"يا زائري لا تنسني".. جزء من عبارة مكتوبة على أحد القبور المهددة بالإزالة في القاهرة التاريخية، بعدما قررت الحكومة المصرية تطوير محور مروري يمر عبر منطقة تضم مقابر تاريخية، وبدأت بالفعل هدم العديد منها.
لكن يبدو أن هناك من نسي سكان هذه القبور وبدأ بآلاته ومعداته هدم الأحواش والجبّانات التي يعود بعضها إلى أكثر من ألف عام، لتبدأ حملة معاكسة تطالب بوقف عمليات الهدم والحفاظ على التراث المصري الذي يمكن أن يكون مزارًا يدّر الملايين على الاقتصاد المصري.
بدأت الأزمة في أكتوبر من العام الماضي حينما وصل الأهالي إخطارًا من الحكومة، حيث سيتم إزالة مجموعة من المقابر في نطاق مشروع تطوير محور "صلاح سالم" المروري الهادف إلى تقليل الكثافة المرورية والزحام الشديد في المنطقة.
طلبت الحكومة من أسر أصحاب المقابر مجموعة من الإجراءات من أجل نقل رفات الموتى، وأكدت لهم أن "نقل الموتى يكون بمعرفة صاحب الشأن... على نفقته الخاصة".
وأعلنت الحكومة آنذاك أنها لن تقترب من المقابر المسجلة كآثار، وأن ما سيتم هدمه "مقابر ومباني حديثه"، وأنه "لم يتم هدم أي آثر تاريخي"، مؤكدة حرص الدولة "على الحفاظ على التراث التاريخي من الآثار الإسلامية والقبطية لما يمثله من قيمة تاريخية".
على الرغم من ذلك تتواصل عمليات الهدم والإزالة على قدم وساق، في مقابر الإمام الشافعي والسيدة نفيسة في القاهرة التاريخية، ويخشى البعض من أن تصل تلك العمليات إلى مقابر شخصيات تاريخية مثل الشاعر حافظ إبراهيم الملقب بشاعر النيل، والشاعر الكبير الآخر محمود سامي البارودي، بجانب الإمام وَرش بن نافع صاحب واحدة من أهم روايات قراءة القرآن الكريم.
"قبور تاريخية"
انتشرت مجموعة من الصور والفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي لعمليات الإزالة، خلال الأيام الماضية، ما دفع طالب الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، محمد عبد العزيز، إلى أن يقرر الذهاب بنفسه إلى المنطقة لمعرفة ما يحدث.
وقال عبد العزيز، لموقع "الحرة"، إنه ذهب على مقبرتي السيدة نفيسة والإمام الشافعي حيث شاهد "المأساة من على أرض الواقع"، فقد بدأت عمليات الإزالة بالفعل للمقابر وتواصل السلطات هدم مقابر أخرى.
أضاف أن هناك أسر تمكنت من نقل رفات ذويها، بينما هناك "من لا أهل لهم أو من انقطع عنهم أقاربهم"، فانتهى الحال بالهدم فقط.
تشمل مقابر الإمام الشافعي شواهد تاريخية، وهي التي تم تسجيل عليها اسم المتوفى وتاريخ الوفاة، وتكون في العادة مستوحاة من الطراز المعماري المنتشر في العصر الذي عاش فيه الشخص، وبالتالي لها قيمة تاريخية ومعمارية فريدة.
الباحث، إبراهيم المصري، الذي يدير صفحة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، تهتم بتوثيق وعرض تاريخ المقابر ومعمارها في مختلف أنحاء مصر، بدأ عمله قبل نحو عشر سنوات في هذا الشأن.
وقال المصري، لموقع "الحرة"، إن جبّانات الإمام الشافعي والسيدة نفيسة، بها أحواش يعود تاريخها إلى أكثر من مئتي عام، وبعضها يعود إلى نهاية عصر محمد علي، الذي حكم مصر في الفترة من 1805 إلى 1848.
وأوضح أن هناك مقابر تعود لعائلة العظم السورية البارزة التي حكمت سوريا لفترة في الثلاثينيات، ومدفون فيها أفراد منها، بجانب قبر الشاعر البارودي والإمام ورش، وغيرهم من المقابر التاريخية.
وأضاف الباحث "قضيتنا حماية التراث في الجبانات لأنه جزء أصيل من تاريخ مصر لا نريد أن نفقده، ونريد لجنة من وزارة الآثار لتقيّم ما إذا كانت تلك المقابر أثرية أم لا"، قبل عمليات الهدم.
وبالفعل يزور المصري ومجموعة من الباحثين الآخرين المقابر التاريخية في مختلف أنحاء مصر، وفي يوم 11 مايو الجاري، ووسط إحدى مقابر الإمام الشافعي وجد ما لفت نظره، ليكتشف أنه شاهد قبر من العصر العباسي، أي يعود لأكثر من 11 قرن، وتم تسليمه لوزارة الآثار المصرية.
حماية التراث
ومع بدء عملية تطوير محور صلاح المروري، وجّه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بتدقيق كافة الدراسات والبيانات ذات الصلة بعملية التطوير "نظرًا لمروره وسط مناطق القاهرة التاريخية والإسلامية وذلك على نحو يحافظ على قيمة تلك المواقع، ويحقق الهدف المرجو من التخطيط المنظم الحديث والسيولة المرورية وتخفيف الأعباء على المواطنين".
لكن تواصلت عمليات الهدم واستمرت الشكاوى، وآخرها كانت عريضة على موقع " Change.com"، ناشدت السيسي "بحماية رفات كل المصريين وكل من اختار مصر فحمتهم أرض مصر وأصبحت مثواهم الأخير... قرافات مصر ذكرها المؤرخون والرحالة وهي قبلة للسائحين والدارسين للعمارة والفنون من الخط العربي والتذهيب والنقش على الحجر".
كما تقدمت النائبة البرلمانية، مها عبد الناصر، بأكثر من طلب إحاطة لإيقاف عمليات الهدم بشكل عام والتي تستهدف قبورًا تاريخية لشخصيات بارزة مثل الشاعر حافظ إبراهيم وغيره.
وقالت عبد الناصر لموقع "الحرة"، إنها تسعى إلى ضمان عدم إزالة أي مقابر لها قيمة تاريخية، مشيرة إلى أنها بالفعل تقدمت بطلبات إحاطة لوقف هدم مقابر عميد الأدب العربي طه حسين والكاتب الكبير يحيى حقي.
والكاتب الراحل أعلنت ابنته، نهى حقي، في تصريحات تلفزيونية الأسبوع الماضي، أن الأسرة بالفعل نقلت رفاته من مرقده بجوار مقابر السيدة نفيسة إلى مقبرة جديدة.
واصلت البرلمانية المصرية حديثها، وقالت إن هناك الكثير من الأحاديث الدائرة حول مسألة وقف عمليات الهدم للمقابر التاريخية، مثل مقبرة الشاعر حافظ إبراهيم.
وأضافت: "أتمنى أن يكون هناك رؤية شاملة لمنطقة القاهرة التاريخية فما يحدث غير مفهوم على الإطلاق"، مطالبة "الحكومة بالوقف الفوري لأي قرار يخص هدم مقبرة حافظ إبراهيم أو أي مقبرة تمثل قيمة تراثية أو حضارية أو ثقافية لأي سبب كان".
يعمل مركز التوثيق الحضاري حاليًا بإحصاء مقابر الشخصيات التاريخية والمشاهير في مقابر السيدة نفيسة والإمام الشافعي، وبحسب عبد العزيز، فقد رأى المسؤولين في مدفن عائلة الفنان صلاح ذو الفقار ومقابر الفنان محمد نافع زوج الفنانة المصرية ماجدة، حيث يقومون بتسجيل الشخصيات المدفونة في المكان.
وأضاف أن ذلك "مجرد إحصاء للتوثيق قبل الإزالة"، معتبرًا أن ما يحدث في هذه الأزمة "لو حدث في دولة أخرى لاهتزت له الجبال".
وأشارت النائبة مها عبد الناصر إلى أنه يجب الابتعاد عن تلك المنطقة التاريخية، حيث "هناك حلول بديلة وعلماء تخطيط مهتمين بإيجاد حلول لأزمة السيولة المرورية، ومستعدين للتعاون لو طلبت الحكومة ذلك".
فيما اختتم المصري، حديثه بالقول "تراث الجبّانات في مصر غير معروف أو منتشر، وهي متاحف تستحق أن تتحول إلى مزار للناس".
المصدر: الحرة