبني قبطان على الحدود".

ثمّ انحسرت وصارت تتمشى، ورائحتها تتفشى. كرشها يهتزّ، وفمها يرتج. كلّمت نفسها. واجابت نفسها...