ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - البروفسور نسيم الخوري
"إبقَ في أحضان جيشك إن شئت أن تحفظ وطنك وعائلتك ورأسك"
الإثنين ٢٧ آذار ٢٠٢٣ - 00:32
جمعتني علاقة بوزير الخارجية الفرنسية جان فرنسوا بونسيه كان راعيها مدير مكتبه ميشال ميناشوموف من أصلٍ بولوني. تعمّقت تلك العلاقة لأنّ الرجلين كانا منهمكين بل مسكونين بدوائرهما الواسعة بأوضاع لبنان في الثمانينيات التي ترنّحت بصور اللهيب والحصارات والحروب التي جاءت حصيلتها أكثر من 150 ألف قتيل وجريح ومعاق ومشوّه وسجين... أراها اليوم تستيقظ في الذاكرات والهواجس.
كان يمكن أن أعاين أو أتألّم بوضوح لحجم القيود والبرودة التي غالباً ما تحكم أحاديث الدبلوماسيين وممثّلي الدول عندما يدور النقاش الحامي ومحاولات الإقناع حول وطن المناقش المسكون بهموم مواطنيه وأهله وحدود بلده والمستقبل بكلّ أخباراه وإيحاءاته المخيفة. تعثّرت تلك العلاقة في الـ1984 وأُوصدت الأبواب الدبلوماسية على نصيحة مدير المكتب الذي قال بحزمٍ وحزنٍ إذ رأى الحقائب والصناديق الجاهزة مشقوعة في منزلي الباريسي متأهباً للعودة النهائية إلى لبنان:
"للجيوش في بلادكم أدوار ومسؤوليات لم ولن تنتهي على الأطلاق في المستقبل المنظور، وينسحب هذا الأمر على البلدان المتنوعة حول تلك البحيرة الحمراء المتعكّرة الجاذبة للقوى العالمية وتسمّونها البحر الأبيض المتوسط. إبقَ قريباً من جيش لبنان إن شئت أن تحفظ وطنك عائلتك ورأسك".
قد تحمل النصيحة أرجحيةً مُقنعة لأغلبية المواطنين الذين ما انخرطوا أو مالوا الى الأحزاب التي تقاسمت الوطن وتوزّعت المناصب والصلاحيات والمكاسب ليبدو أوطاناً مشتتة والشعب شعوباً متفرقة، فكانوا وما زالوا يجدون أنفسهم في الملاذ المُتمثّل بالمؤسسة الخضراء.
هذا واقع لا فرضية يمكنني دعمها باللجوء لاستفتاءٍ عام في بلد تراخت مفاصله وتداخلت فيه هيبة السلطات وتحاشرت وهزلت حتّى عمّ الفراغ العام في المؤسسات وتمدّدت الفوضى العارمة من جديد وصار الفساد المستشري والفراغ وتبادل القهر عناوين الحياة. لا إمكانية بانتخاب رئيس جمهورية والحكومة مكبّلة بتصريف الأعمال بصلاحيات مرتجلة عبر الدستور المُفرغ من معانيه والمتشظّي بالإجتهادات والآراء المتناقضة الضيقة والضرورية والملحّة وحطّت المصائب رحاها في أحضان السلطات القضائية المترنّحة بدورها وكأنها سلطات فضائية بالفاء وبلا ألف ولام تتلاعب بها أهواء السلطات المتعددة ورياحها وعواصفها وتتقاذفها الأحزاب والطوائف كراتٍ لنراها تخضع خضوعاً تاماً لسلطات وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية بسطرٍ من رأس السلطة الوزارية. دخل المشهد الديمقراطي للأسف أنموذجاً لكلّ عجيبٍ وغريبٍ ومُفاجيء، ويتشلّع الدستور بين مخالب النسور ولتدفن إمكانيات الحوارات والديمقراطيات والأوطان.
ما الجديد؟
تحوّلت تلك الرقع المذهبية إلى فسيفساء دموية وفوق كلّ مربّع منها مجموعة محصنة تتأهب للخطف والتشليح والإعتداءات والسرقات في ما يتجاوز الماضي الأليم. ما حصل ويحصل على سبيل المثال في طرابلس عاصمة الشمال وآخره اغتيال الشيخ الرفاعي وتقاذف التهم حتّى لحظة ابتسامة الفتنة بالنيران والدماء أسوأ مثال وآخره. يغلب على الألسنة والعقول الباحثة عن خلاص المطالبة بالجيش منقذاً بجهوزيته الملحوظة إلى المطالب المترجرجة بين الإدانة والتهدئة أوالأمن بالتراضي واللامركزية الموسعة والفدراليات والكونتونات والتقسيم المذهبي ولو حصل على حدّ السيف المستحيل. مخيف ما نسمع إذ ليس هناك من حلول لمعضلات مشابهة تتكرّر. نصّ دستور الطائف على أنّ "الجيش يخضع خضوعاً تاماً للسلطة السياسيّة". وردت السلطة السياسية بصيغة المفرد وهذا أمر ذو شأنٍ في الأنظمة الديمقراطية العريقة وآليات الحكم، لكن ماذا نفعل إن كانت السلطة في لبنان سلطات يستحيل تعدادها وألوانها ومراميها وارتباطاتها متجاوزةً السلطات الثلاثة التشريعية والإجرائية والقضائية.
ولو فسّرنا الفعل "خضع" فهو يحتمل معان وتفسيرات قاسية ومرفوضة في الآذان العسكرية التي تعتمد مقولة: نفّذ ثم اعترض، خصوصاً عندما ترفع الأحزاب أسلحتها الخاصة.
سألت رئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني، عن السرَ باعتماد فعل "خضع"، أجاب بإصراره شخصيّاً على خضوع العسكر للسياسيين بعد "تمرّد الجنرال ميشال عون" بقصر بعبدا في الـ 1989. كنت أرفع السدّ الذي يحول لأيّ قائد جيشٍ آخر التفكير بقصر بعبدا، مع أنّ التجارب اللاحقة أسقطت إصراره وأوصلت ثلاثة قادة للجيش اللبناني إلى بعبدا أعني إميل لحود، ميشال سليمان بتعديل الدستور، وميشال عون.
كان يمكن إعتماد فعل "يتبع" بدلاً من "يخضع لأنّ الجيش لا ولن يلوي عنقه للسلطات وخصوصاً لتلك التي أفرزت وما زالت تُفرز اللبنانيين جيوشاً مذهبية يبدو فيها لبنان وكأنه في خانة الأنظمة الأحادية والديكتاتورية والمشلّعة والسياسيون معشر الأهوال والمصائب أمامنا إلى دهر الداهرين ... وإملأوا الفراغات... بالصفات لأنهم منقوعون بفشلهم ينتظرون حركات الأصابع الدبلوماسية.