hit counter script

مقالات مختارة - الفضل شلق

واجب السؤال

الجمعة ١٥ كانون الثاني ٢٠١٦ - 07:07

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

السفير

من حقنا في مطلع العام أن نتساءل.
تأتي المعرفة من السؤال. يجاب على السؤال بسؤال. الجواب مرحلة بين سؤالين. العقل المستريح لا يسأل. لديه أجوبة وحسب، أجوبة يستمدها من الأجيال السابقة، وصولاً إلى السلف الصالح، ولا اتفاق على تحديد من هم السلف الصالح. العقل السليم هو الذي لا يستسلم للأجوبة. كل جواب يزيده تساؤلاً. لا يستكين. الكون أكبر وأوسع من أن نفهمه. لديه سعي لاكتساب فهم يتطابق مع ما هو كائن ومع عقل غير محدود. الفكر الصحيح هو اللامحدود. لا محدودية الفكر. موات التقليد واتباع السلف والخضوع لمرجعيات المجتمع والدين.
العقل الصحيح لا يقدس. يمكن أن يتشوش، لكن ليس لديه اعتبار لكائنات بشرية أو غير بشرية على أنها فوق مستوى الفهم، فوق مستوى الإدراك البشري. ما دام لا يفهمها فهي مقدسة. عندما يفهمها تزول عنها القداسة. إتّباع ذوي القداسة هو الأولوية لدى من ذوت عندهم ملكة التفكير.
هناك عقل ديني يخصص نفسه لفهم الله، وعقل علمي يخصص نفسه لفهم الطبيعة، الكون، الوجود. العقل الديني يسعى لفهم ما لا يُراد له أن يُفهم؛ العقل السليم يخصص نفسه لفهم ما هو متاح للفهم، أي الطبيعة المحيطة بالبشرية، إضافة للطبيعة البشرية. إما أن تكون ذا عقل مستريح يحاول أن يفهم ما لا يُفهم، وإما تكون ذا عقل متوتر تحاول أن تفهم ما هو متاح في الطبيعة وفي الإنسان. قوانين فهم الله والدين غير قوانين فهم الطبيعة والإنسان. القوانين الأولى لا فائدة لها، والقوانين الثانية تؤدي بالمجتمع إلى التقدم. ما هو غير مفيد مضطر لإبقائك في دائرة الأسلاف. تلجأ للأسلاف كي تحتمي بهم وكي يزودونك بعلم زائف يقيك هجوم العلم الحديث، العلم الحقيقي.
ربما كان علم التراث مفيداً في فهم الماضي. لكن هذا الماضي نفهمه بشكل أفضل في ضوء العلم الحديث. يصير علم التراث لزوم ما لا يلزم. يمكن الاستغناء عنه كعلم وإن كان ضرورياً لفهم حديث للماضي، شرط أن لا يكون الماضي هادياً لنا. عندما نهتدي بالسلف يصير الماضي والتراث عبئاً علينا.
من واجبنا أن نسأل إذا أردنا أن نصنع المستقبل. السؤال الأهم والأفضل هو الذي يتعلق بالكيف. كيف نصنع؟ كيف نتجاوز؟ كيف نبني أسباب القوة؟ كيف نبني مجتمعاً متماسكاً؟ كيف نعيش سوية؟ كيف نبني الدولة التي يستبطنها الفرد؟ كيف يصير الفرد أكبر من الدولة؟ كيف يصير الفرد محتوياً الدولة في ذاته؟ كيف يصير الفرد باني الدولة بانياً لذاته، مضحياً في سبيل الدولة مضحياً في سبيل ذاته (لا في سبيل قضية خارجة عنه).
سؤال اللماذا يعيننا على فهم بعض الماضي. يؤدي الجواب عليه والأسئلة المتولدة منه إلى إحياء الماضي وإلى اجترار أفكارنا. سؤال إلى أين لا معنى له إلا إذا خضع لسؤال الكيف. لا نعرف إلى أين الاتجاه إلا إذا كان السؤال يتعلق بنا، بكيف نصنع مستقبلنا؛ إذا كان سؤال إلى أين يعتمد على العناصر الخارجية والقوى الدولية فإنه يعني أننا نعتمد في وجودنا على الغير ولا نصنع مستقبلنا.
سؤال الكيف مقولة عند الفلاسفة للدلالة على إرادة الإنسان ومركزيته. منذ أن اكتشف الإنسان مركزية الشمس اضطر إلى اللجوء إلى وسائل أخرى لجعل الإنسان مركز الكون. الذين سبقوا إلى هذه المركزية (الغرب الأوروبي) صاروا سادة العالم؛ استعمار، إمبريالية، عبودية واسترقاق، نهب للشعوب المغلوبة. ويل للمغلوبين. المصيبة الكبرى هي عندما تخرج الجيوش الأجنبية ويبقى الوعي المحلي مستمراً. هكذا نحن؛ ندعو القوى الكبرى لتحريرنا من طغاتنا؛ وذلك بعد عقود على الاستقلال.
واجب السؤال من أجل وقف الاجترار يعني تدمير المقدسات الفكرية. تهديم الأصنام ضروري. الفكر الحر يسأل، ولا يطيق الأصنام. تدمير الأصنام عملية يومية؛ هذا إذا أردنا النهوض.
الفضول ملكة تؤدي تنميتها إلى ازدياد القدرة على السؤال والمعرفة. يؤدي الفضول إلى الخروج على المألوف. نحن بحاجة إلى الخروج على المألوف كي لا ننتظم في طاعة الطغاة. بعض الفوضوية مفيد. على طلاب المدارس أن لا يقفوا في صف منتظم حين الدخول إلى قاعدة الدراسة. عليهم أن يتعودوا على بعض الانتظام قبل الجلوس إلى مقاعد الدراسة.
المألوف ممل. علينا أن نمل وأن نضجر من الإنجازات الصغرى. نفرح بالإنجازات الصغرى لأننا نعجز عن الكبرى. نحتاج إلى إنجازات كبرى كي نستعيد الثقة بأنفسنا، بإنسانيتنا. نحتاج إلى إنجازات كبرى. تلك لن تأتي إلا بعد أسئلة كبرى حيث الجواب غير متضمن في السؤال. السؤال مغامرة. توجبت المغامرة. ولوج المجهول ليصير معلوماً. المصير هو الصيرورة. الصيرورة تجاوز لما نحن فيه. تبدأ بالسؤال. على السؤال أن يكون كبيراً واسعاً شاملاً صعباً؛ صعبة الإجابة عليه. قبل التطلع إلى منافسة مع إيران أو تركيا، أو الإمبريالية، علينا الانتباه إلى أن بلداً صغيراً تافهاً يهزمنا، وهو إسرائيل. تنهزم إسرائيل حين لا ننهزم نحن. إسرائيل ليست هي التي تنتصر؛ نحن الذين ننهزم؛ ذلك لأننا لا نسأل الأسئلة الكبرى، لا نخوض في القضايا الصعبة المحرجة، لا نعيد التفكير في مسلماتنا، لا نكسر أصنام الفكر. ذاتنا ليست تلك التي نرث من أجدادنا (مهما كان الأمر)؛ ذاتنا هي ما نصنعه نحن؛ ذات مفكرة تسأل وتتساءل؛ عقل غير مستريح، عقل يرفض الاستكانة، عقل يرفض ما هو عزيز علينا من أفكار ومقدسات. لسنا مضطرين للاجترار؛ علينا الإبداع.
كيف ننخرط في العالم ونحن لا نخوض قضايا العالم، ولا نسأل الأسئلة الكبرى؟ كيف ننخرط في العالم ونحن صغار نخاف على هويتنا، نتمحور حول أسئلتنا الصغرى؛ هي ليست أسئلة. هي أجوبة مسبقة نصوغها بشكل تساؤلات. أحكام فقهية مستمدة من قواعد فقهية صلحت لعصر مضى وباد.
عزلة ضربناها حول أنفسنا بأسئلتنا الصغرى، بالأحرى بأجوبتنا الجزئية. علمتنا الجزئيات أن نكون صغاراً؛ ندعو الاستعمار ليعود ويحررنا.
لا ننخرط في العالم باستنباط الجزئيات (خاصة من ماضينا) بل باستقراء العالم؛ ليس من تعلّم دروس المنطق بل دروس الفلسفة والعلم الحديث. بواسطتهما ندخل العالم الحديث، نتناول القضايا الكبرى. عروبتنا بحاجة إلى قضايا العالم، إلى فهمها والانخراط فيها وتغييرها، وإلا فإن مصيرها هو الفناء. أمم كثيرة اختفت من الوجود. كبيرة الحجم صغيرة العقل. نحن محاصرون من جميع الجهات. الأهم هو الخروج من حصار أنفسنا الذاتي. حاصرنا أنفسنا بصغائر الأمور. نخال أننا نواجه الإمبريالية وإسرائيل في حين أننا نواجه أنفسنا في حروب أهلية واسعة الانتشار. أطراف الحروب الأهلية ليست لديهم قضايا كبرى أو أسئلة كبرى. يواجهون بعضهم بعضاً بواسطة أدوات فكرية أثبتت فشلها على مدى العقود الماضية. قضايا لا نفهمها، ولا نبدي الاستعداد لفهمها، هي الدولة والحداثة والانخراط في العالم وتبني ثقافة العالم. قضايا نسيء فهمها هي المقاومة والممانعة والنضال ضد النظام (هذا أو ذاك) لا نعي الثورة بمعنى هدم النظام القديم (القائم حالياً). نفهمها بمعنى جمهور محتج يسلم النظام إلى نظام جديد. نراوح مكاننا. لا تحتاج الثورة إلى برنامج. تحتاج إلى تدمير النظام القديم بما يكفي كي لا يعود النظام القديم. المشكلة ليست برنامج الثورة. هي لا تحتاج إلى برنامج. هي بركان. البرنامج قيد تضعه نخب تعوّدت على النظام القديم ولو كانت ضده. الثورة تطرح أسئلة كبرى، فيها كثير من المغامرة الفكرية على الأقل. لم يعد السندباد موجوداً بيننا، في وعينا. بحر المجهول هو الطريق الوحيد للوصول إلى بر التجاوز.
سؤال الكيف يعني التجاوز. سؤال الكيف يعني فهم العالم. نحتاج إلى فهم العالم قبل أن نغيّره. ليست العبرة في الممارسة، بل في الوعي الذي يدير الممارسة. الممارسة وحدها تبقى تجريبية. التجريبية المحضة نقيض العلم والفلسفة. في العلم والفلسفة مغامرة. السؤال هو كيف نغامر؟ السؤال واجب.
 

  • شارك الخبر