hit counter script

لماذا يهاجر أولاد طرابلس في قوارب الموت؟

الثلاثاء ١٥ تشرين الثاني ٢٠١٥ - 13:44

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

تحيل اليوميات الموقوفة في طرابلس الحياة انزواء. هذا الواقع وان ارتبط بشكل وثيق بعوامل سابقة وآنية، وبعضها ثابت منذ محاولة المدينة عدم الالتحاق بلبنان الكبير، فإنه اليوم صورة عن أهل المدن المأسورة.
سكان طرابلس لم يعودوا مبتهجين بشيء. فبعد انتهاء معارك التبانة - جبل محسن، وذيول الخلايا "المكشوفة" أمنياً عبر خطتين أمنيتين اطاحتا عملياً اقتصاد ما يسمى "الاسواق الداخلية"، أمسى العيش الطرابلسي أكثر تذرراً. وعلى نقيض ما تكرره جمعيات المجتمع المدني من ان "طرابلس تحب الحياة"، فاليأس وحش فاغر الفم يحكم مفاصل الفيحاء الكامدة.
الطرابلسيون لا يعدّون أنفسهم في حيّزهم الا سكاناً فيه. تنحو حيواتهم الجمعية والفردية الى هشاشة تدلنا اليها ظواهر فجة. ليس آخرها محاولة شباب الاحياء المنسية النجاة عبر قوارب مطاطية في عرض البحر. متشبّهين بهجرة اللاجئين السوريين. وليس جديداً قيام شباب من طرابلس بهذه الرحلات، لكن الظاهرة أمست تتمادى في تأثيرها العلني والمتفرع. فحلم اي شاب اليوم الخطو نحو رحلة مجهولة، لا تضمنها "مافيات" لبنانية - سورية - فلسطينية - تركية، همها تحصيل المال على حساب ارواح الآلاف من الطامحين بـ"جنة أوروبا".
ووفق ناشطين وصل عدد المهاجرين الطرابلسيين الى ما يقارب الأربعة آلاف شخص في اقل من شهرين. ويدفع كل واحد منهم مبلغاً يتعدى الألفي دولار. يشترون هويات سورية او يزورون بعضها مقابل 500 دولار لكل وثيقة.
وعلى بعد بضعة كيلومترات من انطلاق قارب مطاطي في بحر ايجه، شعر محمد نجارين، ابن محلة باب الرمل لأول مرة أنه حر، هذا ما يقوله الشاب لـ"النهار". وعلى الرغم من الخوف الذي اختلج في قلبه، نظر الى البحر الهائج كأنه الخلاص، وهو يبتسم لرفاقه في شريط فيديو قصير أرسله الى أمه الستينية عبر تطبيق "واتس أب".
بقي الشاب العشريني محتاراً في قراره. أقنعه ابن خالته الذي وصل قبله الى اليونان برفقة سوريين وفلسطينيين من مخيمي عين الحلوة والبداوي بالهرب. دلّه على مهربين يثق بهم، فأولاد الميناء وسكان مخيم البارد لديهم باع طويل في تاريخ هذه الهجرة المسكوت عنها، سيما انهم صيادون ومالكو قوارب، ولديهم علاقات مع خفر الحدود.
يقول إنه بقي لأيام في أرق. اقتناعه ترسخ بعدما وجد نفسه غير قادر على دفع حياته الى الامام، "كنت اعيش في سجن، طرابلس مقبرة واسعة". ويضيف بألم: "وبيروت لم تعد لنا". كلام الشاب تعبير صريح عن شعور بالغبن. شعور لما يعرف، في اوساط الطرابلسيين بالغبن السني تجاه "هيمنة شيعية"، وهو ما جاء بعد شعور بالمظلومية كان يحسه آباؤهم في زمن المارونية السياسية.
ويترافق شعور محمد، الذي عبر عنه بلغة عامية وهشة، مع استبعاد طرابلس من أولويات الدولة والتنمية التي حصرت بجبل لبنان وطريق بيروت - دمشق. فبيروت لم تعد تغوي ابناء العاصمة الثانية، خصوصاً بعد "الخيبة الحريرية"، التي اصابت صفوف سنّة طرابلس وبعد يوم 7 أيار "غير المجيد".
يروي محمد، الذي غادر عبر مرفأ الميناء برفقة صديقين له من محلة القبة عن حياته السابقة، واصفاً "جحيم البطالة" الذي عاش فيه. "كنت اشتهي حياة افضل، مثل كل اولاد الناس، يسهرون ويقدرون على الخطوبة والزواج. لكن في حالتي لم يكن معي سوى بضعة ألوف لا تسعفني على شراء علبة دخان وفناجين قهوة مصبات".
شارك محمد، الذي يطيل شعره أسوة بصحابة الرسول، على ما يقول، في جولتي عنف في التبانة، "كنت اساعد الشباب فقط". عمل مدة عام رجل أمن في بيروت. "كان هذا قبل الـ2008. صرت لا اتجرأ على الذهاب والعمل بسبب شبيحة حركة أمل وحزب الله لأني سنّي. ولا فرص لي حين يعرفون اني طرابلسي. وكأن طرابلس لعنة. اصلا نحن لا نريد بيروت، المدينة لو اهتم بها آل كرامي والصفدي وميقاتي والحريري لكانت ست ستها لبيروت".
هذه النظرة لبيروت، ليست وليدة صدفة. فهي بفعل التغير الجيو - بوليتيكي، بعد مرحلة الانتداب وبفعل ما فرضه نظام الوصاية السورية من عزلة. أمست بيروت منبوذة أكثر بالنسبة لطرابلس. سيما ان علاقة الأخيرة بالدولة حذرة وفيها كثير من التملص. فلم يكن ناسها يوماً يهضمون فكرة تهميش كتلهم الديموغرافية، الا في الانتفاض على الدولة نفسها ومحاولتهم بشكل مبتور انشاء حالتهم ولو على شاكلة مشيخات باب التبانة وانتفاضة الرغيف التي اطلقها علي عكاوي بعد تأسيسه فصيل "الثائرون الخمسة" ومن ثم "منظمة الغضب". وأخيراً، ما بعد فتح الاسلام وعصبة الانصار، ما عرف بـ"مجموعات الاسواق"، التي وان لم تنضو رسمياً في كتل قتالية مناصرة لجبهة النصرة وتنظيم "داعش"، الا انها كانت ولا تزال تذهب في نزهات الجهاد الى حمص والقصير وقلعة الحصن، وهو ما يؤكد دوماً في السياسة ان طرابلس حديقة خلفية لأزمة سوريا.
وهذا الانطواء الطرابلسي عن بيروت طبيعي، ليس فيه حقد، انما فيه عتب وبعض تميز يضفيه اهلها على أنفسهم. لكن معايير اليأس تفاقمت، وفاقمت معها هذه الانطوائية التي تضمر رد فعل على تهميش مكونات المدينة. واعتبار بيروت عاصمة أولى شجع على حركة هجرة كثيفة وقديمة، خصوصاً بين ابناء الطبقة الميسورة ونخبتها المتعلمة، التي وجدت في تحصيلها العلمي منفذاً الى اوروبا والاميركتين، وحيث كان الآباء يملكون مصالحهم الخاصة قبل ان تنزوي القدرة الاقتصادية للمدينة بعد انقطاع علاقتها التجارية مع الداخل السوري.
فأثرياء طرابلس في اغتراب ساهمت مركزية الدولة بابقائهم فيه. فحلم الاغتراب كان رداً قاسياً على التهميش الذي عانوا منه. والوضع الحالي ليس استثنائياً، بمعنى ان دوافع الهجرة قديمة. والواقع ان اساليبها اختلفت ولأسباب عدة:
اولاً، الهجرة التقليدية أصبحت مغلقة واولويات العالم أصبحت مختلفة، على خلفية ما يجري في زمن المذبحة السورية.
ثانياً، إن مستوى التعليم في لبنان، وبخاصة في الشمال، إلى تدن متزايد، واصبح عاجزا عن انتاج نخب قادرة على الهجرة للعمل بشكل شرعي.
ثالثاً، تركيبة المدينة تغيرت. بمعنى انها خلال سنوات الحرب وما بعدها حضنت المنتقلين إليها من الضنية ومن عكار والمنية، بالتوازي مع حركة خروج المسيحيين منها (سكان بشري والكورة وزغرتا ايضاً)، لكن المنتقلين إليها ينتقلون بأحلام تعجز طرابلس عن استيعابها. وانتماؤهم إليها، وإلى الوطن أصلاً قليل الروابط بسبب الحرمان، وهم افقر من ان يحصلوا على تعليم في بيروت، فالحل الوحيد المتبقي، في ظل سقوط أحلام الانتصار "السني - الحريري"، واتساع رقعة الحرب السورية، وفجاعة مشاهد الهجرة الجماعية، والانهيار الاقتصادي المحلي، هو قوارب الهجرة. يقول محمد انه ليس خائفاً من أي مصير مقبل، "ماذا سيكون الاسوأ؟ الموت؟. نحنا هيك هيك ميتين". لم يعد لهذا الجيل اية احلام حتى لو كانت سراباً الا الهرب. فليس هناك ما يثيره او يشجعه، او حتى يجعله يعيش الاكاذيب والامجاد التي انهكت الرعيل الأول من الآباء. ففي انضمام الجيل السابق الى حركات اليسار، والمضي بشعارات القومية الحالمة، وتأسيسهم "دولة المطلوبين"، لم يعد أمام هذا الجيل الخائب، المرمي في مصائر مجهولة، الا أن يخوض معركة أخيرة أمام البؤس والشقاء اليومي.
زاهر عبدو، وهو شاب من محلة القبة، وصل الى اليونان، وينتظر اتمام اوراقه على أنه لاجىء سوري، بعد ان زوّر بطاقة هوية، يأمل بحياة أفضل في اوروبا، "سأتوجه الى المانيا، لدي اقارب هناك يعملون في مصنع نجارة وانا صاحب مصلحة، يمكن ان اعمل بأجر جيد لاحقاً. سأتعلم الالمانية وسأبدأ حياة مستقرة ولن اعود الى لبنان".
تدرك النخبة الشمالية ان المدينة تفتقد شبابها، ان كان في رحلات الجهاد و"نزهاتها" في سوريا والعراق، وقبلها في افغانستان والشيشان، وان كان عبر الهجرة غير الشرعية ولو ببعدها الدرامي حالياً. فما كان مرسوماً في الأفق من أحلام وتطلعات حول هوية طرابلس وقدراتها امسى هباء أشبه ما يكون وقوفاً على الأطلال. يقول زاهر، انه لا يريد أن يكرر خيبات والده، الذي قاتل مع التوحيد ولم يظفر سوى بيد مبتورة، "من اجل من سأقاتل هنا؟ الحرب السورية مستمرة، لن ننجو منها. ستندلع في طرابلس، وسيحكمها اسلاميون متشددون". يخمن الشاب أن لا مستقبل له في مدينة مفتوحة على احتمالات سوداء.
يعبر زاهر الى اوروبا بحمولة ثقيلة لأرث من خيبات آباء عاشوا انتكاسات جمّة، توارثها هؤلاء كأنها خيوط حيواتهم ونتاجها الحتمي. فإرث ابو عربي عكاوي وخسارات مشيخات باب التبانة وانخماد اي' حركة يسارية في المدينة في الثمانينات، اسست لبؤس اجتماعي فيسعى اي شاب الى منقذ، حتى لو كان حضن البحر.

(صهيب أيوب - النهار، 10/11/2015، ص12)

(http://newspaper.annahar.com/article/282557-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%8A%D9%87%D8%A7%D8%AC%D8%B1-%D8%A3%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AF-%D8%B7%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D9%84%D8%B3-%D9%81%D9%8A-%D9%82%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%AA)
 

  • شارك الخبر