hit counter script

مقالات مختارة - جميل مطر

من وحي «غزوة باريس»

الإثنين ١٥ تشرين الثاني ٢٠١٥ - 06:49

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

الحياة

إذا كان أحد أهداف من خطط لـ «غزوة باريس» نشر الارتباك، وتعميق الأزمات في العالم الغربي وتأكيد حقيقة عجز العرب فقد نجح. لم تمر ساعات إلا وكانت آثار «الغزوة» ملموسة في كل عواصم أوروبا، وفي أميركا خصوصاً، حيث كانت الحملة الانتخابية تعيش بدايات مملة وتهدد بانصراف الرأي العام عنها. جاءت «غزوة باريس» فأشعلت اللهب في الحملة، وفي أقل من ساعة تغير الخطاب الانتخابي جذرياً مندفعاً نحو صياغات أشد تطرفاً، كما لو كان المرشحون في حاجة إلى عذر ينفثون به تشددهم ويصرحون بكراهياتهم. فجأة ظهر بين المرشحين اهتمام أوفر بالسياسة الخارجية الأميركية حتى بين من حاول على امتداد أسابيع تجنب افتضاج جهله بها. وظهر هذا الاهتمام المفاجئ واضحاً في خطابات كل من راند بول، وتيد كروز، وماركو روبيو، ودونالد ترامب، وبن كارسون، فيما كان باراك أوباما يستعد لقمة عشرينية في تركيا وقمة آسيوية - باسيفيكية في الفيليبين ينوي استخدامهما للضغط على الصين.
من ناحية أخرى وقعت «الغزوة» في وقت كانت الرئاسة الأوروبية في بروكسيل تئن تحت ضغوط أزمات عدة، وكانت التيارات اليمينية المتطرفة في كل أنحاء القارة تستعد لمواجهة مع المفوضية وحكوماتها حول قضايا السيادة الوطنية والحدود والهجرة عموماً، لكن الإسلامية خصوصاً. كانت دول شرق ووسط أوروبا متحفزة غضباً على نظام الحصص في استقبال اللاجئين وألمانيا وحزب انغيلا ميركل ينقسمان على قرار فتح أبواب الهجرة لعدد غفير من اللاجئين، وحكومة فرنسوا هولاند تستعد لانتخابات محلية مقدر لحزب الرئيس الفشل فيها. وفي العالم العربي كان الاكتئاب الشديد بادياً في كل ركن تقريباً، وكشفت عنه سلوكيات الحكام وتردي الأحوال الاقتصادية والعجز العسكري والديبلوماسي في كل المواجهات الناشبة في الإقليم. صار سقوط النظام العربي أو انفراطه موضوعاً أثيراً لدى مراكز البحث ودوائر صنع السياسة في الدول الإقليمية والغربية.
استناداً إلى تجربة سابقة مع الآثار التي نتجت من تفجير برجَي التجارة الدولية في نيويورك في أيلول (سبتمبر) 2011، ومن اجتماع ظروف أزمات معينة أحاطت بـ «غزوة باريس» ليلة 13 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، ومن هول الصدمة التي أصابت الرأي العام لأوروبي، تعددت توقعات المحللين. توقعوا أول شيء حرباً أو أكثر في الشرق الأوسط على غرار حربي أفغانستان والعراق. توقعوا أيضاً تغيرات مهمة في مسيرة الوحدة الأوروبية وتوجهات بعض دول أوروبا تجاه الخارج، خصوصاً تجاه دول المشرق. تعددت التوقعات عن مستقبل الاستقرار في العالم العربي والشرق الأوسط بصفة عامة.
تشير التحركات المبكرة من جانب فرنسا إلى أن في النية عدم انتظار أميركا والتدخل مباشرة في شؤون الشرق الأوسط بدرجة أكبر كثيراً من معدلات التدخل الراهنة. لم تكن زلة لسان استخدام الرئيس هولاند كلمة الحرب في وصفه ما حدث في مدينة باريس في تلك الليلة. كان يقصدها لأن الصدمة كانت قوية والتخطيط لها بكل المعايير نموذجي، ولكن أيضاً للمزايدة على اليمين الأوروبي المتشدد، خصوصاً بعدما أصبح موضوع اللاجئين من الشرق الأوسط، لا سيماء السوريين، الشغل الشاغل لحكومات أوروبا والرأي العام الأوروبي في فرنسا تحديداً، حيث كانت «الجبهة الوطنية» بقيادة مارين لوبان مستمرة في تصعيد لهجة الخطاب اليميني ضد المسلمين والمهاجرين.
لا يمكن التقليل من أثر الانتكاسات المتعاقبة التي أصيب بها العمل العسكري والاستخباراتي الأميركي على تضخيم وقع الصدمة على الأوروبيين خصوصاً. كان هذا العجز الأميركي والفشل في تحجيم «داعش» ووقف التوسعية الروسية والصعود العسكري الصيني قد وضع الأمن الغربي في صورة سيئة، ورفع من أسهم القوى الإرهابية في الشرق الأوسط وضاعف من قدرتها على تعطيل جهود التسوية السورية والعراقية والليبية وإبقاء جبهة شبه جزيرة سيناء مشتعلة ومتسببة في شل حركة مصر الإقليمية. استفاد الإرهاب الجهادي من أجواء الفشل المستحكم سواء على مستوى النظام الدولي، وسلبية الغرب خصوصاً، كما استفاد من هزال العمل العربي المشترك وتدهور نفوذ مواقع القيادة فيه.
تدخلت فرنسا بسرعة في مظاهرة عسكرية سياسية فوق مدينة الرقة. ويغلب الظن بأنها لم تحقق مكاسب كبيرة باعتبار أنها لم تكن مفاجئة وأن العدو كان يتوقعها. بدا التدخل الفرنسي في مراحله الأولى غير مختلف كثيراً عن تدخل الأردن الوحيد انتقاماً لأسر وقتل طيار أردني وتدخل تركيا، ولعله لم يتكرر، انتقاماً من دور «داعش» في مقتل عدد من المتظاهرين الأتراك.
قد تقرر فرنسا استمرار التدخل العسكري جوياً، لكن يغلب الظن بأنها لن تواصل العمل ضد «داعش» منفردة، أي من دون تدخل أوسع من جانب قوى أوروبية أخرى. هنا أيضاً يغلب الظن على أن المشاركة الأوروبية الأوسع كما تتمناها فرنسا لن تحدث. لم تحدث من قبل، فضلاً عن أن معظم العواصم الأوروبية لا ترتاح إلى النيات الفرنسية الحقيقية وراء طلب دخول الاتحاد الأوروبي طرفاً في الحرب دفاعاً عن فرنسا أو مسانداً لها.
فرنسا، مثل غيرها من دول غرب أوروبا، ستجد نفسها مجبرة على تركيز الاهتمام على فجوتين اتسعتا في أعقاب «غزوة باريس»، هناك الفجوة الخطيرة التي تهدد الوحدة الوطنية الفرنسية، خصوصاً مع احتمال فوز «الجبهة الوطنية» اليمينية المتطرفة، أو على الأقل مع احتمال أن تفلح دعاية هذه الجبهة في سحب الرأي العام الفرنسي يميناً باتجاه كراهية أكبر للإسلام والجاليات المسلمة. سمعت من يصف هذه الحال السائدة ضد الأجانب، خصوصاً المسلمين، بظاهرة خوف الغالبية المهددة في استمرارها ومكانتها، حين يتصرف أهل الغالبية كما يتصرف أهل الأقلية الخائفين على وجودهم يحدث هذا، وفي شكل وأسباب مختلفة، في سورية والعراق ودول عربية أخرى.
ستجد ذاتها أيضاً مجبرة على تركيز اهتمامها بالفجوة المتزايدة الاتساع بين من يطالبون باستعادة السيادة الكاملة على حدود الدولة الوطنية وبعض هؤلاء يدعون إلى التخلي نهائياً عن اتفاقية شنغن التي تجسد خطوة أساسية نحو هدف إلغاء الحدود السياسية بين أعضاء الاتحاد الأوروبي، وبين من يطالبون بالاهتمام بالحدود الخارجية لأوروبا، إذ إنه عبر هذه الحدود يأتي الخطر الداهم على سلامة الفكرة الأوروبية، خطر يجسده الزحف المتصاعد من جانب اللاجئين والمهاجرين المسلمين.
هذه الفجوة الثانية إنما تعني في حقيقة الأمر عودة النقاش في أوروبا إلى نقطة الصفر، أي «تكون أوروبا أو لا تكون». وقد تصادف في السنوات الماضية أن عاد هذا النقاش خلال أزمتي اليورو واليونان، ويعود الآن مجدداً مع إصرار المملكة المتحدة على إدخال تعديلات جذرية على فكرة الوحدة الأوروبية ومؤسساتها.
«غزوة باريس» أثارت مجدداً النقاش حول الفكرة الأوروبية، ليس فقط لأنها أكدت خطورة الفجوتين وتوسعهما المطرد، لكن أيضاً لأن «الغزوة» جرى التخطيط لها من خارج الحدود، واستفاد تنفيذها من ثغرة اللاجئين، واعتمدت على تعاون متواطئين في البلقان وفي بلجيكا. بمعنى آخر كانت «الغزوة» تجسد أزمة فجوتي الحدود الداخلية والخارجية أصدق تمثيل. شاءت الظروف أن يقع التغيير في خطط الإرهاب وأشكاله وأساليبه مع الزحف الهائل للاجئين من الشرق الأوسط ووسط آسيا. هذا التلازم أضاف تعقيدات عدة إلى أي خطط عسكرية أو سياسية قد يزمع الفرنسيون أو الأوروبيون بوجه عام تنفيذها ضد «داعش» أو غيره، وفي الوقت ذاته يفرض قواعد عمل جديدة في العلاقات بين الدول المتصلة مباشرة بقضية «داعش» والدول الأخرى.
يكاد يكون في حكم المؤكد أن تركيا تستعد لدور جديد يفرضه فوز حزب «العدالة والتنمية» في الانتخابات، لكن تفرضه في شكل أوقع وأعمق حاجة أوروبا الماسة إلى تركيا كحارس للمداخل الشرقية لأوروبا. هذه الحاجة تفرض من ناحيتها على تركيا رؤية جديدة لدورها في الإقليم العربى، وبالتالي علاقة جديدة مع الطرفين الإقليميين الآخرين وهما إيران وإسرائيل. المتوقع في الوقت ذاته أن يستمر تضاؤل دور وفاعلية العمل العربي، متمثلاً في جهود دول بذاتها أو في جهود مؤسسات النظام العربي. ليس خافياً أن الدول العربية كلها تشعر أكثر من أي وقت مضى بتعدد مصادر التهديد الداخلية والخارجية، وهي في كل الأحوال غير قادرة أو مستعدة لاتخاذ قرارات مستقلة بالدفاع عن ذاتها وعن الإقليم. لعل هذا الشعور بالعجز السائد في كل المجتمعات العربية السبب وراء انتشار أفكار المؤامرات الدولية والعودة إلى أوهام الوحش الماسوني المتربص بالأمة العربية والشعوب الإسلامية.
يبقى واضحاً أنه صار لروسيا دور مهم وكبير تقوم به في الشرق الأوسط وفي وسط آسيا، وربما في شرق أوروبا. البدايات ظاهرة للعيان في شكل خلافات مع دول غربية ولكن أيضاً في شكل تفاهمات معها، ومع دول في الإقليم العربي، وفي شكل مصالح مشتركة مع تركيا وإيران وإسرائيل. صحيح أن بذور هذه النزاعات والتفاهمات والمصالح موجودة منذ شهور عدة، لكن من الواجب الاعتراف بأن «غزوة باريس» أوجدت أوضاعاً جديدة وفرصاً كثيرة.
تندم فرنسا إذا اعتمدت على أمل بأن تنهض أوروبا وتنتفض وتنشئ جيشاً موحداً يحارب الإرهاب. لا ننسى أن قادة العالم سبق أن وعدوا فرنسا بالانتقام لحرية التعبير، أحد مقدسات القيم الغربية، في مطلع العام في أعقاب الهجوم الإرهابي على مجلة «شارلي إبدو». وعدوا ولم ينفذوا. تندم أيضاً لو خططت على أساس أن يتوحد العرب في مشروع أمن قومي عربي. من خلال مؤسساته وقياداته الراهنة، يتساءل العالم: هل حقاً محاربة الإرهاب نية عربية خالصة؟ أتساءل، من ناحيتي، هل نية أميركا وبقية دول الغرب في محاربة الإرهاب أيضاً خالصة؟
 

  • شارك الخبر